مجلة الرسالة/العدد 497/من أظرف ما قرأت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 497/من أظرف ما قرأت

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 01 - 1943



كزينوقراط الفيلسوف

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كان في أثينا، أيام أرسطوفان، مائة وخمس وثلاثون حظية، كن زهوراً فواحة فيها، ونجوماً رفافة في سمائها؛ وقد أوتين الخلابة والظرافة والجمال. وكانت لاييس أخلبهن جمالاً وأبرعهن حسناً وأكثرهن دلاً وظرفاً

ويقولون إن فينوس، ربة الجمال والحب، تجلت لها في الحلم فأرتها ما ستحظها به من حظ، وما ستنعم به من نعيمات. . . ومسحت بكفها الصغيرة جسمها الغض، فجعلته مثار غوايات وينبوع شهوات

ولم يخلب الملوك، ولم يشرد نوم الكهان، ولم يُذهل أحلام الفلاسفة، غير لاييس؛ الطروب المدلة، ذات العين الضحوك والجسم الريان. فكان أهل أثينا يجتمعون في (الكورنث) مسرح اللهو واللذاذات، يتمتعون منها بمحاسن تتجدد وملاحات ليس تنفذ، فإذا مضت إلى معبد فينوس، فيا لسحر الجمال! هنالك ترى الشعب يتبعها كالخراف لا يدعون فينوس، ولا يبتهلون إلى آلهة الأولمب، ولكنهم ينظرون إلى لاييس

وفلك ثدياها فكانا شركاً وفتنة: غضوضة تأسر اللب ونعومة تشل الحس، واهتزاز يفتن الناظر. فكان المثالون يعطون فينوس، إذا نحتوا لها التماثيل، ثدي لاييس الحظية أو فرينه اللعوب

وكانت الدنانير تنثر تحت أقدامها كما تنثر الأزاهير لنظرة حنونٍ منها أو بسمة خلوب

ودوخت لاييس أثينا كلها، واشتد سلطان جمالها، وتيمت الأرواح وأذهلت الأحلام، إلا رجلاً واحداً، كان يتجلد ويصبر ولا يذعن لسلطانها. هو كزينوقراط الفيلسوف.

لقد طلبت منه مالاً من ماله. . . (فإذا أعطيتنيه، سكبت في فمك لذة الدنيا، وأذقتك هناءة العمر، في ليلة واحدة!)

ورفض الفيلسوف طلبة لاييس، فأقسمت لتغوينه، ولتجعلنه من عباد جمالها المخلصين، وتخاطرت على الهزء به مع أناس كثيرين.

وطرقت باب مأواه، وقد عبس الليل، مذعورة الجنان دامعة العينين. فقال لها: (ما ذعرك ي لاييس. . . وما أصابك في هذا الليل البهيم. . .؟) قالت: (لقد تبعني قُطاع الطريق وأرعبني سُفاك الدماء، يريدون اختطافي. . . فأوني في دارك حتى يبرق لي النور. . .!)

وأدخلها الفيلسوف غرفته، وقدم إليها سريره.

يا عجباً! لقد اختفت تلك الدموع الغزار التي كانت تساقطها، منذ لحظات، كحبات المطر، فتنحدر على خدودها كالدرر.

وابتسمت لاييس. . . وابتدأت الفتنة!

لقد وقفت أمامه، فرأى ما يسحر وما يغري: فهذه البسمة الفاتنة كأنها وعد بلذة صخوب، وهاتة الشفاه المفترة التي تقطر الشهد والرحيق، وهاتان العينان اللتان ترسلان لهباً فاتر يوهن القوي، وينظران نظرات حالمة فيهن ظمأ وعتب وأسى. وهذان الذراعان البضان اللذان يمتدان للعناق. وهذه الحركة الرشيقة التي تثير الوجد، والضحكة البارعة التي تفلق الكبد، والغمزة الساحرة التي ينخلع لها الفؤاد. . . ثم هذا الغضب الجميل، والنفور اللطيف، وذاك الدلال الحلو والإقبال الظريف. . . ثم ما شئت من مراح ومزاح، ورقص وشدو، وبكاء وأنين. كل أولئك ما هز الفيلسوف وما أثر فيه.

لقد قطعت الليل تحاول إغراء كزينوقراط، فما خلبته فتنتها، ولا هاجه سحرها؛ لكنه لبث أمامها ينظر متجلداً، كأنه قطعة من حجر أو قدة من جليد.

ولملمت لاييس أثوابها، وخرجت من دار الفيلسوف مع الفجر وفي عينيها الحلوتين دموع الخيبة والفشل

وانتشر الخبر مع النور، فجاء صواحبها مسرعات، فابتسمت لاييس، وقالت: (لقد راهنت على إغواء إنسان. أما كزينوقراط فتمثال من جليد. . .!)

ونظر لداتها بعضهن إلى بعض دهشات، وقلن: (لك عذرك يا لاييس!)

هذا حديث أرسطوفان، ما أدري مبلغ التزويق أو التهويل فيه، ولكني ذكرت، وقد تمثلت في خاطري صورة الفيلسوف حديثاً طريفاً للجاحظ، عن نديم أسمه أبو المبارك الصابئ، كان أحلى خلق الله حلاوة وظرافة وفكراً، وابرعهن حديثاً ونادرة وعلماً، وألطفهن مذهباً وطريقة وفهماً. وكان قد خصي نفسه وأربى على المائة. وكان ينادم الخلفاء والوزراء ويغشي بيوت حرمهن، ويقضي الأوقات الطوال عندهن. وكان قلبه علوقاً بالجمال يتتبعه ويهيم في أثره. فسئل عن ميله إلى النساء، وقد تخطى المائة؛ فزفر زفرة كادت تقصف ضلوعه وقال: (إني لأسمع نغمة المرأة، فأظن مرة أن كبدي قد ذابت، وأضن مرة أنها قد انصدعت، وأظن مرة أن عقلي قد اختلس، وربما اضطرب فؤادي عند ضحك إحداهن، حتى أظن أنه خرج من فمي. . . فكيف ألوم غيري عليهن؟)

فما أشد اختلاف الطباع!

(دمشق)

صلاح الدين المنجد