مجلة الرسالة/العدد 562/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 562/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1944



الأدب يعرض التاريخ

عمرو بن العاص

للسيدة وداد سكاكيني

كان لي عجب أن رأيت الأستاذ عباس محمود العقاد، على غير ما خيل إلي ونعت، فلما لقيته تهيبت جانبه وتحيرت في تحيته فوجدتني أدير على لساني كلاماً أستل به ملامة وقرت في نفسه يوم دفعت عن المرأة ما شاء الأستاذ الجليل أن يصمها به من الفثاثة في الفن والضآلة في العبقريات، وقد كنت في سوالف الخيال أحسبه قد بسط على منكبيه من أدبه المتين بردين من العنجهية والخيلاء؛ ولكن حين أتيت مصر سألت عنه من يعرفه فوصف لي بغير ما حسبت، ولما سمعته صغر الخبر الخبر

رجل حبار القامة، رفيع الهامة، وديع الطلعة، يفيض حديثه من علم عقله وشعور قلبه ووحي ضميره، ويمد ببصره إلى أغوار الكلام فيتناول لآلئ المعاني، ويجول في آفاق الفكر تجوال الأديب المكين. قلت له لا تتريث على أن يكون أول ما أرى من مآثر مصر أدبها الحي ووثبتها المرموقة في نوابغها وقادة الفكر فيها، ونحن وإن اختلفنا في الرأي والمقالة؛ فإننا نرجع إلى الحرية. فتبسم عن رضى وتألقت فيه نفس الأديب الكريم

وسرعان ما عكفت بعد لقياه على كتابه الجديد (عمرو بن العاص) فقرأته بإعجاب نسيت فيه ما كنت أحسه من كآبة الاغتراب في نفسي، وألفيتني أستمع للتاريخ وأتدبر الأحداث، فإذا أنا بين دفتي كتاب على نسق العبقريات، وسمه ناشروه بأعلام الإسلام، فكان فاتحة لجهدهم المحمود. جلا فيه العقاد عمراً في شخص فذ عظيم من شخوص العرب الذي صمدوا للدهر

وتركوا في الدنيا دوياً، فقرب المؤلف بلباقته وبراعته ما تناءى من التاريخ على القارئين. ومن للناس في كل حين بالطبري والدميري والطبقات والسير وكتب التراجم والأخبار، فهم إن عركوا أوراقها ومزقوا جلودها من طول البحث فيها والتنقير ما حصلوا منها على طائل ولا نالوا من نائل، حتى كانت منالة الأدب الحديث، فأورد القراء بكرام الكاتبين موارد السهولة في التاريخ والسير، إذ سكبوا بيانهم على الحادثات الغوابر، فردوها نواضر وبعثوا أمجادها للأجيال لتكون لهم فيها أسوة ومنفعة

وكذلك فعل العقاد في كتابه الجديد، فارتديت رداء امرأة من نساء العرب وخلطت نفسي بنسوة من قريش يعجبن بصنع عمرو وخليقته، ويرين إلى أبيه العاص بن وائل وهو في الذروة من بني سهم فيشفقن مما يخوض به الرجال من ملامز عمرو بن العاص وضعة نسبه لأمه السبية، وأنها كانت كبرى المغنيات في مكة وآخذهن لأجرة. فقلت لله هؤلاء العرب الأشداء الذين عبدوا أنسابهم فتنافسوا فيها وناشدوا بها الرجال والنساء، وأرادوها في الخيل والسيوف! ثم رأيت عمراً وقد أفضت مضجعه هذه الفرحة الدامية، وأنداده في صحة منها وعافية، صليبتهم نقية وحسبهم معروف، فكانت مغامز الحساد لابن العاص حوافز مرهفة لتعاليه ونشدانه البسطة في الوجاهة والثروة. وقد أعدته المواهب والشمائل لبلوغ ما صبا إليه في زهو الشباب، وكان يرى بلحظ الغيب نصيباً من المجد والسلطان أدركه في عنفوان الرجولة وفي عهد الفتح المبين

لقد عرض الأستاذ العقاد عمراً في معاريض الدهاء المبكر؛ إذ كان يحل خلافاً قد استحكم بين طلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام. وإذا بالإسلام يظل العرب فيندبه الرسول عليه السلام ليحكم بين جماعة من قومه يهددون المسلمين فيكسر ابن العاص شوكة الظالم ويفل جمع الباغين بدهائه وفطنته، فتتطامن له الشجاعة والحيلة، ويزكو ذكاءه مع الأيام القابلة وهو ما يزال يحس بين جنبيه هذه الشوكة الناخزة في نسبه لأمه التي يجهر بخبرها الناس إذا خلا بعضهم إلى بعض، ويسرونها كلما رأوه فيزداد طموحه وتغريه وثبات هذا الطموح بالتماس الأسباب للغلاب بالأمارة والرئاسة على من يفاخرونه بشرف الأمومة

