مجلة الرسالة/العدد 524/وفود العرب على كسرى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 524/وفود العرب على كسرى

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 07 - 1943



لأستاذ جليل

الشاعر الناثر الأستاذ محمد عبد الغني حسن في مقالته اللطيفة (الخطابة بين الحرب والسياسة) في الرسالة (521) ص (510) يشير إلى قصة (وفود العرب على كسرى) ويستشهد بكلام للحارث بن ظالم دليلاً على حذق الخطيب وسرعة خاطره. ولا ريب في أن الأستاذ قدر في نفسه صحة الحكاية. والحق - والحقيقة إن ساءت سرت - أن هذا الخبر الذي أورده ابن عبد ربه في (العقد) وصاحب (تحفة الإخلاء في كتابه أسطورة مصوغة. وقد كان هذا الضعيف أول من عالن بصوغ الخبر فقال سنة (1343):

(. . . وإن كتب العلم لتنبئنا بأن الرواة كانوا يتقربون إلى الخلفاء والسلاطين والنبهاء في الدولة برواياتهم، فكانوا يضعون الأحاديث، ويختلقون ما لم يكن ابتغاء خير يأملونه عند من يحملون سلعتهم الأدبية إليه أو أجل تبريزهم على أقرانهم برواية قول أو شعر استبدوا هم بمعرفته. وربما صاغ العلماء والأدباء الحديث لينصروا مقالة لهم أو نحلة. . . وعُدَّ من الموضوع أيضاً مقالة النعمان في النضح عن أحساب العرب وكلام الذين أوفدهم ابن ماء السماء إلى سلطان فارس فإنه مزور مختلق لم يقله النعمان ولا جماعته ولن يستجرئوا على مثله، ولن يجوز العقل أن يقعد ابن الأكاسرة لاستماع ثرثرة كل مهذار نفاج ويفرغ لشهود عجرفة المتعجرف وعنجهيته. ومن الموضوع أيضاً كلام وفود قريش على سيف بن ذي يزن، وحديث عبد المطلب بن هاشم، وحديث عبد المسيح بن نفيلة مع خاله سطيح، وحديث خنافر الحميري مع رَئِيه شُصار فإن هذه الأحاديث أعرق قول في الاختلاق. والدليل على ذلك علمي عقلي فليرجع إلى كتاب العقد والأمالي من أحب وليتأمل ذلك بعين العقل، ولا يسألنا سرد الأدلة فالموقف حرج، واللبيب تكفيه اللمحة الدالة، و (من لا يعرف الوحي (الإشارة) أحمق)

ثم جاء عالم من علماء القاهرة مشهور فأيد في مصنف له القول في اختلاق تلك الحكاية، حكاية الوفود، ولن يضير - إن شاء الله تعالى - تلك الأخبار من الوجهة اللغوية والأدبية ضائر. ومما يسر أنها لفقت والعربية بليغة فصيحة صحيحة قوية. وإن خيل أن أولئك الصواغين أو الصياغين قد أحفظوا طلاب الحقائق التاريخية بما وضعوا، فقد أحسنوا بم صنعوا، إذ خدموا - والحق يقال - لغة (الكتاب) وهل كان لنا هذا التراث، هذه الثروة اللغوية الثمينة لولا تلكم المصوغات المزخرفات؟

وإنا لموقنون أن القوم ما قصدوا في كثير مما لفقوا إساءة و (إنما الأعمال بالنيات) وإن أساءوا وأحسنوا فـ (إن الحسنات يذهبن السيئات)

وبعد فمن مبدع ذلك الخبر؟

ابن عبد ربه وصاحب (تحفة الأخلاء) نقله. وقد روى ياقوت في سيرة (الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي) أن من تصانيفه كتاب وفود النعمان على كسرى

فهل صاحب هذا الكتاب هو (الصائغ) المحسن؟

قال الذهبي في (الميزان): الزبير بن بكار الإمام صاحب النسب، كان ثقة من أوعية العلم، لا يلتفت إلى قول أحمد بن علي السليماني حيث ذكره في عداد من يضع الحديث، وقال مرة: منكر الحديث

(قلت): لا يضير أن يلتفت إلى ما ذكره السليماني، وإذا ثبت قوله في ابن بكار فمن يضع الحديث النبوي يضع الحديث الأدبي

وذكر ابن خلكان وياقوت هذه القصة وخلاصتها أن الزبير دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر فأكرمه وعظمه، وقال له إن باعدت بيننا الأنساب فقد قربت بيننا الآداب. ولما ودعه قال: إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شيئاً نرويه عنك

قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت؟

قال: بل بما شاهدت

قال: نعم، بينما أنا في مسيري هذا أبصرت جماعة مجتمعة، فأقبلت إليهم، وإذا برجل كان يقنص الظباء، وقد وقع ظبي في حبالته، فذبحه فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فنشب القرن فيه فمات، وإذا بفتاة كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميتاً شهقت ثم قالت أبياتاً منها:

أضحت فتاة بني نهد علانية ... وبَعلها في أكف القوم محتمل

ثم شهقت فماتت. فما رأيت أعجب من الثلاثة: الظبي مذبوح، والرجل جريح ميت، والفتاة ميتة. فلما خرج قال الأمير محمد بن عبد الله: أي شيء أفدنا من الشيخ؟ قالوا: الأمير أعلم

قال: قوله (أضحت فتاة بني نهد علانية) أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل اليوم

(قلت): إنها لقصة كيسة وإن فيها لفائدة وإن لم يكن مما خرف الشيخ به شيء

(ن)