مجلة الرسالة/العدد 537/المشكلات
مجلة الرسالة/العدد 537/المشكلات
8 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
لا أريد أن أضع منهاجاً مفصلاً للطريقة الجديدة لتعلم اللغة العربية، وإنما أريد أن أضع قواعد مجملة تتبع عند وضع هذا المنهاج، وهذه مبنية على ما تقدم بحثه.
يجب أن يحدث درس القواعد من لتعليم الابتدائي والأولي لأن القواعد كما قلنا لا تكسب ملكة اللغة وإنما هي فلسفة للغة وضوابط؛ فمن الواجب أن نسعى في أن نكون للناشئ ملكة اللغة أولاً.
يجب أن نستبدل بالقواعد المطالعة الكثيرة والحفظ الكثير والمحادثة والمحاورة.
ويجب أن يختار للتلاميذ ما يحفظونه بحيث يكون مناسباً لأذهانهم لا يعلو عليها، وتؤلف لهم محاورات يحفظونها ويتحاورون بها وتكون مما تكثر في الكلام ويحتاج إليها في الخطاب.
ويجب أن يعلم أن هذه المحفوظات تحفظ لتكون نموذجاً ذهنياً ليقيس عليه كلامه من حيث لا يدري فيجب أن يعنى بهذه النماذج فتحفظ صحيحة لا غلط فيها، ومعربة لا لحن فيها، فإنه إذا حفظها ملحونة ارتسم النموذج في ذهنه كذلك، فنسج على منواله، وأنفق مما اكتسب. ويجب على المدرس أن يراعي تلاميذه ويعلم موطن الضعف في لغتهم ويزودهم بما يزيل ضعفهم، ويقوم لسانهم، فإن رأى منهم أنهم يجرون الفاعل في أحاديثهم فليعلم أنهم بحاجة إلى أن يحفظوا كثيراً من المقطوعات فيها أمثلة كثيرة للفاعل، وليأخذهم بحفظها صحيحة غير ملحونة.
أما مرحلة التعليم الثانوي فيجب أن يظل التعليم بالحفظ والمطالعة فيها ويزاد عليه قواعد اللغة، ولكن ليست القواعد التي بين أيدي التلاميذ الآن، بل القواعد التي سأقدم مشروعها، والتي تجمع الصدق والوضوح والسهولة.
يجب ألا تقل العناية بالحفظ والمطالعة في هذه المرحلة بل يجب أن تزيد، ويجب كما قلن أن تؤلف لهم روايات تمثيلية أخلاقية يحفظون أدوارها ويقومون بتمثيلها.
ويجب كما قلنا أيضاً أن يكلف التلاميذ بنخل دواوين الأدب واختيار أحسن ما يقرؤون، وأن تعطى درجات لمن قام بعمل ذاتي في أيام العطلة الصيفية في الحفظ والمطالعة.
أما مرحلة التعليم العالي فهي كمرحلة التعليم الثانوي في الحفظ والمطالعة والقواعد، ولكن يجب أن يتعمق في درس هذه القواعد، وفي بحث أصولها وفي الموازنة بين مذاهب العلماء فيها
فأما خلق جو عربي في المدرسة أو في دروس اللغة العربية خاصة لا يتكلم الطلاب والمدرسون فيه إلا باللغة العربية، وتكليف التلاميذ بكتابة موضوعات ينشئونها فقد سبقت الإشارة إليها فيجب أن تدخل في البرنامج الجديد لتعليم اللغة.
وينبغي أن يعلم أن تكليف التلاميذ بموضوعات ينشئونها ليس لغواً في طريقتنا كما هو لغو في الطريقة الأولى، لأن الطريقة الأولى كانت تكلفهم الإنشاء وليس عندهم معاني يكتبونها لقلة ما يطالعون وما يحفظون، وليست عندهم ملكة اللغة العربية - أما في الطريقة الحديثة فهي تكلفهم الإنشاء وعندهم معان خلقتها والحفظ والاطلاع على آراء العلماء، وهي تكلفهم وقد رسخت في نفوسهم ملكة اللغة بالحفظ والمطالعة والحديث، وسيسر ذلك المعلمين ويجعل الدرس لذيذاً لأنهم إذ يصححون كراسات التلاميذ في الإنشاء لا يطلعون على لغو من القول يقضي العين ويغثي النفس كما كان في الماضي؛ بل يطلعون على أقوال لها حرمتها ومكانتها إذ هي بنت المطالعة الكثيرة والدرس الطويل.
ذلك أسلوب نراه كفيلاً بكل ما نريد من رقي لغوي وبياني لأنه كفيل بتكوين الملكات في اللغة والبيان، وبهذه الملكات تفهم اللغة وتتذوق أولاً، وتفهم أصولها وقواعدها ثانياً، ونراه كفيلاً أيضاً بإمتاع المتعلم وإلذاذه، وكفيلاً بفائدته وخيره.
فأما إمتاع التعليم بهذه الطريقة فإنها تعلم اللغة بآداب السالفين، وحكم الماضين، وبالأشعار البليغة، والخطب الفصيحة، وتواريخ الأمم، وفي كل ذلك غذاء للعقل، وإرضاء للقلب، وإمتاع للعاطفة؛ والمرء يسر ويأنس للخبر الغريب، والنادرة الطريفة، والحكمة النافعة، والمثل السائر، والجواب المسكت، والقول السديد، والرأي الحميد، وهذا كل جعل في الطريقة الحديثة مادة لتعليم اللغة، يطالع فيه، ويحفظ منه، والقول إن كان بليغاً، والمعاني إذا كانت رائعة أنست بها النفوس، وهشت لها، ووجدت فيها المتعة واللذة
وأما الفائدة فأي فائدة أعظم من التأدب بآداب العلماء، والاطلاع على حكمة الحكماء، والانتفاع بتجارب ذوي التجارب، وهذا كله جعل في طريق تعليم اللغة، والكلمة الطيبة إذا نزلت بالنفس وعلقت بها واستوثقت منها، وأيقنت بها، فإنها تكون هادية ومرشدة، ينتفع بها المرء في غدوه ورواحه، وصبحه ومسائه، كما قال الله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)
والمرء ما عاش بحاجة إلى الأدب الذي به تعمر القلوب، وتزكو النفوس. قال عبد الله بن المقفع: (ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل. ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر والغلبة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا،) وإن المرء قد يفيده الحرف من الأدب ويكون أرد عليه من جيش عرمرم. قال معاوية: لقد رأيتني وأنا أهم بالفرار يوم صفين وما يمنعني إلا قول الشاعر
وقولي كلما جشأت وجاشت، مكانك تحمدي أو تستريحي فأين من هذا كله القواعد وليس فيها متعة ولا لذة، فليست عاطفية حتى تثير العاطفة والوجدان، وليس عقلية حتى تكون فيها لذة المعقولات لمن اعتاد المعقولات، إنما اللغة مواضعة واصطلاح، وقواعد اللغة شرح وتفسير لهذا الاصطلاح، وليس فيها إلا بعض علل عقلية، وهذا مغمور وسط علل مدخولة، وأسباب غير معقولة.
وكما أنها لا تثير لذة، ولا تبعث متعة، كذلك لا تحصل منها على فائدة. وما الفائدة منها وهي ليست حكمة ولا مثلاً ولا شرحا لقانون من قوانين الحياة، وهي تبعد عن الحياة وتجاربها وعن محيطها الواسع، وبحرها الجياش المضطرب، وأن الذي يقرأ كتاباً في القواعد كالأشموني أو المطول، يخرج منه ولم يستفد خبرة بالحياة، بخلاف من يقرأ كتاباً كالكامل لأبي العباس المبرد، أو البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؛ فإنه يخرج منه بحكمة الدهور وعظة الأيام، ومهما فاته فلن تفوته حكمة أو تجربة، هي عصارة عصور، وخلاصة دهور.
