مجلة الرسالة/العدد 497/مسابقة الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 497/مسابقة الأدب العربي
2 - ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
مواساة طرابلس - مواساة بيروت - آمال مصرية
مواساة طرابلس
في شهر سبتمبر من سنة 1911 أغارت إيطاليا على طرابلس - وهي يومئذ ولاية تركية - فنهض المصريون لمعاونة طرابلس بالطب والشعر والمال والرجال، فمضى إلى الميدان أطباء مصريون لمعالجة الجرحى الطرابلسيين، منهم الدكاترة حافظ عفيفي وسيد شكري ونصر فريد؛ ومضى إلى الميدان مجاهدون مصريون أشهرهم عزيز باشا المصري، ومحمد بك القناشي؛ وجمعت أموال كثيرة لتموين الجيش الطرابلسي. وبفضل تلك الحرب أنشئت جمعية الهلال الأحمر المصري، وكان لقلم الشيخ علي يوسف تأثير في إنشاء تلك الجمعية، وهي لا تزال من كبريات جمعياتنا الخيرية.
وانطلق الشعراء فقالوا في تشجيع الطرابلسيين وتخذيل الإيطاليين عشرات القصائد الجياد
في تلك الحرب قال حافظ قصيدته الميمية:
طمع ألقي عن الغرب اللثاما ... فأستفق يا شرق وأحذر أن تناما
وفيها قال عبد المطلب قصيدته البائية:
بني أمنا، أين الخميس المدرَّبُ ... وأين العوالي والحسام المذرَّب
و (بنو أمنا) في قصيدة عبد المطلب هم الأتراك، وكانوا كذلك بحكم الأخوة الإسلامية، وهو معنى فسره شوقي أحسن تفسير حين قال في التوجع لسقوط (أدرنه) في الحرب البلقانية:
مقدونيا - والمسلمون عشيرة - ... كيف الخئولة فيك والأعمام
وبمناسبة قصيدة عبد المطلب أذكر أنه قال في التمهيد إن نفسه جاشت حزنا حين لاحظ أن القوة المدافعة من الطرابلسيين وأن الأتراك لم يكونوا إلا مديرين
وقد فكرت في مراجعة الجرائد المصرية لذلك العهد عساني أعرف السبب في تخلف الجيش التركي عن معاونة الجيش الطرابلسي، ثم اتفق أن لقيت الأستاذ عبد الرحمن بك عزام في قصر الزعفران يوم مضيت للتسليم على حضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله، فسألته عن سبب ذلك التخلف، فأفهمني أن إنجلترا اعترضت على مرور الجيش التركي بالأرض المصرية بحجة أن مصر على الحياد، فلم تستطع تركيا إنجاد طرابلس بغير القواد من أمثال أنور وفتحي ومصطفى كمال
كانت تلك الحرب مثاراً لحركة فكرية وأدبية، ففيها أختصم المصريون حول الموجب لمعاونة الأمم الأسلامية، وكان ذلك الاختصام بمناسبة مقالة نشرها لطفي باشا السيد عن الأموال التي تجمع لمواساة الجرحى من المجاهدين المسلمين. فقد أعلن أن الأفضل أن تجمع تلك الأموال بأسم الإنسانية لا بأسم الدين، فثار الجدل هنا وهناك، لأن مثل هذا الرأي في ذلك الوقت كان يثير الجدال
وفي غمرة الكروب التي أثارتها تلك الحرب أعلن الشام أنه يريد الاستقلال، بتوجيهات خفية من خصوم الأتراك، فثارت الجرائد المصرية وعدت ذلك تأييداً لعدوان الطليان
شبكة بيروت
