مجلة الرسالة/العدد 53/بين الشك والإيمان
مجلة الرسالة/العدد 53/بين الشك والإيمان
الشاعر الإيطالي (ليوباردي)
'
1798 - 1837
للأستاذ خليل هنداوي
(أيتها الشريعة الجميلة! أنت ستعيشين طويلا معصومة من كل خطأ، وإذا هاجمنا الضلال نعوج إليك ونجد الحقيقة تحت ردائك، ويدك وحدها تقودنا إلى شاطئ السلام)
(ليوباردي)
- 1 -
في نفس (ليوباردي) سكن الألم الممض والشك العنيف متجاورين. فجعلا منه - في العمر الذي يبسم فيه كل شيء - شاعراً يحمل للناس مقاطع الأحزان، ونفاثات الأشجان.
قضى أيامه الأولى يساوره الداء من ناحية، والدرس والاعتزال ينهكان قواه من ناحية ثانية، على أن الدرس برغم متاعبه كان ينفخ فيه روح النشاط فيهب، ويحى أهواءه النائمة فتحيا.
كان لوالده الكونت (مونالدو) شغف بالأدب، يعوج إلى مجالسه وندواته، وقد بعثه شغفه هذا على أن يغرس في ولده هذه الروح، وأن يسهل له إدراكه. فكان أدبه الأول أدب إيمان وتقوى، يتعصب لهذا الأدب، ويحله من صدره أسمى مكان، ويحسب من لا يؤمن به جاهلا، وهو القائل في ساعات شكه وجموده (أيتها الشريعة، انك ستعيشين طويلاً معصومة من كل خطأ، وإذا هاجمنا الضلال نعوج اليك، ونجد الحقيقة تحت ردائك، ويفر الضلال فرار الذئب من الراعي، ويدك وحدها تقودنا إلى السلام)
- 2 -
كان الدافع الأول إلى شك (ليوباردي) هو سأمه من كل شيء في بلده، قال في إحدى رسائله (لا تحدثوني عن (ريكاناني) إنني سأحب وطني عندما أغدو بعيداً عنه، ماذا في ريكاناني؟ هل تنظرون ما أستطيع صنعه هنا؟ فالكل يجهلونني، وأنا مؤثر الحياة في هذا الوطن الذي لا تعرفونه بدون معجم جغرافي، مستخف بكل شيء. الآن صنع الإله الوجود جميلاً، والناس يصفون العظائم في كل الأنحاء، وهنالك كثيرون من الرجال يعدون بلهاء لأنهم جربوا أن يروا وأن يعرفوا! الأرض ملأى بالعجائب)
وهكذا قضى أيامه الأولي مغترباً عن أبيه الذي دعاه مراراً وتكراراً إلى العودة، وهو يأبى ويصر على البعد إصراراً. كتب له أبوه، (وما هي الحاجة الماسة التي تدعوك إلى هجرة دارك وأهلك إلى دار لا تتمتع فيها بمثل عطفي ورضاي؟) ولكن ليوباردي كان يهمل كثيراً هذه الأسئلة، وإذا أجاب أجاب بنفس ناقمة غاضبة ثائرة، يكتب إلى أحد أصدقائه (لأسهل عليك أن تحرك الجبل من أن تدفعه (والده) إلى صنع شيء من أجلي) ثم يقول: (على أنني اخترت هذه المرحلة؛ فلا آخذ منه شيئا، ولا أطلب شيئاً) وهكذا يغلب الكبرياء على ليوباردي ويصبح شقاؤه شقاء جباراً.
