انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 508/ثورة في الأخلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 508/ثورة في الأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1943



للأستاذ محمد يوسف موسى

كان من حكمة الله ورحمته بالإنسانية أن أرسل محمداً للعرب خاصة وللناس كافة على فترة من الرسل، والناس في عمى عن الحق. وضلال عن الهدى، وجهالة شملته من أدناه إلى أقصاه. فقد كان من الناس قبل بعثة المصطفى من قال: ما يهلكنا إلا الدهر، ومن زعم أنه لا يبعث من يموت، ومن يعبد إلهين اثنين واحداً للخير وآخر للشر، ومن جعل يقيم من الأحجار أوثاناً وأصناماً يعبدها ويقدم لها القرابين حتى من أبنائه وأفلاذ كبده! هذا في ناحية العقيدة. أما في ناحية الخلق والأجتماع؛ فكان البغى والعدوان، وأكل مال اليتيم، وهضم حق الضعيف، ونصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، واستبداد الأكسرة والقياصرة بمن استرعاهم الله من خلقه. كان الأمر كذلك وشراً من ذلك، حتى نظر الله للإنسانية المهضومة، والقلوب الحائرة، والنفوس المتطلعة لنور يهدي به الله خلقه بعد ضلال، ورشد يخرجهم من الظلمات، ورحمة تعمهم جميعاً، فكان محمد هو الهدى والرشد والرحمة والنور، وبه تمت نعمة الله على خلقه وقامت حجته عليهم، بما جاء به من عقيدة وتشاريع وأخلاق، بها صلاح العالم ما أخذ بها ومشي في ضوئها.

ولست أريد الآن أن أفصل ما ذكرت، أو أن أوضح ما أجملت، فحسبي في مقامي هذا الإشارة والإجمال، وفي ذلك بلاغ لقوم يعلمون. إنما الذي أرجو أن ألفت إليه النظر بقوة هو أن رسالة محمد كانت ثورة بكل معنى الكلمة؛ ثورة على العقائد الباطلة، والفوضى الشاملة، والأخلاق الرذلة السيئة. كانت ثورة على هذا كله؛ وإن في بعضه ما كان طيباً في أصله، ثم لما طال به الزمن تغير على أيدي الناس شيئاً فشيئاً، حتى القلب سوءاً وشرا! فما أجدرنا إذاً أن نبحث التراث الذي وصل إلينا، بلا تفرقة بين منبعه وأصحابه، ونأخذ بما فيه من حق، ونثور على ما اندس إليه من باطل فنبعده عنه، وبخاصة في ناحية العقيدة التي بها صلاح المرء وسلامه، والأخلاق التي يتعايش بها الناس ويحكمونها في حياتهم وعامة أحوالهم.

وأرى، قصداً في القول والورق، ألا أتحدث الآن على ناحية العقيدة وما شابها من باطل بفعل بعض المتصوفة وغيرهم من الذين أفسد تفكيرهم فلسفات تلقفوها من هنا وهناك، دون أن يعنوا بالفحص عنها والتثبت منها، فحادوا عن سواء السبيل. وإذاً فلتكن هذه الكلمة مقصورة على ما يجب من ثورة في ناحية الأخلاق.

ورثنا عن رجالاتنا وفلاسفتنا المسلمين - أمثال ابن مسكويه والفارابي والغزالي - مذاهب في الأخلاق، بينت لنا الفضائل والرذائل بياناً فلسفياً، وحددت السعادة التي يصح أن نسعى إليها، ورسمت لها الطرق والسبل، مستعينة في ذلك كله بهدى القرآن والحديث وبآراء من الديانة المسيحية والفلسفة الإغريقية فكان من هذا المزيج ما نعرفه من الأخلاق الفلسفية التي نتوفر على دراستها في الأزهر والجامعة علها تهدينا السبيل السوي، والتي جمدنا عليها فما غيرنا منها شيئاً، غافلين عن الزمن وتغيره وما جد من تطورات ونظم تقضي بأن نعيد النظر في هذه الأخلاق هذه الغاية - أو السعادة القصوى - التي حددتها تلك المذاهب هي العلم التام والمعرفة الصحيحة بالعالم والله والملأ الأعلى. والوسائل إليها في رأي الغزالي - الذي يعتبر إلى حد كبير ممثل هذا الضرب من الأخلاق - هي التحلي بفاضل الأخلاق، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة. وهنا موطن من المواطن التي أدعو إلى الثورة عليها.

لم يجئ الإسلام ليمهد سبيل الراحة والسعادة الخاصة لقوم يقبعون في الزوايا والمساجد يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ويقنعون بالتافه من الطعام والمرقع من الثياب والضروري من حطام هذه الحياة الدنيا، طلباً لما في الدار الآخرة من جنات عرضها السموات والأرض! لقد جاء الإسلام، وقد بلغت الإنسانية رشدها، فكان ديناً وسطاً لم يفضل الجسم ولا الروح بل عرف لكل حقه؛ فلم يوجب التقشف. ولم يحرم التمتع بما أودع الله من خير في بطن الأرض وعلى ظهرها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)!

(الحديث موصول)

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين