مجلة الرسالة/العدد 537/على مكتب رئيس التحرير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 537/على مكتب رئيس التحرير

مجلة الرسالة - العدد 537
على مكتب رئيس التحرير
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1943



للأستاذ دريني خشبة

كان ذلك في العشرة الأواخر من رمضان الماضي. . .

وكانت الساعة الثانية تكاد تنتصف. . . تلك الساعة التي يهمد فيها الجسم، ويخمد الذهن، وتفتر الأعصاب، ويستعد فيها الموظفون في جميع دواوين الحكومة للانصراف

وكنت قد انتهزت فرصة وجود مجموعة من الأدباء المعروفين جاءوا لزيارتنا فأثرت موضوع الشعر المرسل. . وكان الحوار قد استحر برغم همود الأجسام وخمود الأذهان وفتور الأعصاب، فهذا يرى أنه قد آن الأوان لإدخال هذا اللون من ألوان الشعر في القريض العربي، وذاك يستنكره ويضيق به، وهذا يعرف ما له من الخطر في آداب اللغات الأوربية ولا سيما في نظم الملحمة والدرامة والقصة، إلا أنه لا يتصور كيف يمكن إقحامه على الشعر العربي الذي تتحكم فيه القافية هذا التحكم السخيف الذي اختص به من دون أشعار العالم

ثم دعيت إلى التليفون فجأة، وإذا أخي محمد. . . مدير إدارة الرسالة يدعوني إلى الدار لكتابة مقال لأحد العددين اللذين يطبعان قبل العيد دفعة واحدة. . . فقلت له: ولماذا أحضر إلى الدار ولم أتعود الكتابة خارج منزلي؟ فذكر لي: إن هذا هو ما أشار به الأستاذ رئيس التحرير. ثم أردف هذا بأنه ينبغي أن يفرغ من طبع العدد كله مساء ذلك اليوم، ولذلك (فيجب) أن يبدأ الطبع في تمام الساعة الرابعة. . . أي ساعتين. . . والأستاذ في المنصورة (على فكرة!)

فتبسمت، وقلت له. . . إذن، سأحضر!

ولم يعد في ذهني منذ هذه اللحظة أثر للشعر المرسل، ولا للشعر الحر، ولا لتلك الفروق الواسعة بين الشعر المرسل والشعر الحر. . . بل نسيت موضوع الشعر كله. . . بل نسيت زائري الأفاضل، وأن كنت قد وضعت ذراعي في ذراع واحد منهم، ثم توجهت معه إلى الرسالة. . . سيراً على الأقدام. . .!

وكان صديقي هذا هو السبب في إثارة موضوع الشعر المرسل، فكان يحاول وصل الحوار في الطريق، ولكن هيهات. . .! لقد كنت عنه وعن الشعر المرسل في شغل. . . وكان أه ما يشغلني هو الموضوع الذي تسهل الكتابة عنه في رمضان، وفي مثل هذا الوقت من النهار، وفي مثل حالتي من التعب وخمود الذهن وفتور الأعصاب،. . . ثم. . . في ساعة. . . ساعة واحدة! وأين؟ بعيداً عن الغرفة الهادئة التي تشرف على حدائق شبرا الغناء وحقولها الفيحاء، والتي تعودت أن أكتب فيها في سهولة ويسر، وفي غير مشقة أو عناء. . .

وكنت كلما صرفت صديقي عن موضوع الشعر المرسل أبى إلا أن يعود إليه. . . فقلت: إذن أشغله بما يشغلني، وأشركه في البحث عن الموضوع الذي تسهل الكتابة فيه بالرغم مما يحدق به من تلك الظروف. . . فقلت له:

افرض يا صديقي العزيز أنك عدت تلميذاً في المدارس الثانوية، لا طالباً في الجامعة. . . أو افرض أنك رأيت هذا فيما يرى النائم، وأنك تجلس الآن - أي في المنام - في لجنة الامتحان لشهادة الثقافة مثلا. . . مثلا. . . وأنك تسلمت ورقة أسئلة اللغة العربية، فوجدت في رأسها في المكان المخصص لأسئلة الإنشاء هذا السؤال: اختر موضوعاً من عندك يتعلق بمشكلة اجتماعية من مشكلات هذا العصر واكتب فيه من ثلاثين إلى أربعين سطراً (بشرط ألا تتعرض للأحزاب المصرية بخير أو شر!) فماذا عسيت كنت تختار؟

وافتر صديقي عن ابتسامة خبيثة طويلة عريضة وقال: كنت أكتب عن الشعر المرسل!