ويموت أبو عمرو، وكان من سراة السهميين، فأخو عمرو يرث أباه ويكون ذا مال، وعمر مقل فقير، فأين ماله من أبيه؟ هاهنا يقلب الأستاذ العقاد وجوه الرأي ومدار البحث حول هذه المسألة، فيرينا عمراً وقد بقى محافظاً على رضى أبيه. ولم يسلم حتى مات أبوه الذي رغب عن الإسلام، وأنه لا يبعد أن يكون عمرو قد أصاب شيئاً من الميراث فأنفق منه ما أنفق بعد يأسه من تجارة الحبشة والشام، ولم يبقى له عند ولايته على مصر إلا اليسير. على أني أجد تعليلاً لفقر عمرو سهلاً هيناً، أفلم تقل أمه: انظروا من يشبه فألحقوه به.

وكان عمرو في صغره يرعى غنما لأبيه، ثم صار جزاراً. وما ظنك بشيخ من أقوام العرب كالعاص بن وائل أبي عمرو يبلغه هذا المطعن في نسب ولد يعزى إليه ولم يكن للعرب يومئذ حكومة يدفعون بها عن أنفسهم ما لحقهم من سوء الأنساب بأولاد يعزون إليهم كرهاً، وكيف حاول أبو سفيان إخفاء نسب ابنه زياد، فلا يبعد أن يلجأ العاص بن وائل إلى حرمان عمرو من ماله وهو عنده شيء مادي مقدر ومقوم بالدينار والدرهم. وكان من خصال بني سهم المطال في الدين وكم كانوا له يلوون! ولعله قال يكفى عمراً أن ينتمي ويدعي إلى العاص

ولا جرم أن مثل هذا الخاطر مر ببال الأستاذ العقاد، ولكن ما كشفت عنه نصوص الرواية. وكان جهده في حقائق التاريخ أسد الآراء وأبلغ الحجج، فإذا علل الأستاذ المؤلف سر طموح ابن العاص وتعاليه بفقدان نسبه الطيب لأمه، فما أحرى التعليل بميله للمال وتكالبه عليه لحرمانه الميراث

أما نفس ابن العاص فقد حلل العقاد تفاريقها وألوانها من وجهات عدة؛ فآونة عرضها في نفس متهالك على الثراء، وجاء بالبرهان على ذلك في أقوال عمرو وأفعاله منذ عهد الرسول إلى وفاته بمصر بعد فتحها الثاني. وآونة يشرح بديهته ودرايته واضطلاعه بالحكم والولاية، وظفره بالثقة والخبرة اللتين مكنتاه من الفتح والنضال، فهو في حضرة البطريق ينجو من مكيدة، وهو في مبارزته للإمام عليّ ينجو بالحيلة والدهاء

وهذا عمرو كهلاً يدلف إلى أعز العمر بأساً وحصافة، فهو فاتح فلسطين ثم فاتح مصر مرتين. وهذا عمرو شيخاً منهوماً يتلهف شوقاً إلى المال وله ضيعة وحشم، ويكون من همه بعد أن عزت عليه الخلافة أن تكون له مصر ولاية جامعة، فينال ما يبتغى ويموت فيها ويدفن في ثراها

قلت ما أحسن كتباً يطرف بها الناس أديب الكنانة الأستاذ العقاد، فهو بعد أن طوف طويلاً في آفاق فنه بالأدب الصرف، تلفت صوب الماضي الأغر واتصل بمآثره الخالدة، فعاد منها بما غاب عن القارئين وزودهم بعبقريات وهاجة في تاريخ الإسلام تضيء في محمد بن عبد الله وصحبه وأبطاله، وهذا لعمري أجل فضل يؤديه الأديب للسيرة والتاريخ.

وما انتهيت من كتاب العقاد (عمرو بن العاص) حتى قلت: يا لله لمصر الخيرة، ويا لمجد العرب فيها! لقد ملكوها ردحاً من زمان في عهد الفراعنة، وكانوا رعاة إبل وغنم يسمون (الهيكسوس)؛ وفتحوها في عهد الإسلام، وهم أهل دين وحضر، وكانوا يسمون صحابة رسول الله!

(القاهرة)

وداد سكاكيني