مجلة الرسالة/العدد 547/دراسة نقدية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 547/دراسة نقدية

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 12 - 1943



شعر الطويراني

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

أسلفت القول في العدد الماضي من (الرسالة) عن ترجمة حسن حسني الطويراني باشا الشاعر الصحافي المصري المولد، والتركي الأصل، واليوم أكتب هذه الكلمة - وفاء بالوعد - في شعره الذي جمع في ديوانه (ثمرات الحياة)

وديوان الطويراني ضخم الحجم مملوء بكثير من القصائد الطوال والمقطوعات والموشحات والأدوار والزجل، وقد طبع بمطبعة إدارة الوطن سنة 1300هـ، ثم سافر الشاعر إلى الآستانة في العام نفسه، ووكل أمر الإشراف على طبع الديوان إلى نائب له، فلم يعتن بتصحيح الجزء الثاني، فحصلت غرائب في التحريف والتصحيف والسهو، وفقدت أصول الديوان حين وصل الطبع إلى صفحة 216؛ وهنا علم الشاعر بما حصل فبعث بنسخة أخرى من الأصول لتتميم الأبيات. وبقي في الآستانة ثماني سنوات والديوان لم يكمل طبعه. فعاد إلى الإسكندرية في 20 ذي الحجة سنة 1308، ووصل إلى القاهرة في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، ولما استراح من السفر أخذ يصحح الديوان استنجازاً لإخراجه (ولكنه وجد أن تصحيح الأخطاء يستلزم صرف الأوقات المديدة وتحمل المشاق العديدة، وأن الاهتمام بتصحيح ما وقع فيه من الخطأ الخطل، شيء زائد على الأمل والعمل)، فختمه بمعذرة إلى القراء، وأنجزه وأخرجه في 20 محرم سنة 1309 هـ

ويظهر في شعر الديوان والإمعان في مطالعته أن الشاعر متأثر بالمذهب التقليدي إلى حد كبير، فهو يحذو حذو شعراء عصره الذين كانوا أصداء بالية للشعر العربي القديم، فأغراضهم أغراض السابقين، وأبوابهم ومذاهبهم هي أبواب الأولين، ومذاهبهم مع اختلاف الأحوال وتباين المقتضيات

ولم لا يكون شعراء عصر الطويراني كذلك، وأمامهم محمود سامي البارودي باشا كان مقلداً إلى حد بعيد حتى في مطالعه ومواقفه وتشبيهاته بل في عباراته؟ ولكن البارودي كان يمتاز عليهم جميعاً بالطبع العربي الأصيل في قرض الشعر؛ فهو بارع في المحاكاة، حتى ليخيل إليك وأنت تقرؤه أنك تقرأ شعراً قديماً لم تفسده لوثة الأعاجم وفساد الملكات ويظهر المذهب التقليدي في شعر الطويراني واضحاً، حتى في طريقة تبويبه للديوان؛ فقد قسمه إلى أربعة وعشرين باباً: الأول منها في الإلهيات، وقدمه لشرف موضوعه، وهو الحمد والثناء على الله تعالى مفيض هذا الوجود. ولم يعد في هذا الباب أن يكون (نظاماً) لا شاعراً؛ فلم يصل إلى أعماق الوجود ولم تتجل عليه فيوض الحكمة وإشراقاتها، ولم تزد إلاهياته على أن تكون خطوات عابرة نظمها في قالب من قوالب عصره. وقد حاولت أن أعرض أحسن ما في هذا الباب، فلم أجد غير هذه الأبيات:

يا مالك الروح يشقيها ويسعدها ... وحافظ الجسم إفناء وإبقاء

أوجدت من عدم روحي وكنت لها ... أوقات لم أدر فيها الطين والماء

متعتني في صفاء النفس منفرداً ... مطهراً لم أخف رجساً وبأساء

أما الباب الثاني ففي المدائح النبوية وسماها (النبويات)، كما سميت قصائد الكميت (بالهاشميات)، وهي قصائد ليس لها في الشعر من شرف إلا أنها صنعت للرسول عليه السلام! فلا نجد فيها قوة حب الكميت ولا متانة البوصيري وحكمته في ثنايا المديح

والباب الثالث في الحماسة والفخر، وقدم هذا الباب (لعلة وفاء حقوق النفس التي لا تعرف حق غيرها إلا بعد معرفة ناموسها؛ فإن النفس إذا جهلت حقها جهلت حقوق غيرها بالطبع فلم تقم بها)، وهذا تعليل لطيف لشعر الفخر، ولكن يشترط ألا يغالي فيه، وإلا صار إسرافاً وكذباً. ولقد أسرف الطويراني في هذا الباب إسرافاً كثيراً ووضع فيه ما ليس منه، كالأبيات التالية التي هي أشبه بشعر الحكم منها بشعر الحماسة:

الناس في الدهر أنباء وأخبار ... والكون كونان أعيان وآثار

لا خير في العيش إن لم يصطحب شرفاً ... ولا اقتحام الردى دون العلا عار

اعمل مع الصبر ما يرضى الكمال به ... وكتم مصابك إن الدهر دوار

لا يرغم الدهر إلا من يطيش له ... فاعتز بالنفس إن خانتك أنصار

وقد يكون في هذا الكلام فخر خفي، فهو يأمر الناس بما كمل هو به نفسه من اصطحاب الشرف واقتحام الردى والصبر وكتمان المصاب والاعتزاز بالنفس حين يخون النصير

وأكثر ما يفتخر الطويراني في هذا الباب بآبائه الترك، فهو يتعصب لهم على العرب الذين حفظ لغتهم وآمن بنبيهم؛ وقد يصل به التعصب إلى إنكار كل فضيلة للعرب وتجريدهم من كل مكرمة. ولا شك أن الأحوال السياسية في عصره، والخلاف بين العرب والترك، ومحاولة الأولين التخلص من حكم الآخرين، وقيام الشعراء من العرب بمهاجاة الترك؛ لا شك أن ذلك كله كان حافزاً للطويراني على الاجتراء على العرب وتنقصهم. ووجد في صحفه ومجلاته التي أنشأها أو اشترك في تحريرها مجال الكلام واسعاً؛ فأحفظ ذلك عليه كثيراً من الشعراء العرب كالشيخ إبراهيم اليازجي

ولقد نقل الطويراني الخلاف بين العرب والترك إلى خلاف بين الأصل السامي والأصل اليافثي. فهو يقول:

أرى الفخر للأتراك من عهد يافث ... ومن عهد افراسياب ليس مرسغاً

فلا شهم في الدنيا كجنكيز قاهر ... ولا ثأر أغلى من طغا جار إذ طغى

ويقول من قصيدة أخرى:

فإنا بنو عثمان لا الضيم عندنا ... يعان ولا يوماً على جارنا يقضى

وهو هنا يرد على ما رماهم به العرب من الظلم ونقض الجوار، ولما استفزه اليازجي بالشعر المر الموجع في تعداد مظالم الترك رد بقصيدة ميمية طويلة خانته فيها لباقته، فرمى العرب بما لا يليق أن ترمى به أمة كريمة عزيزة من دولة كان يرتفع فوقها علم الخلافة الإسلامية، حيث قال:

ملكناكم حيناً سوائم جهلا ... تتيهون في دوِّ الهوان نعائما

فلما اكتسى العاري وأشبع جائع ... وأصبح مخدوماً فتى كان خادماً

جهلتم حقوق الترك وهي جليلة ... ولم تحفظوها، شيمة الحر، أنعما

وشوهتم الحسنى بما قد بدا لكم، ... وقلتم كذا كنا وكنتم وبئس ما. . .

وقد طالت هذه القصيدة وجمح القلم من يد صاحبها، ولكنه عاد في النهاية فلطف الكلام بقوله: -

وقد أنزل الله المؤاخاة بيننا ... فلا تجعلوها أخوة تسفك الدما

وأنا بكم حقاً كما أنتم بنا ... كلانا أخ في الدين يبغي التلازما

ولا فضل إلا بالتقى وهو بيننا ... سواء وفضل الله خص وعمما

وكل أبوه في الحقيقة آدم ... فمن شاء تذليلا لأصل فآدما وأما نبي الله فالكل قومه ... وأكرمه من لم يسئه وأكرما

نصحت بني مصر وحذرت كلهم ... وقلت المقال الحق لكن تجرما

ولو سلك الطويراني هذا المسلك الرقيق من أول الأمر ما تأججت نار المهاجاة بين شعبين أخوين مسلمين، يرجى من تآلفهما للإسلام خير كثير

أما قصيدته السينية التي رد بها على سينية الشيخ إبراهيم اليازجي، ففيها من الفخر كثير، ولكن فيها على العرب تجنياً صارخاً. ومنها هذه الأبيات: -

والترك نيران اللظى ... فاقدم ورم إن كنت قابس

والترك قد تركوا أبا - ك ومثله بالخزي ناكس

ولولا بنو عثمان ما ... نبست لشرقي نوابس

سهروا ونمتم والتقوا ... وحشا وأمسيتم أوانس

برزوا لساعرة الوغى ... وهمامكم كالظبي كانس

ولكن هذه الأيام قد ولت وانتهى زمان الملاحاة، ونرجو أن يكون المسلمون، على اختلاف أجناسهم، قوة يعمل حسابها ويخشى بأسها. ولعلهم فاعلون ذلك إن شاء الله.

أما فخر الطويراني بنفسه، لا بجنسه، فكثير في شعره وقد أعانه على ذلك نفس أبيه وهمة قوية، فقد تنقل في البلاد وطوف في الآفاق، ولقي الخير والشر، وشرب الحلو والمر، ولكنه ظل عزيز النفس. اسمعه يقول: -

على أنني إن لان قومي ظالم ... وإن طالبوني بالتذلل ظالم

وأني لأستلقي الكريهة باسما ... وأجهل عقباها وأني لعالم

إلا أنه قد يغرق في الفخر ويغالي فيه على عادة شعراء عصره.

فترى الإسراف فيه واضحاً، والكذب فيه ظاهراً كقوله:

خلقت للسيف والقرطاس والقلم ... فالدهر عبدي وأهل الدهر من خدمي

والشطر الثاني سخيف مرذول وما أشبهه في السخف بقول ابن سناء الملك

وأنك عبدي يا زمان وأنني ... على الرغم مني أن أرى لك سيداً

وسبحان من غير نظم شعراء اليوم إلى الفخر، فلو أن واحداً منهم قال مثل هذا القول لقال الناس: هذا ناظم كذاب! أما باب المديح فيشمل جزءاً كبيراً من الديوان. فقد مدح السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد والخديو إسماعيل باشا، والخديو توفيق باشا، كما كانت له مدائح وصلات أدبية ومكاتبات ومساجلات مع إسماعيل بك عاصم والأديب الشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري والشاعر الأديب عبد الله فريح

أما غزله فيظهر فيه التصنع والتقليد للقدماء حتى في الوقوف على الأطلال والبكاء عليها وذكر المرابع والعيس والأماكن العربية كمنعرج اللوى. فيقول:

تعرفت أطلال الحمى بعد مجهل ... فأوقفت عيسي بعد طول الترحل

ويقول:

سقى الله صوب القطر منعرج اللوى ... وحسبي به دار الشبيبة والهوى

ويقول:

أمن دار سلمى دراسات المعاهد ... بكيت طلولا بَعْدَ بُعْدِ المعاهد

ويقول:

بانت سعاد فرغد العيش منكود ... وودعت فجليد القلب مكمود

وشتان بين المحاكاة والطبع، وبين الصوت والرجع!

وشعر الطويراني لم يسلم من الزحافات والعلل والضرورات الشعرية التي لجأ إليها لجوءاً كثيراً. فهو يمد المقصور ويقصر الممدود ويجزم المرفوع، ويسكن أواخر الكلمات فلا يعربها، ويقطع همزة الوصل، ويصل همزة القطع، ويأتي بعيوب السناد ويمنع المصروف من الصرف كقوله في صفحة 242

والورق تسجع في الغصون كأنما ... هاتيك غيد وتلكم الأوتار

فمنع من الصرف كلمة غيد وحقها التنوين

وقوله في ص 9

لأن التلازمْ بين ذات وعارض ... من الكون لا يخفى لمن يتبصر

بإسكان الميم من كلمة التلازم

وقوله في ص 17

يا نبي الهدى عليك سلام ... لا ابتداء له ولا انتهاء بقطع همزة الوصل من كلمة انتهاء

وقوله ص 8

يا إله الخلق ارحم عاجزاً ... مد للألطاف نحو الباب يد

بقطع همزة الوصل من الفعل ارحم

وقوله:

ولا والله لا في العلم خير ... ولا في الجهل شرُّ ولا مخاوف

فمنع كلمة شر من التنوين وذلك قبيح، ولو قال (ولا في الجهل شرٌّ أو مخاوف) لسلم من الضرورة القبيحة

والطويراني نسبة إلى طويران وهي بلد وكان يكاتب ابن عمه علي بك عطا الله وهو فيها

وبعد فقد أتاح لي الأديب الفاضل علي الشوكاني ببغداد كتابة مقالين عن الشاعر الصحافي التركي المصري حسن حسني الطويراني باشا؛ فله الشكر على ما أتاح؛ ولصديقي محمود بك نصير نائب المنصورة أجزل الشكر على تفضله بإعارتي ديوان الشاعر. فلولا ذلك ما ظهر هذا المقال.

محمد عبد الغني حسن