وما أظن الأمم الإسلامية منيت بما منيت به، بعد العز والمنعة والقوة والصولة إلا من شغل علمائها وخاصتها طول عمرهم بكتب القواعد التي لا تكشف إلا عن طرف يسير جداً من هذا الكون الواسع، أو بالحرى لا تكشف عن شيء إلا عن مواضعة واصطلاح وتفسير لهذه المواضعة وهذا الاصطلاح، ومن انصرافهم عن هذا الكون الفسيح وعلومه، وعلل حوادثه وأسبابها، وشؤون النفوس وخواطرها، وتزكيتها وتدسيتها
ما هذا الحظ العاثر! قد جمع لنا المتقدمون أبواب الحكمة وتجارب الحياة، وكانوا أحرص الناس على حفظها حتى ينتفع بها من بعدهم، وكان حرياً بنا أن نغترف من هذه الموارد العذبة، ونستقي من هذا السلسبيل الصافي، فكان نصيب النافع منا الإعراض والنفور، ونصيب غيره الإقبال عليه، والكلف به
أي شيء أنفع وأجدى من حكم أفادها أصحابها بعد التجارب المرة، والعثار والخيبة، والتردي والسقوط، وبعد النيل تارة، والإخفاق تارات، وبعد أن ذاقوا حلو الحياة ومرها، وصفوها وشوبها، فأفادتهم التجارب علماً، فجمعوا هذا العلم في جمل قصيرة، وحروف قليلة، لتكون أقل كلفة، وأيسر مؤونة، يسهل حفظها وادخارها إلى وقت الحاجة لينتفع بها
وهنا شيء أرى من الواجب علي أن أنبه عليه، وهو أن اسم الأدب أطلق كذباً وزوراً على تلك الأبيات من النسيب والغزل المذكر والمؤنث، وعلى وصف الخمر ومجالس الشراب، وعلى أبيات البطالة والعجز، وعلى أخبار الفساق والمجان، فيجب أن يتحرز من هذه ولا تدخل في مطالعات التلاميذ ومحفوظاتهم لأن تأثيرها على الأخلاق شديد، وإفسادها للمروءات عظيم، فكم من مستقيم أخرجه عكوفه على هذا الأدب الزائف عن استقامته، وكم من جاد همه المعالي وعظائم الأمور صيره هذا الأدب الزائف مسفاً ضئيل الأمل. ولا يصح أن ينكر هذا كله؛ فإن تأثير القول في النفوس عظيم، ونقضه للأسباب المتينة قوي. ويجب إذ آمنا بتأثير الكلمة الصالحة في النفوس أن نؤمن بتأثير الكلمة السيئة فيها أيضاً؛ فإن المعاني إذا كسيت الألفاظ الرائعة، والنظم البارع كانت حبيبة إلى كل نفس، وكانت مداخلها إلى النفوس خفية، ونقضها للطبائع المحكمة عظيما. ولأمر ما حذر النبي (ص) من كل منافق جهول القلب عليم اللسان.
وإذا دار الأمر بين تعليم اللغة من سبيل هذا الأدب الزائف وجهلها - اخترنا جهلها، لأنه خير لنا أن نعرب في أفعالنا ونلحن في أقوالنا من أن نعرب في أقوالنا ونلحن في أفعالنا
الآن أشعر بما يشعر به من كان يحمل حملاً ثقيلاً فمشى به أميالاً في صحراء محرقة حتى ارفض عرقاً، وتقطعت أنفاسه تعباً، ثم بلغ به مستراحاً ومقيلاً، فرمى بحمله وجلس بجانبه، فشعر بالراحة من ذلك الحمل الذي بهظه وأنقض ظهره.
أشعر بذلك لأنه كان حملاً ثقيلاً تلك الأمانة التي أخذ الله على العلماء ألا يدخروا نصحاً ولا يجدوا سبيلاً لرفع أممهم إلا أرشدوهم إليه، ونبهوهم عليه، وقد كان يحزنني أن تعلمني التجارب ما علمتني من قيمة القواعد في تعليم اللغة، وضرر الشغل بها عن علوم الحياة ثم أكتمه ولا أبوح به. والآن ولله الحمد قد خرجت من عهدة الكتمان، فبحت به، ولم أكتف بالبوح حتى أعلنته، ولم أكتف بالإعلان حتى دللت عليه. ولم أكتف بالتدليل حتى صرفت القول على وجوه شتى من التزيين والتقبيح والترغيب والتحذير. الآن وضعت الحمل وحمله آخرون.
محمد عرفة