مجلة الرسالة/العدد 507/للذكرى والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 507/للذكرى والتاريخ
طيبة تستقبل فرعون مصر
للكاتب الفرنسي تيوفيل جوتييه
في كتابه قصة المومياء (إلى جانب المصريين نحن حقاً
برابرة)
تيوفيل جوتييه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 2 -
بالقرب من سلسلة جبال ليبيا يقع حي ممنون الذي يسكنه من يهيئون حاجات الموت، لأن عمله لا ينقطع أبداً، وعبثاً تنتشر الحياة بضوضائها، فالعصائب تجهز، والتوابيت تغطى بالنقوش الهيروغولوفية، وبعض الأجداث الباردة ممتد على سرير الموت ذي القوائم التي تحاكي أرجل الأسد أو ابن آوى وينتظر أن يزين الزينة الأبدية. ولدى الأفق الجبال الليبية تتضح قممها الجيرية فوق صفحة السماء النقية، ويبدو جسمها الأجرد الذي نحتت فيه النواميس والقبور.
وعندما يتجه المرء ببصره إلى الجانب الآخر من النهر لا يجد المنظر أقل من ذلك جمالاً: فأشعة الشمس تكسو باللون الوردي سفح سلسلة جبال العرب، والهيكل الضخم الهائل لقصر الشمال استطاع البعد أن يصغره قليلاً، وقد نهضت أبراجه من الجرانيت، وأعمدته الهائلة فوق منازل المدينة؛ وأمام القصر تمتد ساحة فسيحة تسلم إلى النهر بسلمين على الجانبين، وفي الوسط طريق الكباش يقود إلى برج ضخم، يسبقه تمثالان هائلان وزوج من المسلات العالية يقطع رأساهما الهرميان زرقة السماء الصافية.
وإلى الخلف من أعلى حائط السور يبدو جانب معبد آمون، وإلى اليمين قليلاً ينهض معبد (خنسو) ومعبد (أفت) ويرى وجه برج ضخم، ومسلتان طولهما ستون ذراعاً تبينان مبدأ هذا الممشى الهائل، ذي الألف من التماثيل التي جسمها جسم أسد ورأسها رأس كبش، ويمتد هذا الممشى من قصر الشمال إلى قصر الجنوب، وعلى جانبيه نرى هذه التماثيل الكبيرة مستديرة النيل
وبعيداً من ذلك يتراءى غير واضح في الأشعة الوردية أفاريز عليها قرص الشمس الساحر ناشراً جناحيه الواسعين، ورءوس التماثيل الضخمة ذات الهيئة ألوادعة، وزوايا الصروح العالية، والطنوف المنضدة، ومسلات من الجرانيت، ومجموعات من النخيل يتفتح سعفها كأنه باقات من العشب، وقصر الجنوب قد زها بحيطانه العالية الملونة، وسوارية المزينة بالأعلام، وأبوابه المائلة ومسلاته، وقطعان أبي هوله؛ وفضلاً عن هذا كلما امتد الطرف استطاع أن يرى طيبة تمتد بقصورها وكليات كهنتها ومنازلها، ويجد خطوطاً زرقاء ضعيفة، تِشير في نهايات الأفق إلى قمم الأسوار ورءوس الأبواب.
كان ميدان العرض شاسعاً قد مهد بعناية لإبداء العظمة العسكرية، وبه أطوره يجب أن تكون قد استخدم فيها طيلة سنوات عديدة عشرات الأجناس التي قيدت إلى مصر مستعبدة؛ وهذه الأسطورة تكون إطاراً بارزاً لهذا المستطيل العظيم، وخلفها حيطان من اللبن مصنوعة بانحناء، ويقف عليها، على ارتفاعات متفاوتة مئات الآلاف من المصريين الذين يظلون في اضطراب دائم، هذا الاضطراب الذي يميز الجمهور، حتى حين يبدو أنه لا يتحرك، وتلمع في الشمس ملابسهم البيضاء أو المزخرفة بألوان ناصعة.