أوى ليوباردي إلى الدرس يجد فيه لذته النفسية، ولكن هل كان الدرس كله راحته من عنائه، وهناءه في شقائه؟ كتب في أحد كتبه يعبر عما يجد في ساعة الدرس:
(إن سبب تعسي هو عقلي، إنني أظن أنكم تعرفون، ولكني أثق بأنكم تجهلون كيف يقتل العقل صاحبه الذي يحاول أن يفكر على غير ما يفكر به الآخرون، عندما لا يكون لهذا الصاحب من لهو غير لهو الدرس. . أما العقل فقد أعطاني ويعطيني أمثال هؤلاء الشهداء، وبهذا وحده يفرض سلطته عليَّ ويكون سبب أذاتي. وسوف يقتلني إذا لم أبدل خطتي! ألا إن العزلة ما خلقت لمن يحترقون بأنفاسهم ويذوبون بأنفسهم)
بلى! ما كان أصدق ليوباردي في كلمته الأخيرة! لأنه كان معبراً عن حالة نفسية هي فيه. فقد تسرب إليه الداء حتى أنهك قواه فشح ناظراه وساءت صحته وركبته العلة إثر العلة. ووقر على ظهره عبث الحياة فقال (إنني ناضج للموت). ولكن الموت كان يرى هذه الثمرة غير ناضجة، فتركها عشرين عاما تنضج خلالها وتحمل من آلام الحياة ما ينوء بالجبابرة حمله، تائهاً ضالاً في مسارب الشك، مستجلياً الحقيقة كما استجلاها من قبله، طالبا ما تعده من وصل، ووعدها بالوصل علالة.
أما نظرته الحادة وصوته المرنان وتألق نفسه وكل تلك الملامح القوية التي مثلها - سانت بوف - قد تغيرت في أخريات أيامه وإنما غيرها وقر الهم لا وقر الهرم، وإذا بليوباردي كما يصفه (رانيري) صديقه الوفي (ذو قامة مقوسة، ولون أبيض مشرب بصفرة، وجبهة مربعة عريضة، وعينان زرقاوين ذابلتين، وأنف دقيق، ولهجة مبهمة جافة، وبسمه ترافقها العذوبة والشقاء)
وهو يكتب عن نفسه:
(وأخيراً أتعبتني تلك الأعوام التي قضيتها في الدرس وأودت بجسدي، حتى لا يرجى لي شفاء غير الموت. وهكذا حطمت رجائي لأفهم أن الطرب لا يلائم قلبي. وإذ ذاك وجب على أن أرتدي ثياب الحداد وأن أتخذ التشاؤم رفيقاً لي لا يمكن فصله عنى إلى الأبد، نظرتُ فألفيت أن حياتي لا يمكن أن تكون إلا تعسة، ولكن هذا لم يبعثني على اليأس، فحبذا لو أن قواي تحملها بدون خوف وتحولها إلى شيء مفيد بعض الشيء)
وهكذا نستطيع أن ندرك أن أهم العوامل التي تألبت على هذا القلب فبدلت إيمانه شكلاً معذباً إنما هي عوامل جسدية ونفسية تضافرت على نضاله، وما فتئت تلح عليه وتنال منه، حتى تركته لا يهديه إلا شك، ولا يقنعه إلا جحود.
- 3 -
في هذه العزلة الموحشة التي اختارها لنفسه ارتبط مع الأديب الإيطالي (بيانرو جيورداتي) بصلات مودة متينة، وكان نجم هذا الأديب متألقاً في سماء بلاده، وهو ممن طرح القديم وأعلن شكه فيه، وراقت له المذاهب الجديدة فأخذ بها، فتمنى لو يرى ليوباردي بعد أن سمع عنه الشيء الكثير، فقصده في عزلته فمال إليه وأعجب به وكتب عنه (إذا كان دانتي نجمة صبح في سماء إيطاليا، فان ليوباردي هو نجمة مسائها)
لليوباردي صفحة مؤثرة كتبها في ليلة تحت أضواء القمر والنجوم المشعة، ذاهبة نفسه في الليل العميق كل مذهب:
(وفي ذلك المساء كانت نافذتي مفتوحة، وناظري يتمتع في هذا الصفاء السماوي وشعاع القمر المتهادي. أتروّح نسيماً عليلاً، وأصغي إلى عواء الكلاب المتناوحة في مواطن قصية عني. فخيل إلى أن صوراً ترقى إلى نفسي وأن قلبي يتسلط عليه قلق غريب، فهتفت كمن أصابه مس، طالباً رحمة الطبيعة التي خيل إليّ أنها تسمعني. في هذه اللحظة ألقيت أنظاري على ماضي، فتجمدت من الخشية أعضائي، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن الناس أن يتحملوا الحياة بدون أوهام ولا أفراح ولا عواطف، بدون خيال ولا هيام، وبدون ما كان يملأ وجودي قبل عام، ويجعلني سعيداً برغم مخاوفي، أما اليوم فإنني يابس كالقصبة، لا عاطفة تتمشى في حنايا نفسي البائسة، وقوة الحب الخالد الطلقة قد ماتت وهلكت في العمر الذي أنا فيه).