فقلت له: وهل للشعر المرسل علاقة بالمشكلات الاجتماعية الحاضرة! أتريد أن تشق علي أو تشق صدري يا أخي؟

فقال لي وهو ما يزال محتفظاً لفمه الهائل بابتسامته الصائمة الظامئة الجائعة: كلا. . . ولكنه الموضوع الوحيد الذي أستطيع أن أكتب عنه بحرية مطلقة، دون أن أتعرض للأحزاب المصرية بخير أو بشر!

وكنا قد بلغنا دار الرسالة فلم أرد عليه؛ فلما صعدنا إلى الإدارة استأذنته في ساعة أغيب عنه طوالها بعد أن شغلته بكتاب رجوت أن يتلهى به عن الشعر المرسل. . . ولم يفته أن يسألني فيما أصرف تلك الساعة من هذه الظهيرة القائظة فتبسمت ابتسامة أطول من ابتسامته وأعرض، وأشد جوعا وظمأ، ثم قلت له: حيث أجيب عن السؤال الأول من أسئلة الإنشاء في امتحان الثقافة يا صديقي، وسأجتهد ألا أخرج عن الموضوع كما خرجت. . .

وسأجيب في اليقظة لا في المنام!

لست أفهم هل فطن أخي هذا إلى ما عنيت، ولكني فهمت من أخي محمد أنني سأجلس لكتابة المقال على مكتب الأستاذ رئيس التحرير!

عند ذلك تعاظمني الأمر جداً، ونظرت إلى مكتب الأستاذ رئيس التحرير نظرة عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة. . .

أجل يا صديقي القارئ. . .

فلقد كنت تلميذاً للأستاذ الزيات منذ نحو من ربع قرن! وكنت قبل أن ألقاه في المدرسة قد اتصلت به عن طريق كتبه قبل ذاك. . . فلقد أعطاني ابن عم لي قصة (آلام فرتر) لأقرأها. . . أو لأحفظها. . . كما أعطاني صديق آخر كتاب (تاريخ الأدب العربي) ليكون لي نبراساً في مطالعاتي. . . في دنيا الأدب. . . ومنذ ذلك العهد وصلتي بالزيات أقوى صلاتي بالناس جميعاً، ولا أذكر أن الزيات كتب كلمة أو خط حرفا أو أصدر كتاباً لم أقتنه ولم أقرأه ولم أشتغل به

نظرت إلى مكتب رئيس التحرير إذن، وقد تعاظمني أمر المقال المطلوب الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد، كما تعاظمني أن أجلس، أنا التلميذ المتواضع المهذب المؤدب - ولا مؤاخذة! - إلى ذاك المكتب العتيد، مكتب الأستاذ العظيم المهذب المؤدب، ذلك المكتب الذي جعلت أحملق فيه مسبوها مشدوها، وأنظر إليه تلك النظرة التي عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة

كان علي أن أفرغ من المقال - الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد - في ساعة، وقد كان أخي محمد يحسب أنه قد غلق علي أبواب الحجرة المقدسة، سيتنزل علي الوحي السريع المؤاتي فأدفع بالمقال في نصف تلك الساعة أو في ربعها، وعند ذلك يفرغ هو كما يفرغ عمال المطبعة الذين كانوا يرتقبون إجازة العيد بالصبر الذي يصفه البلغاء بأنه صبر فارغ - دون أدري لماذا؟

كان أخي محمد يمني نفسه بهذا كله، وكان تليفون الرسالة الموجود إلى يساري في الحجرة المقدسة يرن فيقدم السيد محمد مسرعاً ليتولى المكالمة، وكنت أراه يبعثر نظراته فوق الصحيفة التي أعدت للمقال المنشود فيراها لا تزال بيضاء. بيضاء ناصعة. أو بيضاء خاوية. . . وكنت أرى نظراته وقد ارتدت إليه حاسرة خاسرة فأرثي له، ولا أرثي لنفسي. . . ولماذا أرثي لنفسي، وقد كنت أستمتع بلحظات سعيدة هن من أعظم اللحظات في حياتي؟ ألم أكن جالساً أضرب أخماساً لأسداس فوق مكتب أستاذي العظيم؟ هذا المكتب الذي ربما كتب عليه الزيات فصولاً من كتابه الثمين في تاريخ الأدب العربي، أو ترجم فوقه فصلاً أو فصلين أو فصولاً كثيرة من آلام فرتر أومن رفائيل. . . أو دبج عنده خمسين أو ستين من افتتاحياته العجيبة التي جمعها في وحي الرسالة ولم يهدي إلي منها نسخة مع ما كان يعرف من مرضي وانقطاعي عن الدنيا إذ ذاك، ومع أنه أهدى منها إلى جميع الناس، بالرغم مما ذكر لي مرة أنه لا يهدي كتبه إلى أحد. . . ذكرت ذلك كله واشتغلت به عن موضوع المقال، وذكرت إلى ذلك كله عهود الصبا وشرخ الشباب. . . أيام أن كان الزيات العظيم آنق معلم معتم في مصر، والشيخ الذي يفتخر الطلاب بالتأدب عليه والتتلمذ له

