مجلة الرسالة/العدد 507/قلمي!!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 507/قلمي!!

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 03 - 1943



للأستاذ (د. خ)

إلىّ إلىّ يا قلمي فاكتب صلاتي وخُطَّ نُسُكي!

إن غِناءَك القديم يُفعم قلبي بذكريات الجمال والحب، فاصدحْ، كعهدك، ورقرق أناشيدك،

وأسكبْ في روحيَ الظامئةِ أغاريدك!

طالما غَنّيتَ يا قلمي الحبيب فأصْغَتِ السماء، وتهلل البدر، ورقصت الملائكة، واهتز

الورد. . . فماذا أصابك؟

هات يا قلمي كأسَ بيانك نشرْبها على ذِكَرِ الماضي الجميل الفِضّيّ الذي غدا أحلاماً

كالحمائم البيض، ترد ظِماءً وتصدُر ظماءً، فأين ماؤك؟

هل حقٌّ أن جنَتَّك أوشكت أن تُصَوّح، وأن يَنبوعك كاد أن يغيض؟ إذن فأين أنتَ في هذه

الدنيا الصّاخبة التي تُدَوّي في المشرقين، وتضطرب في المغربيْن، وأنت مُنْطَوٍ على نفسك، عاكفٌ على أحزانك، سادرٌ في آلامك، يُشجيك أن أعز الإخوان عليك قد هجرك، وأن مرضاً ألم بصاحبك فقطعه عن الدنيا قد كدّر عليك صفو الحياة، وأن المروءة والوفاء قد ذهبا أدراج الرياح، فلم يكتب إليك حبيب، ولم يحن إلى لقائك إلف، وألم يُسْلِكَ في وحدتك الموحِشةِ مواس!!

لله يا قلمي ما أبدعت لأحبّائك من جناتٍ، وما فجّرتَ في جنّاتك من عيون، وما جعلت

فيهن من حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون!

ألم تصور لهم شباباً لا يعرف الهرم، وجمالاً لا تمتد إليه يد الدبول؟

ألم تلهب أفئِدتهم بالحرارة التي أشَعْتَها في كلماتك، والأحرف العاشقة التي نفثتَها من

شبَاتك؟

ألم تُجوِّد لهم ألحاناً أرْويت بها نفوسهم الصادية، وأسكنتهم منها في قصور عالية، من نور

وبَلُّور؟

ألم تُبدع لهم طوبى من وَرْد وريحان، وبهار وسُوسَان، فمنحتهم دمك، وخعلت على

شيخوختهم شبابك، وأعْشَيتَ بطول السهر من أَجلهم عينيك، وجلبْتَ على صاحبك العناء ليستريحوا، والشقاء لينعموا، والمرض ليصحوا. . . وأنت مع ذاك متنفّسي الذي لا أعرف أن أشكوَ إلا إليك. . . ولا أستمد العَوْن إلا منك، ولا أفرّج الكربة عن صدري إلا بك، ولا أستروح الحياة إلا في ظلك، ولا أجلو صدأها إلا بشدوك، ولا أنير حلكتها إلا بنور إيمانكَ، حتى تَنقشعَ ظلماتُها بما ترقرق فيها من ضوء بيانك، وتنجاب غياهُبها بفيضٍ من لآلاءِ عرفانك!!

لماذا صمتّ هكذا يا قلمي الحبيب؟ ألست تُحسِن أن تغنّي مع هذه الأقلام التي تملاء

الوادي دَوِيّا؟ ألست تُجيد أن تنبت الزهر يانعاً في قلوب العذاري؟ ألست تستطيع أن ترقرق الدمع في عيون المحبين؟ ألست تقدر أن تسكب في قلوبهم رضى ورحمة؟ ألا يسعك أن تَشْدُوَ في هدأة الليل النائم فتلين أفئدة وتتسلى أفئدة! هل هكذا تنسى أَودَّاءَك المكلومين والمحزونين؟ تخاف علىّ؟ لماذا؟ لأن الأطباء آثروا عافيتك؟ وأي أديب لا تساقط نفسه من قلمه أَنْفُساً؟ ثُرْ على الطب يا قلمي جعلت فداءك!! إن الذي يقتلني هو هذا الصمت وذاك السكون!! ما قيمة الحياة التي تنقضي في مثل العزلة الرخيصة والركود الآسن؟! لقد مللتُ من طول ما قرأتُ فلا تجعلني أنانياً! لماذا أعيش في سجن هذه الوحدة لنفسي فقط، فلا يكاد الوجود يحس بي؟ لماذا آخذ ولا أعطي؟ لماذا جمدت الدموع في عينيّ، والرحمة في قلبي، والشعر في روحي، فلست أبكي في هذه الزحمة من البكاء والآلام والدم؟ أبأمر الأطباء تصمت عامين طويلين يا قلمي الحبيب؟ هل انتفعت إذن بهذا الصمت الطويل؟ هل رد جمودك برد الشباب على جسمي المحطم؟ هل أسا العلة تخلّفك عن موكب الحياة؟ تصمت عامين كاملين في أحفل حقبة من عمر الإنسانية، وخلال مأساتها الدامية: ألا ما أرخص الحياة التي يبقى عليها أطباءك، وما أحبّ إلىَّ أن تتخذ من ذمائها مداداً يكفي لكتابة سطر في سجل محنتها!

منعك أطباءك من إدمان السهر، فهل نمت؟ وحظروا عليك طول الإكباب على الكتب فهل

سلوت؟ وقالوا لك أرح ذهنك فهل منعوا أطياف المعرفة من الإلمام به؟ لشد ما ضحكوا عليك ولهو بك يا قلمي الحبيب! ولشد ما أضحكوا عليك هوميروس وإسخيلوس وصحبهما الآخرين!!

أستيقظ إذن!

فتح أكمام الورد آماق النرجس وحدق البنفسج، وأرو روح الحديقة الظامئ مما عندك من أمواه الغزل والحب والجمال!

أستيقظ إذن وأطلق بلابلك تخفف من أشجان العذارى بالتسجيع والترجيع، وتملأ الدنيا

غناءً وموسيقياً!

تطمع أن تعيش عمراً طويلاً راكداً هكذا؟ إذن ما فائدة هذا العمر الطويل الذي لا يصلك

فيه بالعالم شئ؟ ما قيمة هذا الظلام الذي لا يتألق فيه نجم؟ ما أشبه خطأ الأطباء في هذا بالغلطة التي وقعت فيها أورورا!! هل تذكر أورورا؟ هل تذكر ربه الفجر ذات الأنامل الوردية؟ هل تذكر حينما أحبَّت الفتى تيتون حبَّا دلَّه فؤادها وأرق نومها وسعّر أنفاسها وجعلها تخر تحت أقدام الآلهة في أولمب طالبةً له الخلود، فلما أوتيت سؤلها وفرحت به، وراحت تحتسي وإياه أفاويق الغرام أياماً. . ذكرت أن تيتون من بني الموتى. . . وانه لا بد أن تدركه الشيخوخة يوماً ما. . . ثم كان ما خافت أورورا أن يكون. . . وشرع الشيب ينبت إبره في راس فتاها الحبيب. . . فلما تنهدت. . . و. . . صبرت! لكن الوجه الجميل المشرق، والفم الرقيق الباسم، والجسم القوى السامق، والأذرع الملفوفة العاتية، والنفس المتدفقة الحارة. . . و. . . والشباب الفينان الذي كانت تلف حوله ألصبوات والأماني. . . كل ذلك أخذ يخبو ويخمد، ويتغير ويتبدل، حتى أمسى تيتون كومة من الحطام. . . والذكريات!! فزهدته أورورا وعافته، بعد ما أسفت على أنها لم تسأل له الآلهة مع ذلك الخلود الذي لانهاية له، شباباً لا آخر له. . . ولما ضاقت به، تمنت على الآلهة الأماني فمسخته!. . . وهكذا كانت خاتمة تيتون!

فهل تريد لي عمراً طويلا كعمر تيتون يا قلمي الحبيب؟ لشدَّ ما يفزعني ذلك! لشدَّ ما

تفزعني هذه الشيخوخة التي يثقل فيها الأب على الأبناء، ودبيب القدم المتهالك على أديم الغبراء! إطو عشرين حجة في غيابه المستقبل ثم ابحث عن بريق عينيك تجد فيهما ظلاماً، وعن تألق وجنتيك تر فوقهما قتاماً، وعن آمال الفؤاد تجدها ملئه آلاماً!!

انفذ يا قلمي إلى حديقة الحياة فوسوس في آذان الورد، واطبع القبَل فوق أجياد الزنبق،

وانفث السحر في صفحة الغدير، وسقسق مع البلابل لتسلى المنْبوذين، وغنِّ فالقافلة قد جدَّ بها المسير!

حذار يا قلمي الحبيب أن تكون متجهماً للحياة أو ناقماً على الناس، فأنت هنا لتبدع شيئاً جميلاً في هذه الدنيا، أو لتكمل نقصاً من كثير من أوجه النقص التي تعيبها. . . وماذا تنقم من الناس؟ ولماذا لا تنال شرفك بأن تكون خادمهم المتواضع؟ ألست ترى إلى هذه الأقلام المتهافتة التي تنفث السم في أخلاق ذويك؟ ألست تراها كيف تغازل الشهوات النائمة، والعواطف الرخيصة، والألباب الشاردة، والقلوب الضالة؛ تفتنها بالأدب المخنث، وتهيجها بالأسلوب الماجن، وتمزق حياءها بالغرام الذي لا يخجل، والفسوق الذي لا يرعوي، والرذيلة التي جثمت على صدر فرنسا فأوهت بنيانها وزلزلت أركانها وأسلمتها للهوان والخذلان!. . . يكتبون للشرق عن غادات بلزاك، وقيان شاتوبريان، والعبد الأسود الذي تَسَوَّّرَ إلى شهرزاد في فحمه الليل ليطفئ ما في قلبها ولتطفئ ما في قلبه. . .!! يا للهول!! ماذا يكتب هؤلاء الضالون لهذا الوطن المنكوب بهم؟! متى كانت مصر في حاجة إلى فولاذ ينصب في أخلاق بنيها كما هي اليوم، بدلاً من هذا السم الذي تتجرعه ولا تكاد تسيغه؟. . . وأنت مع ذاك يا قلمي تغط في سباتك العميق لا توقظك أحداث الزمن، ولا تدميك صرخة الإنسانية، ولا يُفزعك أنين السماء، ولا يُشجيك بكاء الملائكة، ولا يُروِّعك أن يأكل الإنسان لحم أخيه الإنسان! لقد انتهت الإنسانية إلى المأساة التي أفزعت أفلاطون وأوحت إليه أحلام الطوبى، وروَّعت توماس مور ووسوست إليه برُؤى الفردوس. . . الفردوس الجميل الشعري الذي يلهم المفكرين ويغازل ألباب المصلحين!! لماذا تغمض هكذا أيها القلم كما يغمض الطفل المفزوع يرى المنظر المروّع فيطير له لبه، وينخلع له قلبه، وتطير نفسه شعاعاً؟ ألا يجد يداً عطوفاً فتنقذه، ولا نجدة من السماء فتباعد بينه وبين ما يرى؟!

أَلا لقد أصبحت خشيتك الأطباء تعلة، هي أقسى على صاحبك من العلة؛ وصار خوفك

على صحته من الداء، داء أشق على روحه من جميع الأدواء. . . وها أنتذا قد أصابك الصمم، وجرَّ عليك سكوتك البكم، فلست تتوجع لأبناء وارسو، ولا يضنيك أن يحصد الموت شعب روتردام، ولا يهمك أن تنشق الأرض تحت كوفنتري، ولا أن تبيد ستالينجراد، ولا أن يبلع اليم جواريه؛ ولست ترثي لعذارى كييف، ولا يفزعك ما أنزله المثأورون بكولون. . . ثم ها هي ذي اليونان العزيزة، هيلاس الخالدة، جنة الأولمب وفردوس الخالدين. . . اليونان التي حَبَسّتُك عليها طويلاً يا قلمي، فعلمتك الجمال وألهمتك الفن وجرى منها في عودك ماء الحب. . . اليونان التي وهبَتْك أحلامها واستودعتك أسرارها وتفيأت تحت شباتك ظلالها. . . هل ذكرتها في تلك المحنة الظالمة التي لطمت فيها قفا المتشدق، وهزمت جيوش باعة الإسفنج، حتى أتاها الهون فأضاعوا شجاعتها بكثرة العَدد، وطفوْا فيها على مارسْ بالعُدد، فأذلوا الأولمب، ودنسوا رحاب زيوس، ونشروا سمادير الكآبة على جبين مينرفا، وأطاشوا سهام كيوبيد، وفجروا الدمع من عيني فينوس!!

أما تزال تبكي يا قلمي الحبيب؟! أما تزال تؤثر الصمت إشفاقاً على صاحبك، ورثاء لأخيك؛ إذن. . . فإليك البشرى التي تأسو علتك، وتمسح عَبْرتك، وترد عليك ما فاتك من شباب. . . ها هو ذا صاحبك يتفيأ ظل الجنة التي تحوطه فيها القلوب الحبيبة. . القلوب التي تطب له ما لم بطب الأُساة النُّطس، وتعالجه في جنباتها الأرواح الطاهرة التي سلمت من كل رجس، فهي لصاحبك من علته شفاء.

(د. خ)