مجلة الرسالة/العدد 547/كتب وشخصيات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 547/كتب وشخصيات

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 12 - 1943



للأستاذ سيد قطب

1 - على هامش السيرة. . . . . . لطه حسين

2 - إبراهيم الثاني. . . . . . للمازني

3 - زهرة العمر. . . . . . لتوفيق الحكيم

4 الصديقة بنت الصديق. . . للعقاد

مدرسة طه حسين وفنه

للدكتور طه حسين مدرسة - على معنى من المعاني - له فيها تلاميذ كثيرون، كلهم يحاول أن يتأثره ويتشبث بخصائصه وينسج فيها على منواله، ولكن وأحداً منهم لم يحقق هذه الخصائص على الوجه المطلوب. ومن بين هؤلاء التلاميذ من يبذل جهداً مضنياً يثير الإشفاق في أن يصبح نسخة أخرى من طه حسين، فتكون قصاراه أن يخرج نسخة (مشلفطة) كالصورة التي تنطبع على ورق (النشاف)!

وأوضح مثال لهذه المحاولة الأستاذ شوقي ضيف، وبخاصة في كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) الذي نال به الدكتوراه أخيراً من كلية الآداب، ونال عليه فوق الدكتوراه شكر الجامعة أيضاً!

ونستطيع أن نطلق على مدرسة الدكتور طه حسين اسم (مدرسة الأسلوب التصويري؛ فالدكتور في خير حالاته يرسم لوحات متتابعة، أدواته فيها الكلمات والجمل. لوحات للمناظر، وللحوادث، وللمعاني، وللخطرات النفسية، والالتفاتات الذهنية، على السواء. وتلك مزيته الكبرى كصاحب شخصية أدبية

والدكتور طه صاحب موهبة في هذا وصاحب طريقة، فأما تلاميذ مدرسته فقد أخطأتهم الموهبة واتبعوا الطريقة. أخطأتهم موهبة التصوير واتبعوا طريقة التعبير. ولهذا يجوز أن نعود فنستدرك شيئاً، وهو أن مدرسة الدكتور طه حسين، هي الدكتور طه حسين نفسه؛ ثم محاولات لم تبلغ بعد حد النضوج، ولم يوجد فيها صاحب الطبيعة الموهوبة هذه الهبة الخاصة؛ بل لم يوجد فيها من يدرك سرها الأول وهو طبيعة التصوير، لأنهم جميعاً يفهمون أن هذا السر كامن في طريقة التعبير! بقى أن نعرف شيئاً عن نوع هذا التصوير في مدرسة طه حسين، أو بتعبير أصح في طبيعته. فهو التصوير الحسي الذي يرد المعنى والخواطر صورا حسية، أو كالحسية - بله المناظر والحوادث - فهذه يعيدها كما بدأت أول مرة توشك أن تكون مجسمة.

وهو يخلع على هذه الصور الحسية ألواناً من ألوان الحياة والحركة؛ ولكنها الحياة اللطيفة والحركة الوئيدة التي تدب على هينة، وتخطر في رفق. فالسرعة النابضة والحيوية الدافقة ليستا من مطالب هذه الصور في يوم من الأيام.

وقد يكون المثال هنا أوضح من مقال:

(هذه شهرزاد قائمة منه غير بعيد، تنظر إليه نظرات فيها الحنان والمكر؛ وهي مغرقة في ضحك هادئ عذب يرتفع له صدرها وينخفض، ويغشى وجهها بغشاء من الجمال الرائع ليس إلى تصويره من سبيل. وهذا الملك ينظر إليها مسحوراً مبهوراً وهي تضحك من ذهوله وحيرته، ولكنه ينهض خفيفاً ويسعى سريعاً، إذا بلغها أو كاد جثا أمامها غاضباً بصره إلى الأرض، رافعاً يده إلى السماء، كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال؛ وهي تضع يدها على رأسها ضاحكة، كأنها تبارك عليه، ولكنها لا تلبث أن تستحيل إلى حنان خالص، وإذا هي تميل إليه مترفقة، فتضع على جبهته قبلة حلوة حارة طويلة. ولو أنها تحدثت في تلك اللحظة لأحس شهريار في صوتها تهدج العبرات التي تريد أن تندفع من العيون، ولكنها الإرادة القوية تمسكها فيظهر أثر هذا الصراع في الصوت المحتبس والألفاظ التي لا تبين. ولكنها لم تقل شيئاً، وإنما استقام قدها المعتدل، وامتدت يدها الرخصة إلى الملك فأنهضته صامته، واستجاب لها الملك صامتاً طيعاً فمضت به خطوات إلى نشز من الأرض قريب يكسوه العشب، فأجلسته وجلست بجانبه، وأحاطت عنقه بيدها؛ ثم أمالته في رفق حتى وضعت رأسه على كتفها، وظلت تنظر إليه وهو ينظر إليها، وهما مغرقان في صمت عميق. ثم يسمعها شهريار تتحدث إليه في صوت هادئ وادع، وهي تقول له: (ألم يأن لنا بعد أن نهبط من السماء، وأن ننزل إلى الأرض فنعيش فيها مع الناس؟)

(ولكن شهريار لا يجيبها، وإنما تنحدر من عينيه دمعتان هادئتان تمسحهما شهرزاد في رفق، ثم تنعطف إلى الملك فتقبل جبهته مرة أخرى؛ ثم تقيمه حتى إذا استوى في مجلسه جعلت تمر أصابعها في شعره رفيقة به باسمة له مطيلة النظر إليه صامته مع ذلك لا تقول شيئاً. وكأن هذا العطف الصامت الحار قد بعث الحياة والنشاط في قلب الملك وجسمه، وفي عقل الملك وإرادته، فهو يرفع رأسه إلى شهرزاد ويسألها في صوت كأنه يأتي من بعيد: ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟)

ولقد أطلنا في هذا المثال لأنه يجمع كل ألوان التصوير الحسي في طبيعة الدكتور: فيه المعاني الذهنية والخواطر النفسية، وفيه الحركات والحوادث والمناظر وكلها مرتسمة مصورة متحركة هذه الحركة اللطيفة المتتابعة في يسر وتؤدة

فمن شاء أن يرجع إلى أمثلة خاصة لكل نوع فليرجع إلى كتب، الأيام، وأديب، وأحلام شهرزاد، وهدية الكروان، والحب الضائع. ثم ليرجع إلى هامش السيرة. كتابنا اليوم الذي جرنا إلى هذا الكلام! واقرأ في الصفحة الأولى من الجزء الثالث

(كان الشيخ مهيباً رهيباً، وكان فخماً ضخماً، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء؛ وكان وجهه جهماً عريضاً، تضطرب فيه عينان غائرتان بعض الشيء، ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكاد أن تستقران؛ وهما متوقدتان دائماً ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئاً أو أطلنا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر، أو تسلطان عليه شواظاً دقيقاً قوياً من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكياً حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقاً لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي، ثقيل الحركة، وقوراً في كل ما يصر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتاً ضخماً عميقاً، يسمعه السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكباراً وإعظاماً، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش ورجل عظيم من رجالات البطحاء). . . الخ

هذه اللوحات المرسومة في بحبوحة، وهذه الصورة التي تخطر في وناء وتدب في رفق، هي مزية الدكتور الأصيلة، مزيته التي يتجلى فيها فنه ويؤدي بها رسالته. ولقد يخطئك في بعض ما يكتب أن تجد الفكرة الكبيرة أو المعنى المتكبر؛ ولكنك لن تخطئ اللوحة الهادئة والصورة الحية، هذا اللون من الحياة المريحة المستريحة. نعم قد تبطؤ الحركة في بعض الأحيان إلى حد الخمود فيدركك نوع من الاستبطاء تهم أن تغمر به الكاتب ليسرع فيه خطواته بعض الشيء؛ ولكن ذلك قليل على كل حال

ومن هنا كان إعجاب الدكتور بلبيد ثم زهير خاص من شعراء الجاهلية لأنه يلبي حاجته من هذا التصوير.

وبعد فما قيمة كتاب على (هامش السيرة)؟

قيمته من الوجه الذاتية أنه - وبخاصة الجزء الخير - يجمع أفضل خصائص الدكتور طه وأحسن مزاياه، وينجو من كل عيوبه التي توجد في بعض الكتب الأخرى

وقيمته من الوجهة الموضوعية أنه الكتاب الأول في اللغة العربية الذي يجعل في بعض حقائق السيرة وبعض أساطيرها فناً حياً جذاباً؛ ولكنه لا يقف عند هذا الحد بل يحيل هذا الفن الحي الجذاب، صورة (علمية) صادقة للجزيرة العربية وأطرافها في الفترة بين قبيل مولد النبي () في الجزء الأول وبين رسالته وانتصار دعوته في الجزء الثالث. صورة للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وصورة لما يهجس في الضمائر والأخلاد، وما يبدو من الاتجاهات والآراء وصورة للبيئات والأفراد في تلك الحياة. . . وذلك كله حسب كتاب ليكون عملاً يستحق التقدير. وإنه للكتاب الأول في أعمال الدكتور - حسبما أعتقد - لا يوازيه في هذا الميزان إلا كتاب الأيام

(حلوان)

سيد قطب