كم مرة ذكر ليوباردي هذه الليلة العنيفة! وكم مرة تمثلت له هذه الليلة وهو ينظر في المروج الفضية الهادئة يغمرها نور القمر وهو ينجلي وراء (الابينين، وقمم الألب الشامخة) أو يتهادى على حضن البحر اللانهائي، وسائق العجلة يردد أغنيته الحزينة، مودعا آخر شعاع النهار، ثم يردد الشاعر: (وهكذا يغادر الشباب الحياة ويتركها تخمد رويداً رويداً، والأوهام الجميلة تتطاير مع الآمال التي كانت مساعدة للإنسان، ولكن أنتن أيتها الروابي التي ينحدر عنها النور، أنتن لن يغشاكن الظلام طويلا. . . ولكن حياة الإنسان بعد فرار الشباب لن يُلوَّنها شيء، وستظل غريبة حتى النهاية. . . والقبر وحده هو الذي يضع حداً لليل عمرنا!)
وفي عام 1818 نظف الشاعر رأسه من كل شيء. طلق الإيمان وودع الأوهام، فبقي وحده وسط خرائب جسده وروحه إزاء عالم فارغ وتحت سماء من نحاس، ومنذ ذلك العهد لم يتغنّ الشاعر إلا بأنشودة الشك التي رافقته حتى ودَّع الحياة.
- 4 -
وأخيراً نزع عنه الشك العابس كل إيمان بالله والخلود والعناية، فتلاشى منه كل شيء وانصرف عنه كل شيء، فلا آله عنده غير الطبيعة، تلك القوة العمياء التي لا تُدرك، يسألها عن سر الأشياء فتجيبه (وأنا طائعة للمقادير، أما أسباب الأشياء فهي ألغاز، لا أنا ولا أنت نستطيع إدراكها، فالأجدر ببني الإنسان أن يصرفوا عيونهم عن هذه الألغاز التي تقلقهم، فإن حلها كما خُيِّل إلينا انه صار قريباً زاد عنا بعداً)
لننظر ما هو الإيمان الجديد الذي اعتنقه الشاعر في بعض مقطوعاته (مومياء تُبعث) بعثاً مقيداً بلحظة زمنية، يسألها فيها (كيف ماتوا وماذا وراء الموت)؟ ولكنها تجيب (اسكت! لم يحن وقت الجواب. . .) وهكذا تكر هذه اللحظة، وتعود المومياء إلى رقادها الأبدي.
وهنالك مقطوعة صغيرة تدور حول رجل (ايزلاندي) فرّ في الأرض على وجهه من الطبيعة، ولكنه تلاقى معها في وسط الصحراء، فألح عليها بأسئلة كثيرة منها هذا التأنيب:
(لماذا قذفتِ بي في هذا العالم دون استشارتي، ولماذا بعد إيجادك لي لم تشغلي نفسك فيَّ؟ فما هي غايتك؟ وما عسى تبتغين؟ وماذا تريدين؟ هل أنت لئيمة أم عاجزة؟)
فأجابته الطبيعة: بأن ليس لها إلا سأم واحد وواجب واحد أن , تُدير دولاب العالم دورة واحدة يناجي فيها الموت الحياة، والحياة الموت. وإذ ذاك سألها الرجل (ومن عسى يبتهج بحياة هذا العالم الذي لا يبقى ولا يدوم إلا بموت كل الأجزاء التي تولف عناصره؟ ولكن الطبيعة لم تجشم نفسها عناء الجواب. . . وإذ ذاك انقض أسدان جائعان عليه فالتهماه فهوى هيكله على التراب منتظراً أن يسقط كلاهما بدورهما على رمال الصحراء.