بيد أن بعض الحوادث سيطرت على كل تلك الذكريات واستبدت بها، فقد كان الأستاذ يملي علينا يوماً تمريناً في البلاغة وكان يملي من ذاكرته دائماً. . . فلما أملى بيتي جرير المشهورين في العيون علق عليهما هذا التعليق التقليدي الذي تحشى به كتب الأدب، من أنهما أحسن ما قيل في العيون. . . وهنا بدا علي شيء من الضيق جعلني أبتسم كالذي يستهزئ بهذا الكلام، فلما سألني الزيات ماذا يضحكني أجبته بصراحة: هذا التعليق الذي تسمح به وبأمثاله كتب الأدب، فسألني: ولمه؟ قلت لأني أحفظ في وصف العيون شعراً هو في نظري أروع من شعر جرير وأنا مع هذا لا أعده أروع ما قيل في العيون، ولا أروع ما ينتظر أن يقال فيها، فسألني أن أتلو شيئاً مما أحفظ، فقلت:

نُجْلٌ تظل حواليها نواظرنا ... صرعى من الوجد فوق الخد والجيد

لهن إعجاز عيسى إن أردن بنا ... خيراً وفيهن أسرار العناقيد

وهنا سألني، أو أمرني، أن أكتبهما على السبورة، فاعتذرت برداءة خطي الذي يلقى منه عمال مطبعة الرسالة الأمرين، فكتبهما الزيات العظيم بيده، وكان خطه دقيقاً أنيقاً جيداً كعهده إلى اليوم، ثم التفت إلي وسألني عن اسم الشاعر صاحب البيتين، فقلت هما لمسلم بن الوليد. . . فقال، لا. . . إنني أحفظ ديوان مسلم ولا أعرف أنه قالهما. . . فقلت: هما إذن للعباس بن الأحنف. . . فقال: ولا للعباس يا خشبة. . . فقلت: هما لي إذن وأنا ناظمهما. . . وهنا ثارت في الفصل عاصفة شديدة من الضحك، وأصر إخواني الطلبة على أن يسمعوا القصيدة كلها، فأبيت، واستنجدت بالزيات العظيم. فلما سألني: وماذا يمنعك؟ أسررت إليه أن معظم القصيدة في الأدب المكشوف الذي أستحي أن أنشده. . . فاستطاع حفظه الله أن يصرف شياطين طلبة (الإعدادية!) عني

ولم تحصل طبعاً موازنة بين ما قلت وما قال جرير الخالد الذي لا يعقل أن يطاوله فتى في السابعة عشرة من عمره

ومما كانت ذاكرتي تضطرب به اضطراباً شديداً هذا الحادث الذي وقع لي مرة مع أحد أساتذة اللغة العربية بالمدرسة، فقد كان هذا الأستاذ يدرس لنا الأدب قبل أن يعوضنا الله منه بالأستاذ الزيات، وقد كنت دائم الاختلاف معه خصوصاً في كثير من تعبيراته العربية، وقد ظن الأستاذ أنني أستخف بمحصوله العلمي فرفع الأمر إلى ناظر المدرسة الذي تعجل فانتهرني على صورة من الصور. . . وقد لنت للناظر ولكن لا على حساب كرامتي؛ ثم رجوته أن يحكم في أوجه الخلاف الأستاذ الزيات وقد عرفت أنه أخذ باقتراحي، لأن المدرسة عهدت بعد أسبوع أو نحوه بالفصول (الصغيرة) إلى الأستاذ، وفوجئنا مفاجأة سارة بدخول الأستاذ الزيات ليدرس لنا مادة الأدب علاوة على المواد العربية الأخرى كلها

