مجلة الرسالة/العدد 562/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 562/البريد الأدبي
5 - الشعر الجديد
وضعنا أمام القارئ في كلمتنا السابقة وصفاً إجمالياً لمنظومة من (الشعر الجديد) حاولنا أن نكشف به عن الطابع العام لهذا الشعر. فإذا هو - كما يمكن أن يتخيل القارئ - مجموعة من التفكك والاضطراب، والبرقشة والأغراب. ولولا خشية الإملال لوصفنا غيرها وغيرها، فلدينا من هذا الشعر أكداس. وقد وعدنا أن نزيد في هذا الكشف في أثناء حديثنا كلما عنت مناسبة. ونجد الآن الفرصة سانحة للإشارة إلى مظهر آخر من مظاهره البارزة: ذلك هو الإسراف في بث المجاز والاستعارة في تضاعيفه، وتحميل الكلام منهما أحمالاً ثقيلة، والغلو في ذلك غلوا شديداً. ولا تحسبن أن هذا عن بصر بهما، أو علم بأصولهما، أو إحاطة بأساليبهما، فذاك مطلب جد عسير عليهم؛ فقد أزحنا بعض الستار عن ماهيتهم، وأبنا شيئاً من طرائق تزييفهم، ووسائل تمويههم. وإنما الذي يصنعون صور منهما افتعلت افتعالاً، وصيغت على أمثلة صاخبة متراكبة، وصبت في قوالب غثة، مما نراه في الأدب الرخيص الشائع الآن بين العامة وأشباه العامة
ويضطرني هذا المقام أن أقول - والأسف يملأ نفسي - إن بلية هذا (الأدب) ليست مقصورة على هؤلاء الشعراء وغيرهم من صغار الكتاب، بل تجاوزتهم إلى الطلاب ممن لم يزايلوا بعد مقاعد الدراسة الثانوية. فعملت فيهم عمل السوس، وأفسدت من سلائقهم، وشلت من ملكاتهم، ولوثت من نفوسهم.
وطالما جهرت - بقلمي وبلساني - بأن هذا الضعف الملحوظ في منشآت الطلبة الآن إنما مبعثه قلة ما يقرءون من مستجاد الكلام وشريف الأفكار، ثم ذيوع هذا (الأدب) بينهم، وتهافتهم عليه؛ لما به من مغريات الشباب وعوامل استمالته ومخادعته. (والفتى آلف لما يستعيد). فضع ما شئت من مادة بين يدي الحدث، وخذه بها، وأدمه عليها، يطبع عليها لا محالة.
ولقد كنت أرى ممن خالطتهم من الإنجليز في بلادهم، أن الوالدين يحرصان كل الحرص على انتقاء ما يطالعه الأبناء في أوقات فراغهم، ويحولان بينهم وبين ما يمس أخلاقهم، أو يضعف لغتهم، ويبذلان في ذلك أعظم الجه فللولد هناك مكتبة، وللبنت مكتبتها، حافلة بما يقوي العقل، ويقوم الخلق، ويغذي اللسان
والنشء من أبنائنا محرومون كل هذا، مهملون إهمالاً يكاد يكون شاملاً. وقد انصرف أدباؤنا وشعراؤنا عنهم، وأمعنوا في نسيانهم، وكتبوا وألفوا للكبار وحدهم؛ اللهم إلا محاولات لا تنقع علة، ولا تبل صدى
أعود - وقد استطردت مرغماً - إلى ما كنت بسبيله من الكلام في المجاز والاستعارة، فأقول: إن الأساليب العربية النقية قد اقتصدت فيهما اقتصاداً، فلا تلجأ إليهما، ولا إلى التشبيه أو غيره من طرق البلاغة إلا لغرض حافز، لا للزينة وحدها أو التهويل. يستبين ذلك في كلام الأبيناء من أئمة الترسل قديماً وحديثاً، لا الذين احتفلوا بالتنميق والتزويق، وتعملوا وتكلفوا، وجعلوا الكلام بضاعة تزخرف كما تزخرف السلع المعروضة للأنظار
وهذا كتاب الله، وهو في الذروة من البيان، لا ترى فيه - إذا تجوز - إلا السهل الممتنع الذي حيكت مادته من المألوف السائغ، والبسيط المستعذب
وللعربية مناهجها في التعبير، وروحها في التصوير، ومهايعها في التفكير. ويفهم عنها هذا من تمرس بها وكابدها وتوفر عليها - ولها فوق ذلك - مرانتها ولينها وسلاستها
فعبروا - في هذا النطاق - عما تدعون من غريب مبتكراتكم، وبديع تجديداتكم، ثم دعونا نفهم عنكم، إن استطعتم
ولقد كنت عمدت إلى طائفة من هذا (الشعر) فنثرت ما أمكنني أن ألم شعثه منها، بعد جهد وعناء، فحصل لدي صفحات كنت أبغي عرضها في كلمة من كلماتي ابتغاء التمثيل
فلما عدت إليها بعد ذلك ألفيتها تمثيلاً غير صادق لمذهبهم؛ إذا أن ألفاظهم وحدها هي - في الحقيقة - التي تكشف عما أوضحت من خصائصهم. ومتى بدت الألفاظ، تكشفت عنها الأشخاص. وقد آثرنا - كما قلنا من قبل - أن نكون عن هذا بمنأى
حاشية:
بعد أن فرغت من مقالي هذا، جاءتني الرسالة (عدد 561) وفيها كلمة موجزة للكاتب الفاضل الأستاذ دريني خشبة، ينقد بها آرائي في (الشعر الجديد)، وسأجيب عنها إن شاء الله
(للحديث بقية) (ا. ع)
حول شعراء الشباب
الأستاذ (دريني خشبة) رائد لهذا الجيل، في جميع فنون الأدب بلا استثناء، ومن ذلك فن الشعر بلا مراء!
وهو يحمل المشعل لشعراء الشباب؛ فآناً يجندهم تجنيداً للتمثيلية الشعرية، وآناً ينافح عنهم منافحة الراعي الذي يشملهم بالعطف والحماية، إذا عنّ لأحد من الشيوخ أن يهاجمهم، كالأستاذ (ا. ع)
ولأن الأستاذ رائد من رواد الجيل، ولأنه راع للشباب بوجه خاص، فإن عطفه يتسع ويتسع حتى ليشمل الكثيرين، فيسلكهم في عداد الشعراء
والحمد لله والمنة على أنني كنت في مرتين أو أكثر ممن وسعهم عطف الأستاذ الذي وسع كل شيء. . . حتى لقد وسع شعراء بحكم الوظيفة، وشعراء بحكم الأقدمية، وشعراء بحكم النظم، وشعراء بحكم محاولة النظم، وشعراء بحكم برقشة النظم؛ وسلك هذه الكثرة الكثيرة مع تلك القلة القليلة التي تستحق لقب الشعراء. وهذا عطف سابغ ولا شك. ولكن ما رأي الأستاذ المفضال، لو رجوته في ألا يشملني بعطفه الوسيع؟ ولو أنهيت إليه كذلك أن بعض من حشدهم في كلمته يرجونه مثل هذا الرجاء في خاصة أنفسهم. . . مع خالص الشكر، وموفور التحية
سيد قطب
فلم رصاصة في (القلب)
طغى على الأفلام المصرية - وهي في طور النشأة - نوع من الفن الغليظ يعمد إلى استدرار الدموع بتلفيق الحوادث المروعة، وافتعال المواقف المثيرة، أو إلى إثارة الضحك بالحركات المبتذلة والنكات المكشوفة. وكان هذا الأسى العنيف، أو هذا اللهو السخيف، طبيعياً أول الأمر لعجز الكتاب والممثلين والمخرجين عن إدراك الفن الصحيح، فكانوا يتوخون التأثير من جوانبه السهلة وطرقه القريبة، كتمثيل ما يؤثر بطبيعته من نكبات الفاقة والبؤس والمرض والموت، أو تصوير ما يضحك بذاته من شخصيات الحشاشين والفلاحين و (البرابرة)، وكل ذلك في إخراج ينسجم في قبحه واضطرابه مع سخف الرواية وضعف التمثيل
أما فلم (رصاصة في القلب) لواضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وممثله الأستاذ محمد عبد الوهاب، ومخرجه الأستاذ محمد كريم، فشيء آخر يختلف في لهوه وجوه وفنه. هو قطعة من المرح الرقيق الرفيق العذب، فيه الفكاهة وليس فيه الإسفاف، وفيه النشوة وليس فيه العربدة. رواية طريفة الموضوع فنية الوضع مطردة الحوادث هادئة السياق؛ وتمثيل طبيعي الحركات منسجم الأشخاص بارع المواقف؛ وإخراج قام على فهم روح المؤلف وإدراك طبائع الممثلين، فرتب المشاهد، وحرك الأشخاص، وسلسل العمل، على نظام عجيب من الفن جعل كل شخص وكل شيء في هذا الفلم قائماً بعمله المطلوب، وموضوعاً في موضعه الحق
ولعل أعجب ما في هذا الفلم أن عبد الوهاب الممثل كاد يطغى على عبد الوهاب الموسيقار! فقد كان الجمهور مفتوناً برشاقة حركاته وعذوبة كلماته وصدق تمثيله، حتى كان انتظاره للقطع الغنائية على روعتها وجمالها في هذا الفلم أقل منه في الأفلام السابقة. وربما كان مرجع ذلك أيضاً إلى أن روح الفنان التمثيلية غلبت على روحه الموسيقية، فمذهبه الحديث في التلحين يغلب فيه تمثيل العواطف والمواقف بالنغم المعبر، دون أن يكون للقرار تلك النغمة الخاصة التي كانت تشق الحناجر بالهتاف وتدمي الأكف بالتصفيق.
وجملة القول أن (رصاصة في القلب) فصل جديد في تاريخ النهضة السينمائية المصرية يسمح للذين قاموا على إنتاجه وإخراجه أن يضعوه يوم المنافسة بجانب الأفلام الأمريكية من غير تهيب ولا تردد.