وخلف هذا النطاق من النظارة تجد العجلات والعربات والهوادج، يحرسها الحوذيون والسائقون والعبيد ولها منظر شعب راجل، فقد كان عددها عظيما جداً، وإن طيبة عجيبة العالم القديم كان بها من السكان ما يربي على بعض الممالك
وكان الرمل المجتمع الدقيق للميدان الواسع المحاط بمليون رأس، يلمع كأنه معدن براق تحت ضوء يسقط من سماء زرقاء، كأنها مينا تماثيل أوزيريس
إلى الجانب الجنوبي من ميدان العرض ينقطع البناء، وينفتح طريق محاذ لسلسة جبال ليبيا، ويمتد إلى بلاد النوبة العليا، وفي الجهة المقابلة ينشق الجدار، ويسمح للطريق أن يستمر حتى قصور رمسيس، عابراً بين الحيطان الضخمة
سمعت من بعيد ضجة عجيبة مبهمة قوية، كضجة البحر، حين يقترب، وغلبت ضوضاء الجماهير. وهكذا يصمت زئير الأسد مواء جماعات ابن آوى. وبعدئذ أخذت تتميز أصوات الآلات من بين هذه العاصفة الأرضية التي أثارتها عربات الحرب والمشية المتزنة للرجال من المحاربين؛ وقد ملأ هذه الناحية من السماء غبار مصفر كهذا الذي تثيره ريا ح الصحراء؛ ومع ذلك كان الجو راكداً فلم تكن تهب نسمة واحدة؛ وأدقُّ سعف النخل ظل ساكناً لا يتحرك، كما لو كان منحوتاً من الجرانيت على رؤوس أعمدة من الصخر؛ ولم ترتعش على الخدود الندية للسيدات شعرة واحدة، والعصائب المزخرفة التي زينهن بها الحلاقون تمتد متكاسلة خلف ظهورهن
هذا الغبار الناعم قد أثاره الجيش وصار فوقه كسحاب أشقر زادت الضوضاء، وانشقت عاصفة الغبار، وبدأت الصفوف الأولى من الموسيقيين تبدو في الميدان الواسع لتنعش الجمهور الذي بدأ من الانتظار تحت شمس تذيب الجماجم إلا جماجم المصريين
وقفت طليعة الجيش من الموسيقيين بضع لحظات، وأخذ جماعات القسس والمنتخبون من أعيان مدينة طيبة يعبرون ميدان العرض ليستقبلوا فرعون، واصطفوا على هيئة سياج، عليهم أعظم مظاهر الاحترام، وتركوا الطريق حرّاً لمرور الموكب
لقد كانت الموسيقى التي تستطيع وحدها أن تكِّون جيشاً صغيراً، تتألف من الطبول والطنابير والأبواق والصلاصل
مرت الفرقة الأولى تغني لحناً مدوياً هاتفاً بالنصر، في أبواق قصيرة من النحاس اللامع كأنه الذهب، وكل واحد من الموسيقيين يحمل نفيراً آخر تحت إبطه، فكأنه الآلة هي التي تتعب لا الرجل
كان زي هؤلاء الجند مكوناً من نوع من السراويل قصيرة، مضمومة بمنطقة طرفاها العريضان يتدليان إلى الأمام، ومن عصابة غرس فيها ريشتان من ريش النعام، مختلفتا الاتجاه، وهذه العصابة تضم شعرهم الثقيل ووضع الريش كذلك يذكرنا بقرون الجعارين، ويمنح الذين يتزيون بها منظراً غريباً كالحشرات
وضاربوا الطبول يلبسون دروعاً مثناه فحسب، ويضربون بقضيب من خشب الجميز جلد حمر الوحش لطبولهم المعلقة بحمالات من الجلد، متبعين النسق الذي يعينه رئيس لهم يضرب بكفَّيه وكثيراً ما يتجه إليهم
تأتي بعد ضاربي الطبول اللاعبون بالصلاصل، هؤلاء يهزون آلاتهم بحركات عنيفة منقطعة، ويدقون في نظام حلقاتهم المعدنية على قضب أربعة من البرنز.
وحاملو الطنابير يعرضون أمامهم طنابيرهم المستطيلة والمحمولة بعصابة خلف أعناقهم، ويدقون عليها بقوة بمقابض أيديهم
كل جماعة من الموسيقيين ليست بأقل من مائتي رجل، ولكن عاصفة الضوضاء التي تنتج من الأبواق والطبول والصلاصل والطنابير ليست بذات خطر، ولا هي مخيفة تحت قبة السماء الواسعة، وفي وسط هذا آلفضاء الشاسع، وبين طنين هذا الشعب، وعلى رأس جيش يتقدم وله عجيج المياه الثجاجة
وهل كثير أن يتقدم ثمانمائة من الموسيقيين ركب فرعون، محبوب آمون - رع، والذي أقيمت له التماثيل الضخمة من البازلت والجرانيت ترتفع إلى ستين ذراعاً، وقد نقش اسمه على الآثار الخالدة، ونحت تاريخه وصور على حيطان ردهات المعابد ذات الأعمدة، وعلى جدران الأبراج، والأفاريز التي تنتهي، وصوراً لا حصر لها؟ أيكون كثيراً على ملك قابض على ناصية مائة شعب مغلوب؟ على حاكم يؤدب الممالك بسوطه من أعلى عرشه؟ على شمس حية تبهر الأعين وتزيغها؟
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين