مجلة الرسالة/العدد 517/آيتان. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 517/آيتان. . .

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 05 - 1943



للأستاذ محمود شلتوت

كان فيما قررناه سابقاً: أن القرآن كله قطعي في وروده، وأنه في دلالته نوعان: قطعي لا يحتمل التأويل، وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر، وأن هذين النوعين قد وجدا في العلميات والعمليات، وأن النوع الثاني لا يصلح أن يتخذ دليلا على عقيدة يحكم على منكرها بأنه قد كفر. قررنا هذا ثم أخذنا في تطبيقه على الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله، فأرجعنا هذه الآيات إلى أنواع ثلاثة بينا بطلان رأيهم في نوعين منها، واليوم نذكر النوع الثالث وهو آيتان زعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى:

إحداهما: قوله تعالى في سورة النساء (وان من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا)

والأخرى: قوله تعالى في سورة الزخرف (وانه لعلم للساعة فلا تمترن بها)

ما غاب عنا، وقت أن كتبنا الفتوى، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والإفهام المختلفة فيخما، وما كنا نحسب - ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه - أن أحداً يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها، والمختلفة في ترجيحها، فيقول إنهما نصان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئاً من كتب التفسير. ولكنهم أبوا ألا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى، فلسنا نجد بداً من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما، ثم نقفى على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحاً:

الآية الأولى:

للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان:

الأول: أن الضميرين في (به) و (موته) لعيسى. والمعنى: ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا: أخبرت هذه الآية أ أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم، فلابد أن يكون عيسى إلى الآن حياً، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان

الثاني: أن الضمير في (به) لعيسى، وفي (موته) للكتابي. والمعنى: أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن، ولا على نزوله في المستقبل، لأن المراد أنهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أمته

هذان رأيان مشهوران في الآية عند المفسرين، ولكل منهما من يرجحه. وقد ساقهما ابن جرير، وذكر الآثار التي تدل لكل منهما ثم قال: (وأولى الأقوال بالصحة والصواب قوله من قال: تأويل ذلك، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة؛ فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته لوجب ألا يرث الكتابي إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام. . . وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره، لأن من مات مؤمناً بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد. . . وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه، وما جاء به من عند الله فمحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته، فدل هذا على أن المعنى: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وان ذلك عند نزوله)

ويريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، لأن رسالة محمد مما جاء به عيسى، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمناً بمحمد فيكون مسلماً له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغسله ودفنه في مقابر المسلمين. . . الخ. وهذا يخالف إجماع السلمين على عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت، وإذا كان هذا يخالف الإجماع فقد بطل أن يكون معنى الآية ما ذكر، وكان (أولى الأقوال بالصحة والصواب) في نظر ابن جرير هو الرأي الأول الذي لا يترتب عليه مصادمة الإجماع

إلى هنا، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجح به، ليس في الأمر أكثر من أن مفسراً من بين المفسرين قد اختار رأياً من رأيين حكاهما عن أهل المأثور ورجح ما اختاره بما رأى، ولكن القوم تلقفوا هذا عن ابن جرير وصوروه بما يريدون موهمين الناس أن الآية صارت بترجيح ابن جرير دليلاً قاطعاً على ما يزعمون من نزول عيسى. ونحن نلخص ردنا عليهم في النقط الآتية التي غفلوا أم تغافلوا عنها:

1 - إن ابن جرير يذكر احتمالين في الآية، ويذكر الآثار الدالة لكل منهما، ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فكيف يعد نصاً قاطعاً غير محتمل لأكثر من معنى ما خالف فيه ابن عباس ومجاهد وغيرهما؟

2 - إن ابن جرير كما وجه الرؤى الذي اختاره وجه الرأي الثاني أيضاً (بأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه). وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول: (وأولى الأقوال) دون أن يقول مثلاً: والرأي الصحيح

3 - إن يكون ابن جرير قد رجح أحد المعنيين فقد رجح غيره من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامان: النووي والزمخشري وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري: (ورجح جماعة هذا المذهب - يريد الثاني - بقراءة أبي بن كعب (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) أي أهل الكتاب. قال النووي: معنى الآية على هذا: ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وأبن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال أني تبت الآن) ثم قال: وهذا المذهب، أظهر لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله)

وقد ذكر صاحب الكشاف قريباً من هذا وأطال فيه ونقله عند الإمام الرازي في تفسيره فليرجع إليهما من شاء

بهذا يتبين: -

1 - أن هذه الآية ليست نصاً في معنى واحد حتى تكون دليلاً قاطعاً فيه 2 - أن ما تمسك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مسلم له، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه وتترتب عليه الأحكام، مع أنه أيمان - كما قرره العلماء، ومنهم ابن جرير نفسه - لا يعتد به ولا يقام له وزن ولا تترتب عليه أحكام لأنه إيمان جاء في غير وقته

3 - أن من ينظر فيما تمسك به أصحاب المذهب الثاني: من العموم الواضح في قوله (وإن من أهل الكتاب) ومن قراءة أبى (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجمع، لا يسعه إلا أن يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني: (وهذا المذهب أظهر).

والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلاً عن أن تكون قاطعة فيه!

الآية الثانية

للمفسرين في هذه الآية أيضاً آراء مختلفة، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله تعالى: (وانه لعلم للساعة) راجع إلى محمد أو إلى القرآن، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المفسرين؛ وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى. ومع ذلك نجد خلافاً آخر يصوره لنا بعض المفسرين بقوله: (وإنه: أي عيسى لعلم للساعة: أي أنه بنزوله شرط من أشراطها، أو بحدوثه بغير أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث)

ومن ذلك يتبين أن في توجيه كون عيسى علماً للساعة ثلاثة أقوال:

الأول: أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة

الثاني: أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة

الثالث: أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يقررها المفسرون كفاية في أنها ليست نصاً قاطعاً في نزول عيسى، ولكننا لا نكتفي بهذا بل نرجح القول الثاني وهو (أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة) معتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي:

1 - إن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه، وقد عني القرآن الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلاً أو يؤمنون بها (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت). (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحي الموتى) وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون)

وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك، أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى، وهي أيضاً في موضع الشك عندهم، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم؛ لأنه استدلال على شئ في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!

2 - ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعاً على أن عيسى علم للساعة: (فلا تمترن بها) فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها؛ أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولاً ليمكن أن يقال له بعد ذلك: هذا الذي آمنت به علامته كذا

3 - ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات، ولم تصح إرادتها معنى، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالاً بها. فإذا طبقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة) وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا، وإنه لا بد من تقدير في الكلام، ثم وازنا بين النزول، والخلق من غير أب، وإحياء الموتى، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة: (لا تشكوا في الساعة، فإن الذي قدر على خلق عيسى من غير أب قادر عليها)

وبهذا يتبين:

أولاً: أن الاختيار بنزول عيسى لا يصلح دليلاً على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين لها من شك ويصح أن يقال عقبه (فلا تمترن بها)

وثانياً: أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها

وثالثاً: أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيناه.

أما بعد فهذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله. ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهرة غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلاً عما يفيد القطع الذي يكون العقيدة، ويكفر منكره كما يزعمون)

محمود شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء