انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 508/للذكرى والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 508/للذكرى والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1943



طيبة تستقبل فرعون مصر

للكاتب الفرنسى تيوفيل جوتييه

في كتابه قصة المومياء

(إلى جانب المصريين نحن حقاً برابرة)

تيوفيل جوتييه

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

يأتي بعد الموسيقى، الأسرى من البربر بسحنهم الغربية، ووجوههم البهيمية، وجلودهم السوداء، وشعورهم المجعدة؛ وإنهم ليشبهون القرد أكثر مما يشبهون الإنسان، ويلبسون زي بلادهم: قباء إلى أسفل الدف، مطرز بزخارف ذات ألوان مختلفة، وتمسكه حمالة واحدة، ويسود في غل هؤلاء الأسرى قسوة غربية ماهرة؛ فبعضهم جمعت كيعانه خلف ظهره، والبعض ربطت يداه مرفوعتين فوق رأسه في أكثر الأوضاع مضايقة، وقسم وضعت يداه في محابس خشبية، وآخرون ربطت رقابهم في حبل يضم صفاً طويلاً، وقد عقدت عقدة عند كل أسير، ويسير إلى جانب الأسرى حرس ينظمون سيرهم بضربات من العصا، ويسير في الخلف بخجل وانحناء سيدات سمر بضفائر طويلة مسترسلة، ويحملن أطفالهن في خرق من نسيج معقود على جباههن؛ وأخريات حسان ذوات جلد أقل سمرة من هؤلاء قد زين أذرعتهن بحلقات ضخمة من العاج، وآذانهن باسطوانات واسعة من المعدن؛ وقد ارتدين أقبية طويلة ذات أردان واسعة، يزينها تطريز لدى العنق، وتنزل إلى أعقابهن، مثناة ثنيات دقيقة مكوية، ويلبسن خلاخيل في أقدامهن، ويصحب هؤلاء الجند ويحفظونهن من الاختلاط بالجمهور

يأتي بعد ذلك حاملو الرايات، رافعين أعلامهم مذهباً قضبانها، وعليها رسوم رمزية؛ من صقور مقدسة، إلى رءوس هاتور يعلوها ريش النعام إلى لقالق ذات أجنحة، إلى أختام منقوشة باسم الملك، إلى تماسيح ورموز أخرى دينية أو حربية؛ وقد عقد بهذه أربطة بيضاء زينت بنقط سوداء، تجعلها حركة السير ترفرف برقة

لدى رؤية حاملي الرايات الذين يعلنون مقدم فرعون، أخذ نواب القس والأعيان يمدون أيديهم نحو فرعون في هيئة احترام تام، أو يتركون أيديهم على ركبهم مديرين راحاتهم للهواء، وبعضهم ينحني شاداً مرافقه إلى جسمه، وجبهته منحنية تبدي الخضوع المطلق والتقديس العميق؛ بينما النظارة يحركون في كل جهة ما معهم من سعف النخل

بين حاملي الرايات وحملة المباخر الذين يسبقون هودج فرعون، مناد يتقدم وحده وبيده منشور تغطيه الرموز الهيروغليفية؛ يعلن هذا المنادي بصوت قوي رنان، كأنه صوت من النحاس، انتصارات فرعون ويتحدث عن الحظ الذي صادفه الملك في مختلف مواقعه، وعدد الأسرى وعربات الحرب التي أخذت من العدو، وقدر الغنيمة، وقيمة برادة الذهب، وأسنان الفيل، وريش النعام والعطور، وعدد الزراف والأسد والفهود والحيوانات الأخرى النادرة؛ ويذكر أسم رؤساء البربر الذين قتلوا بحراب جلالته أو سهام ذلك الملك القادر على كل شئ محبوب الآلة، ولدى كل خبر يهتف الشعب هتافاً عالياً، ومن أعلى الجدران يرمون في طريق المنتصر سعف النخل الذي يلوحون به

وأخيراً يظهر فرعون.

بعض الكهنة يضعون البخور على الفحم المتقد في كوب صغير من البرنز، له يد على هيئة صولجان ومن الناحية الأخرى ينتهي برأس حيوان مقدس، ويسيرون باحترام بينما الدخان المعطر الأزرق يصعد إلى أنف المنتصر الجالس في هيئة من لا ينتبه إلى هذه التشريفات كأنه إله من البرنز أو البازلت

اثنا عشر رئيساً حربياً يغطي رؤوسهم خوذات خفيفة، عليها ريش نعام، أنصافهم العليا عارية، والسفلى يغطيها منطق ذو ثنيات عريضة، ويضعون أمامهم تروسهم معلقة بأحزمتهم، هؤلاء يحملون نوعاً من الهوادج عليه عرش فرعون، وهو كرسي له أذرع وأرجل على هيئة الأسد، وله ظهر مرتفع، وعليه حشية عالية، وقد زين جانبه بشبكة من الورد الأحمر والأزرق، وذهبت يدا العرش وأرجله وجوانبه، أما الأماكن التي خلت من التذهيب فيملؤها ألوان زاهية

وعلى كل جانب من المحمل يحرك أربعة رجال مراوح ثقيلة من الريش على شكل نصف دائرة، وعيدان هذه المراوح مذهبة؛ ويحمل قسيسان قرناً مزخرفاً زخرفة باهرة، ويسقط منه باقات اللوتس الضخمة

كان فرعون يضع على رأسه تاجاً به فتحة ينفذ منها صوان الأذن، ثم ينسدل على العنق ليحميها، وفي القسم الأزرق من التاج يلمع كثير من النقط التي تشبه أهداب الطائر، وهي مكونة من ثلاث دوائر سوداء وبيضاء وحمراء، وله إطار قرمزي وأصفر بين حافته. والثعبان الرمزي عاقفاً حلقاته الذهبية على الجزء الأمامي من التاج يتدلى وينفتح فوق الجبين الملكي، ويتهدل على الأكتاف خصلتان من الشعر المصفف طويلتان لهما لون أرجواني، ويكملان غطاء الرأس ذا الأناقة والعظمة

ويتدلى على صدر فرعون عقد ذو سبعة أدوار من الميناء والحجارة الكريمة والدرر والفصوص الذهبية التي لها في الشمس بريق وهاج خاطف

ويلبس الملك نوعاً من الأقمصة به مربعات وردية وسوداء، وينتهي بأربطة تلتف مرات عدة حول جذعه، وتضغطه بقوة؛ وكماه المشقوقتان من أعلى تدور عليهما خيوط ذهبية، وحمراء، وزرقاء، تريان ذراعين عظيمتي العضل قويتين، وباليد اليسرى مقبض من المعدن مخصص، ليخفف من احتكاك الوتر عندما يرمي فرعون سهماً من قوسه، واليد اليمنى يزينها سوار مكون من ثعبان يلتف عدة مرات على نفسه، وتقبض على صولجان من الذهب ينتهي بزهرة لوتس؛ وباقي جسمه ملتف بنسيج من أدق أنواع الكتان ذي ثنيات كثيرة، ويثبته على الخصر حزام عليه صفائح من الميناء والذهب، وبين القميص والحزام يبدو الجسم مضيئاً مصقولاً كأنه جرانيت وردي نحتته يد صناع، ويلبس في قدميه الدقيقتين الطويلتين صندلتين محنيا لسانهما، ويشبهان قبقاب التزحلق، ويجلس واضعاً إحدى قدميه قريبة من الأخرى، كما نرى في أقدام الآلهة المنقوشة على حيطان المعابد

وجه فرعون مصقول أمرد ذو سمات نقية، يبدو أنه ليس في مقدرة أي انفعال أنساني أن يغيرها، وشفتاه نابنتان، وعيناه واسعتان يزيد في سعتهما الخطوط السود، وأهدابهما لا تطرف كأهداب الصقور المقدسة. وإنه ليوحي بسكونه الرهبة والاحترام؛ ويقال إن عينيه الثابتتين لا تريان إلا الخلود واللانهاية، أما ما حولهما من الحوادث فيبدو أنه لا ينعكس فيهما. وإن الاشمئزاز من اللذائذ والتعب من الرغبات التي تجاب حالما تبدى، والتفرد بان يكون نصف إله لا نظير له بين البشر، والضجر من طول ما عبد، والملل من النصر، عقدت إلى الأبد هذا الوجه الجميل الصافي. وإن أوزيريس القاضي بين الأرواح ليس أكثر منه عظمة ولا هدوءاً

إلى جانب فرعون، يرقد فوق المحمل أسد خاص به، ماد إلى الأمام مخالبه كأنه تمثال أبى الهول فوق قاعدته، ولكنه يطرف بعينيه الصفراوين.

يصل هودج فرعون بالعربات الحربية لزعماء المغلوبين حبل، وهم مقودون خلفه كأنهم حيوانات ذات مقاود، وإنهم بهيئتهم الحزينة الوحشية، قد جمعت مرافقهم بالعصائب، ويكونون منظراً شنيعاً، ويهتزون بغير نظام كلما اهتزت عرباتهم التي يقودها حوذيون من المصريين.

بعدئذ تأتى العربات الحربية للأمراء الشبان من الأسرة المالكة، ويجر هذه العربات خيول من جنس أصيل وهيئة جميلة، وسيقان دقيقة، وأقدام كثيرة الحركة، وأعراف منظمة، ويسرج كل اثنين منها معاً، وقد زينت رءوسها بالريش الأحمر. وعلى جباههما يلمع المعدن وفى فمها شكيمة منه. ويستند إلى كواهل الحصن عريش منحن ذو حلقات متفرقة، وعلى كل حصان ميثرتان عليهما كرتان من النحاس اللامع، يجمعهما نير دقيق منحن إلى الداخل، ويكمل سرج الحصان بحزام وسير صدري مخيط، ومزخرف زخرفة كثيرة، وجلال عليها خطوط كثيرة زرقاء وحمراء، ولها هداب وخمل؛ فسرج الحصان متين جميل خفيف.

