مجلة الرسالة/العدد 518/موسيقى. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 518/موسيقى. . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1943



للأستاذ دريني خشبة

كلما جلست وحدي تحت قبة السماء، لا يمضي غير قليل حتى تملأ أذني موسيقى الأفلاك. . . الأفلاك العلوية. . . التي تسبح فوقها الملائكة!

ما أطيب الوَحدة في هذا الزمن! إنها تصلنا بالأول والآخر، والظاهر والباطن. . . إنها تصلنا بالله!

ما أجمل موسيقى هذا الوجود المشرق بنور ربه! النور الذي يُدَوي بأعذب الألحان في قلوب الشعراء والمؤمنين والمحبين! النور الذي يفيض على الخمائل فيغني الورد، وتصدح البلابل، وتسقسق العصافير، ويهتز الأيك، ويستيقظ الوادي النائم، ويصحو النهر الوسنان، وتهرول الأنجم الحَيْرى، ويقف البدر الخجول مستأذناً عند أبواب المغرب الفضية!

غَنِّ يا قلبي فكل ما في الوجود يغني!

هات ألحانك فكل ما في الوجود ألحان!

ألحان صامتة هنا، وألحان مُدَوِّية هناك؛ وألحان من ألوان الزهر الضاحك، والفَنَنِ المورق، والبلبل الشادي، والخرير المترقرق، والنسيم العاشق، وعبير الحب في القلوب اليافعة، وابتسام الأمل في قلوب العذارى، وبراءة الحَمَل وهو يقضم الكلأ، ثم يحسو جرعة من صفحة الغدير!

تلك موسيقى الخلود أيها الفؤاد المعمود!

ألست ترى إلى قطرات الكد التي تتحدر فوق جبين العامل! وتفيض ملء أسارير الفلاح؟. . . إنها صلوات الرجاء الذي لا ينقطع، وأدعية الأمل الذي لا يخيب. . . إن لها بين يَدَي الله لغِناء تردده الملائكة من حول العرش، كما تردده الأطفال من حول الأم. . . أما في قلوب العمال والفلاحين، فهي موسيقى الإيمان الذي لا ينقم، والرضى الذي لا يسخط، والقناعة التي لا تضيق، والتسليم الذي لا يعرف الحسد

كل ما في الكون ألحان فتغن يا فؤادي

ليست ألحان الرياح في أوتار الدوح، ولا هديل الحمائم في ضحى القرية، ولا موسيقى الكروان في هدأة الليل، ولا تنهدة الحسناء في ضوء القمر، ولا تناجي المحبين في غفلة الرقباء، ولا هَمْس القُبَل المذعورة في أول لقاء، ولا رعشة الشفاه الظامئة وهي تعترف، ولا المعاني الراقصة وهي تغازل خيال الشاعر، ولا مس فم الأم وهي تسجل أسرار قلبها فوق جبين الطفل، ولا قطرات الندى وهي تُفتح أكمام الورد، ولا آراد الشمس وهي توشي أذيال السحاب عند ما يتنفس الصبح، ولا حفيف الريشة في يد المصور وهي تجمش اللوحة، ولا صلاة الناسك وقد فني في الله في سكون الخَلْوة، ولا تبرج الموج وهو يعانق حِسان الصيف قريباً من الشاطئ، ولا براءة الطفلة وهي تضم القُطَيطَة إلى صدرها النابض، ولا غناء القلوب الملتاعة حين تلتقي، فتتماس، وتخفق ثم تهدأ. . .

ليس هذا كله إلا موسيقى الوجود المتحد، فغن مع القافلة يا قلبي!. . .

اتحد بالأغنية الكبرى التي تصغي إلى موسيقاها العذبة الحنون ترددها قرائح الشعراء، وتصدح بها أسراب الطير، وتنفخ في نايها أنفاس الريح، وتستروح إليها قلوب المدنفين، ويستجيب لها بيان الأديب الذي يغدو لها مزماراً، ويقدم من روحه لجرسها قيثاراً، فيجعلها دموعاً في أعين المحبين، أو رحمة في جوانح الحزانى، أو حمرة في شفة كل عذراء، أو سحراً في أهداب كل حورية، أو نفحة في فؤاد كل مبتئس. . . أو ما شاء له فنه الذي جعله الله مرآة هذه الحياة الدائبة، ولسان هذا العالم الشادي

لله ما في حناياك من حناياي يا وتر!

تعال أسمعك أناتي التي هاجت حَرّها أناتك. . . أنت أيها المعجب المطرب، إن عندي ما يشجي وما يبكي!. . . إن هذا النغم الحلو النحيل الذي يمس المشاعر المترنحة كما يمس الفراش أفواف الزهر. . . إن هذا النغم الذي يشبه الأهداب الطويلة الناعسة، هو نغم ضحوك طروب ثمل، يصدر عنك ولا يرتد إليك. إنه يمس القلوب مساً خفيفاً ثم يمضي كما تمضي الذكريات السعيدة، ويتبدد كما تبدد الأحلام الفضية، وقلما يبقى منه شيء في السويداء تستعين به على تخفيف آلامها وتلطيف مآسيها. . . وإن بقي منه شيء فإنما يكون أطيافاً. أطيافاً من آهات ولوعات ولهفات، تزيد الشجا في صدر الشجي، وتؤجج اللظى في قلب المشتاق. إنها تزيد المواجع ولا تشفيها، وتثبتها ولا تنفيها، إنها تفجر دموع الضعفاء الذين يعتزلون الدنيا من أجل غادة، ويلبسون المسوح من أجل حب خائب، وغرام تعس

أما موسيقاي يا وتر! فمن لي بكلمات أعصرها من قلبي دماً، إذا جعلته سطوراً على أديم طروسي، وقرأها الناس، ملأت قلوبهم، قبل أن تملأ أسماعهم. . .!

هذاك قلمي يا وتر! إنه أشبه اليراعات بالناي الذي يبكي معك ليبكي الناس! أليس ينفث من شباته ما تتغنى به الإنسانية من ألحان هذا الزمان المضرج بالدماء، مثل ما ينفث نايك من ألحانه الخمرية التي يتغنى بها السهاة اللهاة العرابيد!

اسمع إلى موسيقاي يا وتر، تحملها الصبا من جوانح الأمهات والأيامى والمنكوبات في جنبات الفستولا وحفافي اليانج وضفاف الروهر. ثم من مغاور الأولمب وكهوفه، وليس من شعافه ومشارفه التي كان يصدح فوقها أبوللو، إذ تهدهد مركبته أورورا الوردية فوق السحب مطلع كل شمس

هَلُمَّ أسمعك موسيقاي يا وتر!

هلم أسمعك دقات القلوب النابضة. . . القلوب المجروحة. . . قلوب العذارى البولونيات اللائي لَدَيَّ من همس عيونهن، ومشبوب ضلوعهن، ما لا يدور لك في خلد! تعال. . . أرهف آذانك التي يملؤها الشدو دائماً بما تتشكى هذه الفتاة التي تقول لي وهي تبكي: (لقد كان لي أب. . . لقد كان لي أم. . . لقد كان لي حبيب. . . والآن هاأنذي جائعة. . . هاأنذي ظمأى. . . ظمأى إلى كل شيء. . . إن صدري يمزقه الظمأ، وتشويه الحُرَق، وتقتات به الآلام. . . وإن جمالي الذي كان العالم يفتتن به، قد ذبل، إنه يدمى الآن في أسمال الفاقة، وفي وادي الموت والتشريد. إنه يبكي على الآباء والأمهات والأخوة , , , وعلى كناره الذي كان يملأ جنة حبه بالشدو، ويغسل أرضها بالدمع، ويورق أغصانها بالتغريد. . . يا رب أين ذهب كناري. . . لم لم يفرد جناحيه للريح حين هبت زوابع الهون؟ هل ظن أنه يحول بيني وبينهم بأغنياته؟ ما كان أرق فؤاده يا ربي؟. . . ولكن ما لي أذكر كناري الحبيب ولا أذكر بيانكا. . . بيانكا الصغيرة ذات العامين، التي ظلت تحت الردم يومين، ولما أُخرجت في الثالث سألتني بصوتها النحيل الباكي الذي يتحشرج: ماما. . . أين ماما؟ فلما أنبأتها أنها تنتظرها في الجنة. . . تلك الحديقة الكبيرة اليانعة التي غرستها يد الله، تبسمت، وأطبقت جفنيها وأسلمت آخر أنفاسها وصعدت إلى الله القادر اللطيف لتقابل أمها في الحديقة الكبيرة اليانعة. . . ولعلها تتذكر حينما تلقي البستاني فتروي له ما صنع الهون ولأترك لك بقية القصة، قصة البولونية تلحنها أنت وتغنيها أنت. . . وتزفر بها أنت. ثم تبكي بها ملء عيون الإنسانية وملء قلوبها يا وتر!

تعال. . . تعال أسمعك من أناشيدي الباكية يا وتر!

هل سمعت ما قالت كيتي اليونانية، عذراء كوريتزا، وهي تبكي؟! إن أنين القيثار كله يذهب في بعض أنينها يا وتر. . . لقد كانت تذيب روحها قطرات من الدمع المختنق ترسله قطرة فقطرة من عينيها الثرتين، إذ هما ترويان مأساتها. . . مأساة أفروديت ويالَّلا وسيرز وبندورا. . . بل مأساة الجمال والحكمة والخير والأمل!!

اسكبي دموعك يا ورود الحديقة على فينوس الجميلة التي أثخن الأعداء جسمها البض بجروح الوحشية المتبربرة المزهوّة بالطائرات والدبابات والغواصات والطرابيد!

اسكبي دموعك يا ورود الحديقة على أدونيس الغُرانِق الذي جند له الخنزير البري وراح يلغ في دمه، ويسلب القوت من أطفاله العُراة الظِّماءِ الجياع الذين هبوا يردون من عرينهم الضبع، فهب الخنزير البريُّ إلى معونة ابن عمه. . . لكنه ذاده آخر الأمر عن الجثة التي غرز فيها أظافره، ووقف على رمتها يُقهقه ويُغني

اسمع إلى كيتي عذراء كوريتزا يا وتر، وهي تروي مأساتها:

(لقد كان لي أب. . . لقد كانت لي أم. . . لقد كان لي كِنارٌ حبيب يملأ حديقة حياتي ترجيعاً وتسجيعاً. . . يبتسم لي وأبتسم له. . . ويملأ قلبي بالمُنى البيضِ، وأفعم حياته بغُر الأماني. . . ثم جاءت القائمة السوداء تنعيه من ميدان المجد والشرف. . . فلبست عليه البياض الذي ترى يا وتر. . . لأنه قَدَّم قلبَينا قرباناً للوطن. . . ولما مضيت في إثره أقتل الهون البرابرة الذين قتلوا كناري، قبض عليَّ سفّاحهم في طريق الحومة، ولما أقتل من كلابهم غير عِلْجَيْن. . . فوا أسفاه على أن لم أُروّ الأولمب بدمائهم جميعاً. . .)

اسمع إلى لحن الإنسانية المجنونة يا وتر!

الإنسانية التي أصابها هذا السُّعار المحزن الذي جَرح القلوب وقَرح العيونَ وبرِّح بالقافلة. . .

ألا أيها الليل الطويل متى ينبلج الفجر؟

ألا أيتها العِير الضالة متى تطلع الشمس؟ ألا أيها الوتر الماجن متى تجد فتسمع قومي هدير الموج الصخاب وهزيم الريح الصِّر وانفطار قلب الإنسانية الباكية. . .

الإنسانية التي تدفن أطفالها تحت الردم، وتهوي جواريها في بطن اليم، وتبث ألغامها في البحر واليَبَس. . .

الإنسانية التي تضحك وتبكي، وتنوح وتغني، وتلبس السواد وتلبس البياض، وترقص في العُرس كما ترقص على المقبرة، وتتحمس في الخندق كما تتيه في الحانة. . .

ما هذا؟

ماذا تسمع يا وتر؟

ما هذا الصوت العذب الجميل الذي يقول:

أيها الخفاق في مسرى الهواء؟

ولمن هذا اللحن الخلاب:

يا شباب النيل!

يا عماد الجيل؟!

يا للموسيقى؟!

أين هو اللواء الخفاق؟ وأين هم شباب النيل عماد الجيل؟

اصدقي يا موسيقى. . . اصدقي. . . اصدقي فقد جد الجد، وآن أن يزهق الباطل!

دريني خشبة