مجلة الرسالة/العدد 518/الصديق أبو بكر
مجلة الرسالة/العدد 518/الصديق أبو بكر
بين العقاد وهيكل
للأستاذ محمود أبو رية
كانت هذه الكلمة في أصلها ستخرج خالصة لكتاب (عبقرية الصديق) الذي أخرجه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، ولكن عرض ما غير وجهة القول، وجعلني أتناول بالحديث كتاباً آخر معه، ولعل الخيرة فيما وقع.
ذلك أن أحد الأدباء واجهني بسؤال قال فيه: ترى ماذا بقي من تاريخ أبي بكر بعدما أتى به هيكل باشا في كتابه، فيجري به قلم غيره؟ وأني أجيبه هنا فأقول: إن هيكل باشا قد عنى في كتابه بذكر الأخبار وإيراد الوقائع التي حدثت في عهد أبي بكر متبعاً في ذلك سَنن من قبله من المؤرخين الذين ينقل بعضهم عن بعض
وعلى أنه قد أطال في النقل حتى خرج عمله في سفر ضخم، فإنه - كما قال صديقنا الكاتب السيد محب الدين الخطيب - قد فاته الاطلاع على مراجع وثيقة واعتمد على مصادر واهية لا يصح التعويل عليها (المقتطف والفتح)
ومن أجل ذلك ترى كتابه قد حمل أخباراً ما كان لمؤرخ محقق أن يأخذ بها، مثل ما روي أن علياً حمل فاطمة على دابة وخرج بها يطوف على الناس يجر هذه الدابة وهي تناشد الرجال وتتوسل إليهم أن ينصفوا بعلها وهم يعتذرون آسفين. وقد عجب الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني في البلاغ من إيراد هيكل باشا لهذه القصة وقال (إن المرء لا يحتاج إلى ذكاء أو علم ليدرك أنها مختلقة من أولها إلى آخرها)
ومن الأخبار التي نقلها هيكل باشا إلى كتابه وهي إلى الخرافات أدنى منها إلى الحقائق أن العنكبوت خيمت على الغار لتحجب النبي وصاحبه عن الناس. ومن العجيب أن ما أتى به في كتابه من مثل هذه الخرافة قد عابه على الدكتور طه حسين يوم أن نشر الجزء الأول من كتابه (على هامش السيرة) وكان مما قاله في ذلك: (إن هذه الأمور إنما وضعت لإفساد العقول والقلوب من سواد الشعب ولتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ودينه) (السياسة الأسبوعية)
هذا هو كتاب هيكل باشا ونحن بما أظهرنا من نقد - لنا ولغيرنا - لا نغض منه، وإنم نقول إنه قد أصبح مصدراً من المصادر التي يجد فيها الباحث تاريخ الإسلام في عهد أبي بكر وبخاصة تاريخ حروب الردة
أما العقاد فقد اتخذ في تأليفه منهجاً جديداً يباين ما ذهب إليه رجال التاريخ الإسلامي جميعاً، ذلك أنه جعل وجهته دراسة شخصية أبي بكر وتحليل ملكاته. وقد بين هذا المنهج بقوله: (إنني لا أكتب ترجمة للصديق رضي الله عنه، ولا أكتب تاريخاً لخلافته وحوادث عصره، ولا أعني بالوقائع من حيث هي وقائع، ولا بالأخبار من حيث هي أخبار، فهذه موضوعات لم أقصدها. . . ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله كما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين، فلا تعنينا الوقائع والأخبار إلا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد. . . وهي قد تكبر أو تصغر فلا يهمنا منها الكبر أو الصغر إلا بذلك المقدار، ولعل حادثاً صغيراً يستحق منا التقديم على أكبر الحوادث إذا كان فيه دلالة نفسية أكبر من دلالته، ولمحة مصورة أظهر من لمحته) (ص 3)
وهذا المذهب لذي اتخذه لدراسة أبي بكر هو ما نحتاج إليه ولا ريب في هذا العصر وما يجب على كل كاتب مجيد أن يسلكه، لأنه كما يقول العقاد: (أوجب مما كان في الأزمان الغابرة لأن الأسباب التي تغض من وقار للعظمة لم تزل تتكاثر منذ القرن الثامن عشر إلى الآن. . . وأن الإنسانية لا تعرف حقاً من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وأن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء) (ص 6 و 7)
ولكي يُحكم التصوير ويُوفى بعمله على الغاية جعل من عقله وفكره وعلمه مجهراً جعله أمام شخصية أبي بكر ثم أجرى قلمه على القرطاس ليرسم ما يستعلن في هذا المجهر حتى خرجت هذه الشخصية في صورة (صادقة كل الصدق في جملتها وتفصيلها)
وإذا كانت الصورة الجميلة التي تغترق العين لا يمكن لواصف أن يجلوها على حقيقتها فإنا نشير إلى بعض ملامح تلك الصورة التي أبدعها قلم العقاد إشارة عابرة تومئ ولا تغنى
لقد جعل العقاد من مذهبه إذا ما ترجم لعظيم أن يستقصي في الدرس ويمعن في التحليل حتى يقبض بيده على مفتاح شخصيته ثم يعطيه لكل باحث لكي ينفذ به إلى سر عبقريتها، ويكشف عن دخائل ملكاتها. وقد كشفت له دراسته لأبي بكر عن مفتاح شخصيته فإذا هو (الإعجاب بالبطولة) وقد تحدث عن هذه البطولة فقال: إن البطولة التي أعجب بها أبو بكر هي البطولة التي ليس أشرق منها، بطولة تعرفها النفس الإنسانية، هي بطولة الحق وبطولة الخير وبطولة الاستقامة؛ وهي بعد هذا وفوق هذا بطولة الفداء يقبل عليها من يقبل وهو عالم بما سيلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء، تلك هي بطولة محمد) ص 68
ولما عرض إلى ما بين أبي بكر وعمر من تقابل قال: (كان أبو بكر نموذج الاقتداء، وكان عمر نموذج الاجتهاد) ص 84 وبعد أن بين ما بينهما من اختلاف في الصفات قال تلك الكلمة الحكيمة: (وموضع العبرة بل موضع الإعجاز هو تلك الدعوة التي شملت هذه القوى كلها في طية واحدة، وضمت هؤلاء الرجال حول رجل واحد، وجذبت إليها أكرم العناصر التي تأتي بالعظائم وتصلح للخير وتقدم على الفداء) ص 95
وإذا كان مما لا ريب فيه أن أهم الأحداث التي نجمت بعد وفاة الرسول إنما هو أمر الخلافة وأمر الردة، فإن العقاد بعد أن استقصى الأمور كلها - في الأمر الأول - وقلبها على جميع وجوهها قال: (ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتداداً لعهد النبي حتى يحين وقت التوسع والتصرف الخ ص 33
ولقد أصاب العقاد في ذلك، إذ ما كان أحد يصلح للخلافة أو ينهض بأعبائها بعد رسول الله غير أبي بكر، لا لأنه أفضل الصحابة - فما ذلك قصدنا - ولكن لما كان عليه العرب حينئذ عامة، وبنو أمية خاصة، هؤلاء الذين كانت عصبيتهم المكبوتة تنتهز الفرصة للوثبة. فإذا أتيح لها أن تتولى الأمر بعد وفاة الرسول لأعادتها جاهلية، ولصار أمر الإسلام إلى زوال. وناهيك بما فعلوه بعد أن تولى عثمان أمر المسلمين، وكانت الدعوة قد استقرت والأمور قد تمهدت! وإذا كان عهد أبي بكر كما قال العقاد آنفاً امتداداً لعهد النبي فإنه كان كذلك عهد تمحيص وتثبيت. وكذلك ما كان يَصْلح للأمر بعد أبي بكر غير عمر ولا يتولى بعده إلا من يكون في مثل قوته وصرامته حتى يكون أمر المسلمين بعيداً عن أعاصير الأهواء وعواصف الفتن
أما أمر الردة فبينا ترى هيكل باشا يكتفي بأن يقول فيه عن الذين ارتدوا (إن كثيراً منهم راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله) ص 14. ويقف في التعليل عند ذلك، إذ بك تبصر العقاد قد أرجع هذا الارتداد إلى علل منطقية ودلائل عقلية لا نطيل بذكرها. ص 141 وهذا هو الفرق ما بين من يأخذ الأمور من ظواهرها وبين من يوغل في دراستها إلى أن يصل إلى بواطنها
بقي أمر لابد من أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة بنت الرسول رضي الله عنها وما فعل معها في ميراث أبيها. وهذا أمر نخالف فيه الأستاذ العقاد وكل من يرى رأيه؛ لأننا إذا سلمنا معهم بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي قد قال إنه لا يورث. وإنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها كأن يخصها بِفَدك، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من شاء بما شاء؛ وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي. على أن فَدَك هذه التي منعها أبو بكر من فاطمة لم تلبث أن أقطعها (الخليفة) عثمان لمروان
هذه لمحات قصيرة من ملامح صورة أبي بكر التي صورها العقاد؛ أما هذه الصورة على حقيقتها فإنه لا يغني القول فيها عن الاطلاع عليها
ولعل القارئ قد أدرك بما بيناه بعد ما بين عمل هيكل باشا وعمل العقاد؛ فذاك قد آثر حشد الأخبار وسوق الأحداث فِعل الإخباريين، وهذا قد أبدع مذهباً جديداً في التأليف أعانه عليه أنه لم يتوله إلا وهو مستحصد المِرَّة من عقل وفكر، مستكمل الأداة من اطلاع وعلم. وقد خرج هذا النحو من التأليف في عبارة محكمة السرد لم يستلهم فيها وحي الخيال، وإنما استعان بمنطق الفيلسوف الذي يفتح من آفاق الحقائق ما لا يبلغه خيال الشاعر أو الكاتب
وإذا كانت مؤلفات العقاد تعمل على تربية العقل وتنمية الفكر فإن ما يكتبه عن عباقرة الإسلام يربى على ذلك بأنه خير دعاية للدين الإسلامي وأنجع وسيلة لإظهار فضل رجاله الذين هم أهل لكل تعظيم
(المنصورة)
محمود أبو رية