وكلفنا الزيات مرة بالكتابة عن المرأة المصرية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ثم انتهت الحصة ولم أفرغ من الكتابة بعد وإن كنت قد كتبت اثنتي عشرة صفحة. فلما كانت الحصة التالية تقدمت إلى أستاذي الجليل بكراستين كاملتين في موضوع المرأة المصرية. ولما سألني متى كتبت كل هذا (الهراء!) عبست العبوسة الهائلة التي كان لابد لغرور التلميذ المراهق أن يعبسها، ثم قلت: ليس ما كتبت هراء، ولكنه ملخص دعوة قاسم بك أمين، وما رد به المحافظون والرجعيون عليه، وعلى رأسهم محمد طلعت حرب بك. . . ثم يلي ذلك رأيي، (أي والله قلت هذا بالفم الممتلئ المتهدج!) بصفتي مصرياً أولاً وبصفتي مسلماً ثانياً. . . وكنت أحبذ آراء المرحوم قاسم بك في ذلك الحين إلى حد الجنون، ولا أرى فيها ما ينافي الدين ولا الكرامة ولا الحشمة. ولكن الزيات تبسم في هدوء وسكينة ثم قال: لا بأس، لا بأس! ولكن ابحث لك عن معلم غيري يصحح لك كراستين كاملتين في موضوع واحد. فقلت. . . وهي قولة تفيض كبراً ويكاد يخنقها الغرور: على كل حال لقد كتبت في الموضوع الذي كلفتنا به، ولست أرى أن ما كتبت في حاجة إلى تصحيح (!!)

والمدهش أن الزيات - بعد كل هذه الوقاحة - لم يزدد لي إلا محبة، ولم يجزني إلا كل مودة، ولم يقابلني إلا بكل رعاية. . . مع أنني انتهزت فرصة تفتيش محمد بك الخضري على المدرسة بعد ذلك بأيام قلائل، وقدمت له الكراستين مباهياً. . . فشجعني الرجل عليه رحمة الله بكلمات، ووعدني بقراءة موضوعي الطويل، وبرد الكراستين حين يفرغ منهما. وأكبر ظني أنه لم يفتحهما خارج المدرسة، لأنني فقدتهما إلى الأبد. . . فيا ترى! ماذا كنت قد كتبت فيهما؟!

هذا بعض ما كان يهجس في روعي من ذكريات أستاذي رئيس التحرير الذي كنت أجلس على مكتبه مشتغلاً بماضي معه، عن الموضوع الذي يجب أن أفرغ من كتابته في نصف ساعة، وكان النصف الآخر قد مضى في استعراض هذه الذكريات. . .

ثم دخل أخي محمد فجأة لأمر ما من أمور الإدارة، فلما رأى الصحيفة بيضاء هذه المرة أيضاً، كآخر عهده بها، أربد وجهه، وشحب شحوباً شديداً. وكنت قد أخذت أحلم أحلاما أخرى من نوع آخر، غير أحلامي بالذكريات السالفة، فقد انتقل خيالي السابح إلى أدب الأستاذ الزيات شكلا وموضوعاً، وجعلت أستعرض (فرتر) و (رفائيل) استعراضاً هادئا. فها هو ذا (فرتر) يقبض على مسدسه لينتحر. . . وها هو ذا الدم يتفجر من جبينه بعد أن دوت تلك الرصاصة الطائشة. . . وهاأنذا أبكي - يوم قرأت فرتر لأول مرة بالطبع - متأثراً أشد التأثر. . . ثم ها هي ذي جوليا، حبيبة رفائيل، تموت مما بها من مرض، وهاأنذا أتلو على رفاتها قصيدة لإمارتين: البحيرة، ثم قصيدته: الوحدة، بقلم الأستاذ الزيات. . . وبعد ذلك أتذكر وصف الفتى رفائيل، ذلك الوصف الرائع في العربية بقلم الزيات، وفي الفرنسية بقلم لإمارتين، فأزداد انصرافاً عن الموضوع الضائع الذي لم أستطع أن أهتدي إليه بعد. . .

ونظرت فرأيت أخي محمداً ما يزال واقفاً أمامي. فقلت له: ما هذه الضجة التي أسمعها في الشارع. . .؟ فقال: العمال. . .

فقلت، وقد خفت أن يكونوا عمال المطبعة: ما لهم؟

فقال: سيتناولون طعام الإفطار على مائدة مولانا!!

فقلت: حفظ الله مولانا، ومسح الله دموع الفقراء. . . عن إذنك يا أخي محمد. . . خذ المقال بعد ربع ساعة!

ثم كتبت في وسط السطر: يا دموع الفقراء!

وفرغت مما كتبت في خمسة عشر دقيقة، وخرجت فوجدت صديقي الشاعر ينتظرني لنصل ما انقطع من حديثنا عن الشعر المرسل، فأكملناه على أحسن وجه حتى وصلنا إلى ميدان الملكة فريدة، ومشيناه على الأقدام

دريني خشبة