أما العربة فمطلية بالأحمر والأخضر، ولها صفائح وأنصاف كرات من البرنز تشبه وجه الدرع، وهى مجهزة بكنانتين كبيرتين موضوعتين بانحراف، إحداهما تحوي حراباً والأخرى سهاماً، وعلى كل وجه أسد منحوت مذهب، مخالبه ساكنة، وفمه مفتوح كما لو كان يزأر ويبغي الوثوب على الأعداء.

ويلبس شباب الأمراء على رءوسهم شريطاً يضم شعرهم، ويلتف عليه الثعبان الملكي نافحاً أوداجه، ويرتدون قميصاً مزخرفاً لدى العنق والأكمام زخرفة باهرة، ويحيط به لدى الخصر منطقة من الجلد يربطها مشبك من المعدن، قد حفرت عليه نقوش هيروغليفية، ويعلق بهذه المنطقة خنجر كبير، حافته مثلثة من النحاس، ويده مضلعة تنتهي برأس صقر؛ وفى كل عربة يجلس بجانب كل أمير حوذي مكلف بأن يقود العربة في أثناء المعركة، وتابع يحمل سلاحاً، وهو مكلف بأن يدفع بالترس الضربات الموجهة إلى الأمير المحارب عندما يكون هذا رامياً بالسهام، أو مهيئاً الحراب التي يأخذها من الكنانة الجانبية

عقب الأمراء تأتي عربات الفرسان المصريين، وعددهم عشرون ألفاً، كل ثلاثة في عربة يجرها حصانان، وتتقدم العربات عشرة عشرة، وتكاد أقطاب عجلاتها تتماس، ولكنها لا تحتك أبداً، لأن مهارة الحوذيين عظيمة.

بعض العربات خفيف خصص للمناوشات والاستطلاع، ويسير في المقدمة، ولا يحمل إلا محارباً واحداً، ولكي تكون يداه حرتين في أثناء المعركة يلف زمام عربته حول جسمه، ويجذبه إلى اليمين أو إلى الشمال، أو إلى الخلف، ليدفع أو يوقف حصنه، وعجيب جداً أن ترى هذه الحيوانات النبيلة التي تبدو كأنها متروكة لنفسها تحفظ في سيرها اتجاهاً منتظماً لا يتزعزع

مشي الخيل المكبوحه بعنف، وضوضاء العجلات ذات الإطار البرنزي، وقعقعة الأسلحة المعدنية منحت هذا العرض شيئاً من الوقار والخوف، حتى ليقذف الرعب في اكثر القلوب بسالة؛ والقبعات والريش والتروس، والأدرع المزينة بفلوس خضراء وحمراء وصفراء، والأقواس المذهبة والسهام النحاسية، تضئ وتلمع مخيفة في ضوء الشمس الساطعة في كبد السماء فوق سلسلة الجبال الليبية، كأنها عين كبيرة لأوزيريس - كل ذلك يشعر أن مثل هذا الجيش يجب أن يمحو الأقطار أمامه إذا اصطدمت به، كعاصفة تطرد أمامها عوداً من التبن ضعيفاً.

تحت هذه العجلات التي لا عد لها، ترن الأرض وترتجف خفية كأن ظاهرة طبيعية تحركها

بعد العربات تأتي كتائب المشاة سائرين في نظام، يحملون تروسهم في اليد اليسرى ويحمل بعضهم في اليد اليمنى رمحا، وبعضهم قوساً، وطائفة نبالاً، والأخرى أفؤساً؛ ويلبس هؤلاء الجند على رءوسهم خوذات يزينها ضفيرتان من شعر الخيل، وأجسامهم مشدودة بدروع من جلد التماسيح

عدم التأثر الذي يلوح على هؤلاء الجند، والنظام التام في حركاتهم، ولونهم النحاسي الداكن الذي كستهم به غارة حديثة في الأقطار المحرقة من أثيوبيا العليا، وغبار الصحراء الدقيق على ملابسهم؛ كل أولئك يوحي الإعجاب بهم وبشجاعتهم وإنه بمثل هؤلاء الجنود استطاعت مصر أن تفتح العالم

بعدئذ تأتي الجيوش الحليفة، ومن السهل معرفتها من النظام البربري في المغافر التي تشبه تيجاناً مقطوعة أو عليها أهلة مجتمعة في طرف. وإن رماحهم ذات الحدود القاطعة وفئوسهم المشقوقة يجب أن تحدث جراحاً لا أمل في الشفاء منها.

يأتي بعد ذلك العبيد يحملون ما أعلنه المنادي من جزية على أكتافهم، أو على محامل؛ وبعض المروضين يقود نموراً وفهوداً تفحص الأرض كأنها تريد أن تختفي، ونعاماً يصفق بأجنحته، وزرافاً يرتفع على الجمهور بطول عنقه، ودببة رمادية يقال إنها مجلوبة من جبال القمر

منذ وقت طويل عاد الملك إلى قصره، بينما كان الموكب لا يزال يسير

أحمد أحمد بدوي

مدرس بحلوان الثانوية للبنين