مجلة الرسالة/العدد 501/عاطفة الأبوة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 501/عاطفة الأبوة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1943



في (أعاصير مغرب)

للأستاذ إدوارد حنا سعد

في ديوان (أعاصير مغرب) الذي صدر حديثاً للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد موضع لبعض الدهشة، فقد وجدنا فيه الشاعر الذي نعرف، ولكننا لم نجد فيه العاشق الذي نعهد. فإن من الصعب أن يقال إن الأستاذ العقاد الذي كان يقول في دواونيه الأولى - عندما يلمس خداع العشيقة أو بشك في ذلك: -

جمالك سم في الضلوع وحسرة ... ترد مهاد الصفو غير ممهد

إذا لم يكن بد من الكأس والطلا ... ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي

والذي كان يقول:

ما كنت يوماً بالأنام موكلاً ... فأعد منهم من يضل ويرشد

ولو كنت نوحاً لم تفدك سفينتي ... إن ابن نوح كان فيمن ألحدوا

هو نفسه الذي يقول في ديوانه الجديد:

أعفيك من حلية الوفاء ... إنك أحلى من الوفاء

خوني فما أسهل التقصي ... عندي وما أسهل الجزاء

وليس بالسهل في حسابي ... فقدك يا زينة النساء

وقد حاول بعض الكتاب أن يرد هذا الاختلاف إلى أساسه، فقال الأستاذ كامل الشناوي في الأهرام: (إن العقاد الشاعر كان ينظم وعين العقاد الكاتب الفيلسوف ترمقه وترعاه)

ولكني أرى أن الأستاذ الشناوي قد أخطأ المحز وكان الأولى به أن يقول إن عاطفة الأبوة كانت ترمق العقاد وترعاه، بل كانت تسيطر عليه وتملي نفسها على شعره إملاء

فقد بلغ الأستاذ العقاد سن الخمسين وهي السن التي تهدأ فيها فورات العشق وتبدأ النفس تستعرض مواكب الذكرى وتحن إلى حياة الوادعة وإلى حنان الأسرة. ويكون هذا الشعور - أقوى ما يكون - في النفس المصرية التي انغرس فيها من قديم معنى الأسرة وتعلقت بها

وقد يصادف الإنسان في هذه السن عشيقة يجد في سنها أو حركاتها أو سماتها ما يوقظ فيه من جديد عاطفة الأبوة، فيختلط الحب الجنسي وهو أثرة مستترة، بالحب الأبوي وهو إيثار صريح، فيكون منهما مزاج نقرأه الآن في أعاصير مغرب

فهذا الديوان الفذ حافل بأوصاف الطفولة وتدليلها وألعابها وحلواها إلى حد يلفت النظر:

غريرة تسأل ما الحبُّ؟

بنيتي هذا هو الحبُّ

ضمي ثغيرك يا بنية وابعثي منه الأمل

بنيةُ ما صنعت، جزاك ربي ... بحب في مشيبك مثل حبي

ماذا تخبئ طفلة ... رقت ورق قناعها

ما شب من نار طبخ ... نا فوقها حلوى الهوى

فكم لعبة وقعت من يدي ... ك وقوعاً أرى القلب لا يشتهيه

إني أشاهد كيف يفط ... م في القلوب رضاعها

فإذا تركنا هذه الأبيات الحافلة بصورة الطفولة طالعتنا أبيات فياضة بعاطفة أبوة صادقة دافقة

يقول الشاعر الكبير

احسبني الأكبر حتى إذا ... عانقتني ألفيتني الأصغرا

وهو بيت صادق جميل في وصف عناق عشيقين، ولكن ليس أجمل منه ولا أصدق في وصف عناق الأب لابنته، حين يجد نفسه وقد عادت فيها من جديد صغير فياضة بتيارات الحياة ويقول:

تم الكتاب وألقت باليراع يدي ... وضمن الطرس إحساسي وإدراكي

ما لي به غير مسرور ولا كلف ... إلا يسر يميناً نبتها الزاكي

ضيعت فيك مسراتي فما بقيت ... لي من مسرة شيء غير لقياك

فهل من محض المصادفة أن يقول الأستاذ هذا الكلام الآن، والآن فقط وهو الذي قضي أكثر من ثلاثين عاماً يكتب وينظم ويعتز بشعره وكتابته إلى أبعد حدود الاعتزاز

لشد ما غيرت هذه العاطفة الجديدة من نفس أستاذنا الكبير!

إن كان خلفك للوعود تدللاً ... بمكانك الغالي لدي فأخلفي

ما كنت أتبعه القطيعة آنة ... هو منك واعجبي يزيد تشوقي وقد هداه إلهامه الصادق فقال:

تحديث الحياة فهل جزتني ... بهذا الحب عن ذاك التحدي

نعم تحداها بوحدته وانصرافه عن الزواج أو هذا الجانب من منغصات الحياة كما قال همام لسارة وهو يحاورها

وما دمنا بصدد بحث أدبي، فإني أبيح لنفسي أن أبتعد عن المجاملات التافهة فأقول إن هذه العاطفة التي يقول علماء النفس إنها قد تنصرف إلى الحيوانات الأليفة، تبدو في أعاصير مغرب، ففيه عشرون صفحة عن (بيجو) الكلب الأمين الذي أحس الأستاذ لموته بالحزن (الوجيع)

فإذا فهمنا غزليات العقاد الجديدة على هذا الضوء الجديد استطعنا أن ننفذ إلى جمالها الباطن. وإذا كانت الطفلة قد عقت أو كادت، فإن للأستاذ الكبير أبوة روحية على الكثيرين من تلاميذه وعشاق أدبه المنتشرين في كل مكان تقرأ فيه اللغة العربية، وهم لا يكنون للأستاذ إلا الحب الصادق والوفاء الخالص. ويسرني بل ويشرفني أن أكون من بينهم.

(إسكندرية)

إدوارد حنا سعيد