ولم تنتظر إيطاليا حتى تنجح الدسائس الخفية في تحريض البلاد الشامية على الدول التركية، فأرسلت أسطولها لضرب ميناء بيروت بمدافع الأسطول الثقال، انتقاماً من الأتراك، والأحمق يؤذي نفسه من حيث لا يريد
كان من السهل في تلك الأيام أن يميل نصارى لبنان إلى تأييد الطليان - فقد كانت بينهم الأتراك عداوات - ولكن ضرب بيروت بمدافع الأسطول الإيطالي أغضبت نصارى لبنان وملأت قلوبهم بالغيظ فثلبوها بما يملكون من أسلحة الهجاء في الجرائد والمجلات
وفي تلك النكبة ثار الشعراء المصريون على الطليان، ثاروا انتصاراً للأتراك وانتصاراً لأهل لبنان
وفي نكبة بيروت نظم شوقي قصيدةُ الرائع:
يا ربّ أمرُك في الممالك نافِذٌ ... والحكم حكمك في الدم المسفوك
إن شئت أهرقه وإن شئت أحمه ... هو لم يكن لسواك بالمملوك
واحكم بعد لك إن عدلك لم يكن ... بالممترَي فيه ولا المشكوك
ألأجل آجالٍ دنت وتهيأت ... قدّرت ضرب الشاطئ المتروك بيروتُ مات الأُسد حتف أنوفهم ... لم يشهروا سيفاً ولم يحموك
كلٌ يصيد الليث وهو مقيدٌ ... ويعزُّ صيدُ الضَّيغم المفكوك
يا مَضربَ الِخَيم المنيفة للقِرى ... ما أنصت العُجمُ الآلي ضربوك
ما كنتِ يوماً للقنابل موضعاً ... ولو أنها من عسجدٍ مسبوك
بيروتُ يا راحَ النزيل وأُنسهُ ... يمضي الزمان عليَّ لا أسلوك
الحسنُ لفظٌ في المدائن كلها ... ووجدته لفظاً ومعنًى فيك
وفي نكبة بيروت نظم حافظ (رواية تمثيلية) جديرة بالإعجاب، وفيها أدار الحوار بين جريح من أهل بيروت وزوجة له اسمها (ليلى) وطبيب ورجل بدوي
وترجع أهمية هذه المنظومة إلى ما اشتملت عليه من الصدق في تصوير العاطفة الإنسانية، العاطفة التي تجمع بين قسوة الرجولة ورقة الوجدان؛ فالجريح فتى لبناني عجز عن مقاومة النار بالنار، فما كان لبلده أسطول يقاوم به أسطول الطليان، ولا أتيحت له فرصة يلتقي فيها سيفاً لسيف مع أحد جنود الأعداء، وإنما رمى وهو عاجز عن أن يرمي، فهو وقيذ الاغتيال. وفي تلك المحنة يتذكر مهد غرامه وهو بيروت، بيروت التي جمعت بينه وبين ليلاه في فجر الشباب
ولنترك حافظاً يصور آلام هذا الجريح بشعره الرقيق:
ليلايَ ما أنا حيٌّ ... يُرجَى ولا أنا مَيْتُ
لم أَقضِ حقَّ بلادي ... وها أنا قد قضيت
شفيت نفسي لو أني ... لما رُميت رَميت
بيروت لو أن خصماً ... مَشى إليَّ مشيت
أو داسَ أرضَك باغٍ ... لدُستُه وبغيتُ
أو حلّ فيك عدوٌّ ... منازلٌ ما اتقيتُ
لكنْ رماك جبان ... لو بان لي لا شتفيتُ
ليلاي لا تحسبيني ... عليَّ الحياة بكيتُ
ولا تظني شكاتي ... من مصرعي إن شكوتُ
ولا يُخيفنْك ذِكرى ... بيروتَ أني سلوتُ بيروت عهد غرامي ... فيها وفيك صَبْوتُ
جررت ذيل شبابي لهواً وفيها جريتُ
فيها عرفتُك طفلاً ... ومن هواك انتشيتُ
ومن عيون رُباها ... وعذب فيك ارتويتُ
فيها لليلى كِناسٌ ... ولي من العز بيتُ
فيها بنَى ليَ مجداً ... أوائلي وبنيتُ
ليَلى، سراج حياتي ... خبَا فما فيه زيتُ
قد أطفأته كُرَاتٌ ... ما من لظاهنّ فوت
رَمَى بهنّ بُغاةٌ ... أصبنني فثويت
ثم يمضي الحوار بين الجريح وليلاه، ثم يتدخل البدوي والطبيب، فلا تنتهي المنظومة إلا بعد أن يستوفي حافظ تصوير ذلك المشهد الحزين
ونرجع إلى القصيدة فنقول:
في تلك القصيد صور حافظ عدة مشاهد، صور انتفاع الطرابلسيين بالذخائر التي تركها الجيش الإيطالي عند انهزامه بإحدى المواقع فقال:
حاِتمَ الطليان قد قلدتنا ... مِنةً نذكرها عاماً فعاما
أنت أهديت إلينا عُدّةً ... ولباساً وشراباً وطَعاما
وسلاحاً كان في أيديكمُ ... ذا كَلالٍ فغدا يَفْري العظاما
أكثروا النزهة في أحيائنا ... ورُبانا إنها تشفي السقاما
وأقيموا كل عام موسما ... يُشبع الأيتام منا والأيامى
وصور استخفاف الإيطاليين بالمعاهدات وبالدين فقال:
أحرقوا الدور، استحلوا كل ما ... حرّمت (لاهاي) في العهد احتراما
بارك المطران في أعمالهم ... فسَلُوه: بارك القوم علاما
أبهذا جاءهم إنجيلهم ... آمراً يلقي على الأرض السلاما
كشفوا عن نية الغرب لنا ... وجَلوا عن أفق الشرق الظلاما
فقرأناها سطوراً من دمٍ ... أقسمت تلتهم الشرق التهاما وخلاصة القول أن حافظاً صور عواطف المصريين في الثورة على الأمة الباغية التي عدت على إحدى البقاع الإسلامية، بحيث استطاع أن يسبق شوقي في هذا الميدان
آمال مصرية
وهناك تاريخ مجهول هو تاريخ جهاد المصريين لتحرير طرابلس من نير الطليان في أعوام الحرب الماضية، وذلك الجهاد يرجع إلى نزعة أصلية هي شوق مصر إلى التلاقي مع جميع الولايات التي تشرف على شواطئ البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض، فقد كانت مصر في أكثر عهود التاريخ متصلة بتلك البلاد اتصال وداد وإخاء، وبلادنا كانت الملتقى لآمال الرجال في تلك البلاد، فأكابر الأغنياء من اليمن والحجاز وفلسطين والشام ولبنان وليبيا والجزائر وتونس ومراكش قد انتفعوا جميعاً بمركز مصر مفتاح الشرق
وكبار الوطنيين في مصر لهم أصول في تلك البلاد، فقد عير عبد الرحمن الرافعي بأنه شامي الأصل، وعير عبد العزيز جاويش بأنه مغربي، ونحن مع هذا نرى هذين الرجلين غاية في شرف الوطنية المصرية
ما معنى ذلك؟ معناه أن الوطن المصري هو الوطن الذي ينظم شواطئ البحر الأحمر وشواطئ البحر الأبيض، وقد حفظ التاريخ أن جنودنا استنزلوا في المعارك التي انتهت بفتح الأندلس وشهد التاريخ أيضاً أن عرب الأندلس لم يجدوا في محنتهم مأوى غير وادي النيل
متاعب الدنيا في هذه الأيام لن تنسينا ما يجب أن يحفظ، ولن ننسى أبداً أن لنا إخواناً هواهم من هوانا في جميع الشئون.
الحرب الحاضرة موجة عابرة، وميزان الوجود لا تزلزله قلقةٌ وقتية سيزول صداها بعد حين
مصر هي مصر، والشرق هو الشرق، ورجاؤه فيها هو رجاؤها فيه، ولن ينفصم ما بينها وبينه من مواثيق
سنكون فيما بعد أصدق مما كنا فيما قبل (والله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين)
زكي مبارك