السكوت هو الجواب البليغ على هذه الأحاجي والأسرار، لأن المستقصي عنها لن يرى إلا جداراً يعثر به ويدفعه إلى الوراء، وإذا سار فلن يسير إلا في صحراء لا يجد منها مخرجاً.
لم يختر ليوباردي شيئاً من حياة المستقبل ولا الحاضر، ولم ينظر إلى مستقبل الإنسانية، ولم يجرب أن يقف هواه على شيء في الحياة، وإذ أراد أن يمجد وطنه فلن يرى شيئاً جديراً بالتمجيد إلا ذلك الماضي، أما الغد فهو لا يؤمن به
(أيها الأسلاف العظماء، ألا تزالون تصونون لديكم شيئاً من الرجاء فينا؟ ألم نهلك نحن جميعاً؟ إنني محطم لا أملك أية قدرة أجابه بها الشقاء، أما المستقبل فهو جهنم في عيني، والذي أتبينه هو الذي يريني الأمل حلماً أو جنوناً)
لهجته - أينما صعدت - مبطنة بالكآبة العميقة التي لا يخفف منها مجد ولا علاء. يُسألُ عن الرجل العظيم فيقول (هو اسم سرعان ما يصبح كاللاشيء. إن فكرة الجميل تتبدل دائما مع الزمن. فالمسائل العلمية سرعان ما يتفوق عليها غيرها وتصبح نسياً منسيا، وإن أدنى رجل رياضي منا يعرف أكثر مما يعرف (غاليلو ونيوتن) فالمجد ما هو إلا خيال، والبراعة التي تكون مكافأة للمجد ليست إلا حاضراً مشؤوماً لمن يتقبلها) ثم يتكلم عن دانتي ويقول. (وعلى هذه الأرض القبيحة لم يؤثر إلا الجحيم، وأي منزل في الحقيقة لا يفضل على منازلنا الأرضية، إن الشقاء الذي يؤلمنا هو أقل ثقلاً وأقل شراً من السأم الذي يخنقنا.
ألا أيها السعيد، أنت الذي حياتك في بكائك) وينظر ليوباردي إلى المستقبل نظرة سوداء ويعتقد أن الأجيال تسفل ولا ترتقي، ويسخر من المتأملين في تسامي الأحفاد
هنالك راع يخطر على قمم جبال (هملايا) متكئاً على عصاه يطيل التأمل في السكون المحيط به، وينظر إلى القمر الهائم مثله في السماء فيسأله: (قل لي أيها القمر! ما قيمة حياة الراعي، وما قيمة حياتك أنت؟ بل ما قيمة حجى الفقير وسُراك الأبدي؟ أنت أيها المسافر المنعزل الخالد والملك المفكر، ربما تفهم أنت حياتنا وآلامنا وتنهداتنا، وربما تفهم الموت والصفرة السامية، وسفر الأرض ووداع الصداقات الجميلة. انك بلا شك تفهم أسرار كل هذه الأشياء ولكني لا افهم ولا أعرف إلا شيئاً واحداً. ليأخذ البعض من هذه الحياة خير ما فيها، يستنقذونه من ثوراتها الهوجاء ومن كائناتها الضئيلة. قد يمكن لهم ذلك. ولكن الحياة هي شر من اجلي)
وهل في هذه القطعة إلا اليأس من الحياة والكفر بها في شعر جميل
يتبع
خليل هنداوي