مجلة الرسالة/العدد 524/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 524/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 07 - 1943


للدكتور زكي مبارك

جبرائيل تقلا باشا - مصادر الثروة اللغوية - محاكمة العقاد!

جبرائيل تقلا باشا

قرأت أكثر ما كتب في رثاء الصحفي الكبير جبرائيل تقلا باشا، ورأيت كيف ختمت حياته بتبجيل وتعظيم وإجلال، فماذا بقي من القول بعد تلك الصحائف من جميل الرثاء!

لم يبقى إلا أن أشير إلى بعض السر في نجاح ذلك الرجل، لأن حياته تصلح قدوة لرجال الأعمال

أذكر أولاً أن الرجل جعل الغاية من حياته أن يكون صاحب أكبر جريدة في الشرق، وهي غاية تمثلت له بوضوح، وبدت له في عظمة تستحق بذل العمر كله في صيانتها من عوارض الضعف والاضمحلال

وأذكر ثانياً أن الرجل رأى أن الأعمال العظيمة لا تنهض بغير معاونين أمناء، فجعل من خطته أن يكون الاشتراك في تحرير (الأهرام) ضمانة من المتاعب المعاشية بحيث لا يحتاج من يعمل معه إلى التفكير في صحبة غيره، ولو كان ذلك الغير شخصية تحمل أضخم الألقاب

وأذكر ثالثاً أن الرجل نزه جريدته عن الأذى بجميع صوره فعاش بلا أعداء، وهذا الجانب من الحياة الصحفية يوجب ألواناً من جهاد النفس لا يصبر عليها غير كبار القلوب

والذي يتصور ما صنع هذا الرجل لجريدته يعجب من براعته وقدرته على التصرف، فللأهرام مكاتب كثيرة في الغرب والشرق، وما كان يمكن أن تقوم تلك المكاتب بدون أن تكون الثقة بهمته وكفايته وأمانته مضرب الأمثال

وهنالك جانب سكت عنه من رثوا هذا الرجل، فما ذلك الجانب؟

هو فهمه الدقيق للأحوال الجوية، فكان يعرف ما يُلبس. لكل وقت، فلم يتعرض للحر ولا للبرد، وكانت الحكومات المتعاقبة تعجب من فهمه ذاك، ولا يؤذيها أن يكون في مصر صحفيٌّ يعرف اتجاهات الرياح قبل هبوبها

ومع هذا قتلته مروحة غزت صدره بهواء عجز عن دفعه الأطباء، ولكل أجل كتاب.

وسبحان من تفرد بالبقاء

مصادر الثروة اللغوية

من الكلمة التي نشرتها (الرسالة) لحضرة الأستاذ عبد الحميد عنتر فهمت أنه يقصر المحصول اللغوي على المأثور عن (العرب العرباء) وهي الأمة التي شهدت العصر الجاهلي وصدر العصر الإسلامي، وفي هذا القول رجعة إلى أقوال كانت ترى أن اللغة ختمت بالأقفال بعد هذين العصرين، وهو قول كان يجد من يطمئن إليه قبل أن تتفتح العقول إلى النظر الصادق في العصر الحديث

وأقول أن مصادر الثروة اللغوية عندنا هي ما نطق به العرب في جميع العصور وفي جميع البلاد، ولو كان فيه دخيل، وأقول أيضاً إن وجود الألفاظ الدخيلة في أي لغة يشهد لها بالحيوية، لأنه يدل على أنها أخذت وأعطت، واللغة التي تسلم سلامة تامة من الألفاظ الدخيلة لا توجد إلا في قبائل المحصورة بين جدران الجهل والركود

وعندي أنه يمكن الحكم بأن شعراء الجاهلية لم يكونوا يملكون من الثروة اللغوية مثل الذي نملك، لأنهم عاشوا في آفاق محدودة، ولأن التفوق اللغوي لم يكن من المقاصد التي يشغل بها الناس في القديم على نحو ما يشغلون في هذا الزمان

فكلمة (العرب العرباء) كلمة طنانة، ولكنها لا تنفع بشيء، فمجد العرب الحق، المجد الذي بجله التاريخ، وهو مجدهم بعد الفتوحات الإسلامية، وبعد أخذهم ما استطابوا من مواريث الشعوب

وهنا حقيقة لم تأخذ قسطها من الالتفات، وهي فضل الدخيل في إمداد اللغة العربية بالثروة لعهد الجاهلية. وبيان ذلك أن جاهلية العرب الملحوظة هي جاهلية قريش، وقريش لم تعرف حياة العزلة بسبب (البيت)، فقد جمع حولها الناس، وعرفها ما لم تكن تعرف من طرائق المعاش، وطرائف الخيال

كان للعرب في الجاهلية ما يزيد عن سبع لغات، وكان من الصعب أن يتفاهم أهل الشمال مع أهل الجنوب، فكيف ضعضعت تلك اللغات وبقيت لغة قريش؟ يرجع الفضل إلى (البيت) أولاً والى الإسلام ثانياً، ولكن كيف اتفق ذلك ولم تكن مهمة البيت مهمة لغوية ولا كانت رسالة الإسلام رسالة لغوية؟ يرجع السبب إلى أن الضجيج الاجتماعي والجدال الديني والسياسي مما يزيد في ثروة اللغات. ومن هنا نجد في القرآن وفي الأحاديث ألفاظاً أجنبية منقولة من اللغات الفارسية والعبرانية واليونانية والحبشية والمصرية، لأن ذلك الضجيج وذلك الجدال قضيا باقتباس تلك الألفاظ من تلك اللغات. وكذلك الحال في كل لغة تعرف أهلها إلى طوائف من الشعوب

قولوا الحق، أيها الناس

هل كان العرب الذين تلقوا القرآن يلتفتون إلى أن كلمة (سندس) كلمة فارسية وأن كلمة (اليم) كلمة مصرية؟

إن تنقية اللغات من الدخيل فكرة حديثة العهد بالوجود في أكثر بقاع الأرض، ولعلها لم تعرف إلا بسبب العصبية العنصرية، كالذي وقع حين رأى الفردوس أن تخلو (الشهنامة) من الألفاظ العربية فيما قبل، وكالذي وقع من الأتراك فيما بعد، وهذه وتلك من النزعات الشعوبية، وهي نزعات تزيد في نفرة الأمم بعضها من بعض، بلا نفع ولا غناء

وإذا جاز هجر الألفاظ المنقولة من لغات أجنبية فكيف يجوز هجر الألفاظ الأصيلة في اللغة العربية؟

أنا أشوف أن الأستاذ عنتر يجانب الصواب حين ينكر كلمة (شاف) بمعنى (أبصر) مع أن العرب قالوا تشوف بمعنى تطلع

أنا أشوف أنه أخطأ حين قال: (إن كتب التاريخ ليست متون لغة يعتمد عليها في إثبات الكلمات العربية)، فأكثر المؤرخين أدباء فضلاء، ومؤلفاتهم تعد من المراجع اللغوية

قال ابن مسكويه (وخرج الجند بالبوقات والطبول) وهو كاتب فحل يكاد يعاصر المتنبي، أفلا يكون كلامه شاهداً على أن (البوقات) كانت كلمة اصطلاحية في ذلك الحين، وهل كان يصعب على المتنبي أن يقول (أبواق) لو كانت هي الكلمة التي يريد؟

وهل نخطئ المتنبي لنصوب من نقدوه عن جهل، ولنصوب من نقلوا ذلك النقد المنحرف بلا بصيرة ولا يقين؟

وما الرأي في كلمة (مستشزرات) التي عابوها على امرئ القيس منذ اشتغلوا بعلم البلاغة إلى اليوم؟

ما الرأي وهي أفصح الكلمة في هذا البيت: غدائره مستشزراتٌ إلى العُلا ... تضل المدارى في مثَّنى ومُرسَل

ثَقُلت عليهم الكلمة فعابوها، مع أن ثقلها مقصود، لأنها بهذا الوصف تمثل ما أراد أمرئ القيس

ولو طاوعناهم لحذفنا من اللغة كل لفظة تعوزها النعومة واللين، وهذا مطمح لن يصلوا إليه، لأن اللفظ الوعر في موطنه مقبول ومنشود

وأنكر الأستاذ لفظة بحرة وقال إنها لفظة لا تعرفها لغة العرب، فليرجع إليها غير مأمور في القاموس المحيط

وأنكر كلمة طبلة. فهل يرى الاستغناء عنها بكلمة طبل؟

وأنكر كلمة بوقة، فهل يرجع إليها في تاج العروس؟

وأنكر كلمة ربعة، فهل يضع مكانها الربع وهي أصغر من الربع؟

وقال إن جمع صناعة على صنائع لم يرد في منظوم الكلام ولا منثوره، فهل يدفع ديناراً على كل شاهد لأظفر منه بمائة دينار أطبع بها كتاب (أدب الشواطئ)؟

أما بعد فإن مصادر الثروة اللغوية عندنا هي ما نطق به العرب في جميع العصور وفي جميع البلاد، ونحن نكره أن يكون محصولنا اللغوي محصول جيل أو جيلين، ونحن مع هذا لا نرحب إلا بالكلمات المأنوسة التي صارت نصاً في الدلالة على أشياء لا يدل عليها بغير تلك الكلمات

الكاتب البليغ والشاعر المجيد هما أعرف الناس بسرائر اللغة، وإليها يرجع الفضل في إقرار الحقائق اللغوية والأدبية ولا يجوز لمن حرم ذوق الشعر والكتابة أن يتعرض للنقد اللغوي والأدبي، فهذا مجال الذوق لا مجال النقل، وبين الذوق والنقل مراحل طوال

ومن علماء البلاغة الذين استباحوا التطاول على المتنبي وامرئ القيس؟

هل قرأتم مقدمات الكتب البلاغية لتعرفوا ما يملك بعض معلمي البلاغة من القدرة على الإنشاء البليغ

قال قائل: إن كتب التاريخ ليست متون لغة، فما رأيه في كتب الفقه الإسلامي؟

أنا أشوف أن كتب الفقه تحوي ذخائر لغوية نفسية جداً، ولعلها أدت للغة خدمات لم تؤدها كتب الأدب الصرف، لأنها أذاعت مرونة التعابير في كثير من البيئات، ولأنها حوت الدقائق من محاورات الناس في الأسواق

وخلاصة القول أني لا أعترف بما يسمونه عهد (العرب العرباء) ولا أدير بالاً لمن يدعو إلى الاكتفاء بما عرفت العرب العرباء، فلو بعث عرب الجاهلية لعجبوا من الثروة اللغوية في هذه الأيام، واعترفوا بأن أحفادهم نجباء نجباء

ثم ماذا، يا حضرات الأفاضل بالأزهر الشريف؟

أنتم توجبون أن يطبع المصحف بالرسم العثماني، فما حجتكم وهو رسم هجر منذ أزمان؟

أكان الخليفة عثمان بن عفان يختار ذلك الرسم لو عاش في هذا الوقت؟

وهل ترضون أن نرجع فيما نكتب إلى الخط العربي في عهد عثمان؟

كان يكفي أن تكون للمصحف نسخة تسمى النسخة التاريخية، ثم ترسم جميع المصاحف وفقاً للرسم الحديث، الرسم الذي اصطلحت عليه جميع البلاد العربية، لتسهل تلاوة القرآن على جميع الناس

ثم؟ ثم أقول إن الأدب لن يلتفت إلى حذلقة اللغويين المتكفلين، لأن الأدب هو مبدع اللغة، وهو المهيمن على تراثها الثمين.

اللغة ملك لكتابها وشعرائها وخطبائها، وليس لقراء المعاجم منها خلاق

ملكة اللغة تسمى شأن من يناقش في اللغة وليس له فيها عاطفة ولا وجدان؟

كونوا كتاباً وشعراء وخطباء قبل أن تكونوا ناقدين وإلا. . . وإلا. . . عندكم جواب هذا السؤال

محاكمة العقاد

دعتني المجلة الفلانية إلى محاكمة الأستاذ العقاد بالأسلوب الذي أريد، فقضيت بتأجيل الحكم إلى حين!

والحق أني لا أستسيغ مذهب المجلات التي ترى من البراعة الصحفية أن تؤرث الخصومات بين رجال الأقلام ليتفرج القراء، كأن الصحافة صارت ملاعب لا تكلف المتفرجين غير ملاليم!

إن الخصومات الأدبية لا تُقْتَرح، وإنما تخلقها الظروف، فليصبر المتفرجون قليلاً. ألم يسمعوا أن الله مع الصابرين؟ نحن لا نختصم لنقدم الغذاء لأهل الفضول، وإنما نختصم لنؤدي خدمة للفكر والرأي والوجدان، وسأخاصم العقاد ويخاصمني حين تسنح فرصة يكون فيها الخصام من أوطار العقول

ما هذه الشهوة التي لا يغذيها غير عدوان بعض الأقلام على بعض؟ وما هذا الشوق السخيف إلى رؤية مناظر الحرب في غير ميدان؟

لا قيمة للخصام الأدبي إن لم ينته إلى نتائج صحاح، فإن لم يكن بد من خصومة بيني وبين الأستاذ العقاد فسأبحث عن مجال يحترب فيه المنطق، ويتصاول البيان

ولكن متى؟

ذلك إلينا لا إليكم، يا جماعة المتفرجين بملاليم لا قروش!

النقد الأدبي لن يرخص إلى الحد الذي تصورتموه، ولن يكون إلا نضالاً في ميادين ترفرف عليها أعلام الآراء والأذواق

زكي مبارك