مجلة الرسالة/العدد 538/الإسلام والفنون الجميلة
مجلة الرسالة/العدد 538/الإسلام والفنون الجميلة
6 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يحرم استعمال الذهب والفضة والحرير، وجميع الآيات التي تتعلق بهذه الأشياء إنما تشير إلى أنها مما يستمتع به المتقون يوم القيامة عندما يسكنون الجنة ويلبسون الحرير ويتحلون بأساور من ذهب وفضة ولكن ورد في كتب السنة أحاديث عدة تنظم استعمال هذه الأشياء. بعضها يحرمها وبعضها يحللها بحسب الظروف المختلفة. والملحوظ في التحريم على كل حال هو الرغبة الصادقة في الحيلولة بين الرجال وبين الانغماس في النعيم، حتى يظلوا متمسكين بعادات البداوة والخشونة لا يفقدون شجاعتهم وحميتهم. ولقد كان في تلك الإباحة وهذا التحديد أو التحريم غنم كبير للفنون الجميلة يتجلى لنا فيما أبتدعه المسلمون من المنسوجات ومن الحلي والأواني
أما الحرير فله في تاريخ الحضارة قصة شيقة ساهم المسلمون فيها بأوفى نصيب، فقد كان إنتاجه سراً مغلقاً لا يملك مفتاحه غير الصينيين. واستطاع الإمبراطور جستنيان في سنة 556 م أن. يقف على هذا السر، وأصبحت بيزنطة منذ ذلك التاريخ من أهم مراكز إنتاج الحرير ونسجه. واقتصر استعمال المنسوجات الحريرية في أول الأمر على النساء؛ ولكن رجال الدولة الرومانية اتخذوا ملابسهم من الحرير. وعندما ظهر الدين المسيحي ورأى رجال الكنيسة أن في استعمال هذه الملابس ترفاً لا يقره الدين ولا سيما وقد كانت أثمان هذه الملابس مرتفعة إلى حد بعيد انبروا لمقاومة انتشارها وأعلنوا حرباً شعواء عليها، ولكنهم فشلوا في حملتهم، وتغلبت روح الترف على الناس فأقبلوا على اقتنائها. وجاء الإسلام فلم يشأ أن يقف جامداً أمام هذه المشكلة، بل نظم استعمال الملابس الحريرية تنظيماً كان له أبعد الأثر في الفن، إذ وردت في كتب السنة أحاديث عدة أباحت الحرير للنساء إطلاقاً من غير قيد ولا شرط، وحرمته على الرجال إلا لضرورة. أو كان الثوب مشتملاً على قدر إصبعين أو أربع أصابع من الحرير. وعلى أساس هذه الإباحة ازدهرت طريقة الزخرفة المسماة بالتابستري وكانت المنسوجات التي تزين بهذه الطريقة تنسج بالطريقة العادية للنسيج أي تقاطع خيوط اللحمة بخيوط السدي حتى إذا وصل النساج إلى النقطة المراد زخرفتها أوقف عملية الحشو بخيوط اللحمة وأخذ في عمل الزخرفة بخيوط الحرير المختلفة الألوان فترى الثوب وقد ازدان بشريط من الحرير يتضمن زخرفة مدهشة تدل دلالة واضحة على مدى ما بلغه المسلمون من الخبرة الواسعة بالأوضاع الزخرفية والأساليب الفنية والمقدرة الفائقة على اختيار الألوان، حتى أن الإنسان لا يدري أموضع السحر في هذه المنسوجات دقة الزخرفة أم التناسق بين الألوان أم جمال الحرير وقد نسجه وسط الكتان؟ ولقد كانت هذه الطريقة متمشية مع ما أقره الفقه الإسلامي، وإن كان الفاطميون قد تسامحوا فيها في أواخر عصرهم فزادوا في مساحة أشرطة الزخرفة المنسوجة من الحرير عن النسبة المقررة شرعاً
وفي ظل الإباحة المطلقة للنساء تقدمت صناعة نسج الحرير وراجت رواجاً عظيماً، وأصبح في متناول معظم الناس بعد أن كان قاصراً على الحكام والأمراء قبل الإسلام، وتسلم المسلمون زعامة تجارته في العصور الوسطى، وكان لهم فضل إدخاله في صقلية والأندلس
أما الحلي المصنوعة من الذهب فقد نشط الصناع المسلمون في صياغتها، وتفننوا في صنعها، وأتوا فيها بالبدع المدهش، والأمثلة القليلة التي عثر عليها في أطلال الفسطاط - أقدم العواصم الإسلامية في مصر - من خواتم وأساور وأقراط خير دليل على ذلك. ولولا أن الحلي الذهبية من الأشياء التي تصهر ويعاد صنعها في العصور المختلفة لوصلت إلينا نماذج كثيرة تكشف عن مهارة المسلمين في هذه الناحية
أما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة فقد حرم بنص الأحاديث المختلفة، ولكن هذا التحريم كان في الواقع سبباً مباشراً في اهتداء الفنان المسلم إلى طريقة استطاع أن يوفر بها للأواني الخزفية جمال الذهب وبريقه فتوصله إلى صنع الخزف ذي البريق المعدني. ولحسن الحظ قد وصلت إلينا من هذا الخزف أمثلة كثيرة تسابق إلى اقتنائها المتاحف والهواة في الشرق وفي الغرب. وفي الحق أن هذه الأمثلة قد امتزجت فيها دقة الصانع بعبقرية الفنان فأبدعا معاً هذه التحف التي يستمتع الآكل فيها بجمال الذهب ورونقه ويرتاح ضميره - إن كان مسلماً متمسكاً بالدين - إلى إتباع أحكام الدين وطاعته
هذا وقد اهتدى المسلمون تحت ضغط هذا التحريم إلى طريقة تطعيم أواني النحاس بالذهب والفضة فجعل من الأواني المنزلة بالذهب وبالفضة أو بهما معاً تحفاً رائعة لها من الجمال الفني والذوق السامي ما تتضاءل بجانبه الأواني المتخذة من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة.
(يتبع)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية