مجلة الرسالة/العدد 49/من الأدب الإنجليزي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 49/من الأدب الإنجليزي

هند
مجلة الرسالة - العدد 49
من الأدب الإنجليزي
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1934



الشعر عند ماكولي

للأستاذ محمود الخفيف

للكاتب الإنجليزي العظيم اللورد ماكولي طريقة انفرد بها في عرض آرائه والدفاع عنها، فقد أوتى بسطة في العلم، وامتاز إلى جانب عبقريته بقريحة وقادة، وذاكرة عجيبة، هذا إلى روعة في الأسلوب، وسلامة في المنطق، ولباقة في سوق المقدمات وضرب الأمثلة واستخلاص النتائج.

كتب رسالة عن الشاعر ملتن، وضح فيها آراءه في الشعر وتناول الموضوع من جميع نواحيه، ولقد أشار في رسالته إلى بعض المسائل التي يختلف فيها شعراؤنا وأدباؤنا اليوم.

كان ماكولي شديد الإعجاب بالشاعر الكبير، ولذلك أحفظه ما كتبه النقاد عنه وانبرى للرد عليهم في ماسة استثارت عبقريته وأيقظت قريحته. رأى هؤلاء النقاد يسلكون السبل الملتوية للحط من قيمة الشاعر، فبينما هم يسلمون في غير تحفظ بأن آثاره جديرة بأن تأخذ مكانها بين أعظم الآثار التي أنتجتها العقول البشرية، إذابهم يأبون على الشاعر أن يتبوأ مكاناً بين فحول الشعراء كهومير ودانتي وفرجيل وإضرابهم، وحجتهم في ذلك أن هؤلاء نشاؤا في عهد طفولة المدنية، فلم يكن لهم من المعارف مثل ما كان لملتن الذي نشأ في عهد مستنير وتلقى علماً منظماً، واطلع على كثير من آثار المتقدمين، ولكنهم على الرغم من ذلك قد تركوا للعالم آثاراً تجل على المحاكاة، فكانت شاعريتهم طبيعية تتجلى فيها الأصالة، وتشع منها العبقرية، ولا يمكننا على ذلك أن نضع ملتن في صفهم، بل إنه لينبغي علينا إذاأردنا الأنصاف أن نحسب على ملتن، عند قياس شاعريته، كل ما أتيح له من ظروف طيبة.

يسرد ماكولي آراء خصوم الشاعر ثم يعلن في حماس ويقين أنه على الرغم مما يقولون يقرر أنه ما من شاعر قد اضطر أن يغالب من الظروف أسوأ مما اضطر ملتن إلى مغالبته، حتى لقد كان يخيل إلى الشاعر أنه خلق متأخراً عما كان ينبغي له بأجيال، ذلك لأنه كان يحس أن شاعريته لم تستفد شيئاً من الثقافة التي تثقفها، بل إنه كان يتطلع بعين ملؤها الأسف إلى تلك العصور التي فاتته، عصور الكلمات البسيطة والتأثير العميق! يأخذ ماكولي في الدفاع عن رأيه هذا فيجره الدفاع أولا إلى العلاقة بين العلم والمدنية. ما حال الشعر في عصور التقدم؟ وكيف كان حاله في العصور السابقة؟ وهل لتقدم المدنية تأثير مطرد فيه؟

يقرر ماكولي أنه كلما تقدمت الحضارة، انحط الشعر تبعاً لذلك التقدم، ولهذا فانه إذا أعجب بتلك الآثار الشعرية التي جادت بها الأخيلة في العصور المظلمة، فليس إعجابه بها قائماً على أنها وليدة تلك العصور، كلا. فانه يعتقد أن البرهان القاطع على العبقرية إنما هو قصيدة عظيمة تظهر في عصر من عصور المدنية والتقدم، في عصر من عصور الفلسفة والتفكير.

وان الذين ينكرون هذا المبدأ ليخدعون أنفهسم في رأيه، ذلك أنهم ينظرون إلى الفنون نظرتهم إلى العلوم التجريبية والعقلية، فيقيسون الجميع بمقياس واحد متخذين تقدم العلم والفلسفة دليلا على تقدم الشعر والتصوير مثلا، وفات هؤلاء أن الفرق شاسع بين الفن والعلم، بين الخيال والتفكير، بين الحلم والحقيقة،

نسى هؤلاء أن العلوم تتقدم بتقدم العصور لأن أهل كل عصر يبتدئون دراستهم في النقطة التي وقف عندها أسلافهم، ومن ثم كان التقدم العلمي تدريجياً، وكلما تقدمت العصور، كان من أيسر الأمور على من رزق حظاً من الذكاء تحصيل العلم، فان أي شخص عادي الآن ليستطيع أن يحصل من قوانين الرياضة في بضع سنين أضعاف ما استطاع نيوتن العظيم تحصيله في نصف قرن قضاه في الكد والتأمل.

ولكن الأمر على خلاف ذلك في الفنون كالموسيقى أو التصوير أو النحت، وعلى الأخص في الشعر، فان تقدم الإنسان في الاختراع، قد يساعد على تحسين الأدوات التي يستعملها كل من الموسيقار والنحات والمصور، ولكن اللغة وهي أداة الشاعر تكون أكثر ملاءمة لفنه وهي في حالتها الفطرية الساذجة.

هذه الآراء التي يعرضها ماكولي في تحديه العلاقة بين الشعر والمدنية، تسوقه إلى نقطة أخرى قريبة من هذه، أعني بها العلاقة بين الشعر والفلسفة، فالفلسفة من عمل العقل والتحليل والتمحيص والموازنة والاستقراء والاستنباط، وتلك كلها أشياء تتقدم بتقدم العصور، إذافما موقف الشعر من الفلسفة؟ يتساءل ماكولي هل هما شيء واحد، وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون الشاعر فيلسوفاً والفيلسوف شاعراً؟ هي كما ترى نقطة ثار فيها الجدل بين كثير من الأدباء في الشرق والغرب، فبعضهم لا يجد غضاضة في الجمع بين الشعر والفلسفة في شخص واحد، بل وفي موضوع واحد تناوله النظم، ومن أجل ذلك تراهم يطلقون لقب الشاعر الفيلسوف على بعض الأشخاص.

ولكن ماكولي يرى أن الشعر والفلسفة شيئان، بل نقيضان، والجهل بهذه الحقيقة في زعمه جهل بمعنى الشعر وجهل بأغراضه

فهو لا يعني بالشعر كل كلام منظوم، لا ولا كل جيد من النظم، بل انه إذاأراد الشعر بمعناه الحقيقي، ليستبعد كثيراً من الكلام المنظوم، الذي ربما نال حظاً من الإعجاب في مجال آخر، وإنما يقصد ماكولي بالشعر، تلك القدرة على الوصول بواسطة الكلمات إلى ما يصل إليه المصور بواسطة الألوان، ثم ذلك الجو أو ذلك السحر الذي ينتزع الإنسان مما يحيط به ويطير به على أجنحة الخيال إلى وديان فسيحة مليئة بالرؤى والأطياف، ثم ذلك التأثير القوي، وتلك الحرارة أو ذلك الحماس المشبوب، الذي يجعل المرء طوع قلبه، وان هو خالف في ذلك منطقه وقواعد فكره.

ذلك هو الشعر في جوهره وطبيعته، وعلى ذلك فان كثيراً من النثر الذي تتحقق فيه هذه الصفات ليعد من روائع الشعر، فإذا - ما أردنا الشعر في الاصطلاح التزمنا النظم، وبواسطة الوزن والقافية والمهارة في التوقيع، نستطيع أن نجمع بين الشاعر والموسيقار، كما جمعنا بين الشاعر والمصور.

وشتان بين هذا وبين الفلسفة. نعم شتان بين عمل العقل في التفكير والتحليل، وبين اختلاج النفس بالأحاسيس وامتلاء المخيلة بالصور، وجيشان القلب بالعاطفة، وامتلاء المحاجر بالدموع، أو إشراق الوجوه بالفرح، واهتزاز الهيكل كله بالموسيقى.

وإذا كان الأمر كذلك فما أعجب الخلط بين الشاعر والفيلسوف في موضوع لا يمكن إلا أن يكون واحداً من اثنين: فإما إلى العقل وإما إلى القلب!!

يستخلص ماكولي من ذلك أن الرجل إذامال إلى التفكير والتحليل كان أقرب إلى الفلسفة منه إلى الشعر، وإذاأسلس العنان لخياله وأحلامه، كان إلى الشعر أقرب منه إلى الفلسفة، وقل في الأمم مثلما تقول في الإنفراد.

فالأمم كالأفراد، تبدأ أولاً بالإدراك الحسي، ثم بعد ذلك ترقى إلى الإدراك العقلي أو المعنوي، وبعبارة أخرى، تبدأ أولاً بفهم الصور الجزئية، ثم تتدرج منها إلى الحدود أو النصوص العامة، وعلى ذلك كانت لغة المجتمع الراقي لغة فلسفية، ولغة المجتمع نصف المتمدين لغة شعرية، وان التطور الذي يطرأ على اللغة من تذليلها وتوسيعها وإعدادها لمقابلة التقدم الفكري ليعد شديد الخطر على الشعر عظيم الفائدة للفلسفة.

وعلى ذلك فانه بقدر ما تتزايد معارف الناس وبقدر ما يتزايد تفكيرهم، بقدر ما ينصرفون عن الجزئيات ويقبلون على الأنواع، وحينئذ يصلون إلى نظريات راقية، بينما هم في الشعور لا ينتجون إلا آثاراً سقيمة قوامها العبارات الغامضة، بدل الصور الناطقة، والحجج الجافة بدل الأخلية الرائعة، أو بعبارة أخرى يكون قوام عملهم في الشعر الصفت المجردة بدل الأشخاص والأرواح الحية.

نعم إن هؤلاء المفكرين قد يكونون أكثر ممن سبقوهم مقدرة على تحليل وفهم الطبيعة البشرية، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، فعمل الشاعر أن يصور وليس من عمله أن يحلل أو يشرح، والتحليل في الفنون يذهب روعتها، ويبطل سحرها، وموقف الشاعر من الفيلسوف موقف المصور في صالته من الطبيب أمام مشرحته، كلاهما يعرف أجزاء الجسم ولكنهما لا يقصدان غرضاً واحداً، بل ولا يركبان في زورق واحد، ولقد يفهم الشاعر الفضائل العامة والطبيعة البشرية كما يفهمها الفيلسوف، ولكنه في تلك الحالة لا تؤثر عقيدته في شعره إلا كما يؤثر علم المصور بنظام الدورة الدموية في فنه إذاهو حاول أن يرسم تساقط دموع (نيوبا) أو توقد خد (أورورا)

ولو أن شكسبير مثلا قد وضع كتاباً في الدوافع التي تسيطر على سلوك الإنسان لما كان من المحتمل بأي حال أن يجيء كتابه جيداً، ولما كان من المحتمل أن يحوي من التحليل ومتانة الحجج مثل ما يحويه كتاب يخرجه عالم من العلماء المعاصرين، ولكن أي عالم لعمري يستطيع أن يخلق (اياجو) نعم! أي عالم يستطيع مع قدرته على تحليل الشخصيات إلى عناصرها أن يضم من هذه العناصر ما يريد ليخرج لنا في النهاية رجلا مثل (اياجو) له خلق خاص وطبيعة خاصة وسلوك خاص؟

ولا يكتفي ماكولي بهذه البراهين التي ساقها للتفرقة بين الشعر والفلسفة، بل انه ليخطو إلى أبعد من ذلك فيقول انه ربما كان من المستحيل على أي امرئ أن يكون شاعراً لا ولا أن يفهم الشعر ما لم يتجرد بعض الشيء من حدة عقله، أو بعبارة أخرى ما لم يكن له نصيب من خمود الذهن، إذا صح هذا التعبير وجاز لنا أن نسمي تلك القوة العجيبة التي تملأ قلوبنا بهجة خموداً ذهنياً.

نعم ان الصدق في الشعر أمر جوهري ولكنه (صدق الجنون) ذلك لأننا في الشعر نقيم الجدل الصحيح على المقدمات الزائفة، فبعد أن نضع الفروض الأولى، يسير كل ما بعده في توافق واتزان، ولكن قبول تلك الفروض يحتاج إلى نوع من التصديق قد لا يتسنى لنا إلا إذا ألغينا عقولنا مؤقتاً، ومن ثم كان الأطفال أكثر الناس خيالاً، فانهم يستسلمون إلى الوهم، فإذا ما عرضت أية صورة خيالية أمام أذهانهم عرضاً قوياً فأنها تفعل بنفوسهم ما تفعله الحقيقة. وليس ثمة من رجل مهما بلغت قوة إحساسه يتأثر بقراءة (هملت) أو (لير) كما تتأثر فتاة صغيرة بقصة الذئب والجدة العجوز، إن تلك الفتاة تعلم حق العلم أنه ما من ذئب في إنجلترا، وأن الذئاب لا تتكلم، ولكنها على الرغم من يقينها هذا تصدق فتبكي فترتعد، وذلك هو سلطان الخيال على العقول التي لم يصقلها العلم أو على الأمم في عهد طفولتها.

ولن يترك ماكولي أدلته دون أن يتوجها بتشبيه بديع، فهو يشبه الشعر بالفانوس السحري؛ فالشعر يرسم أطيافه في مخيلة المرء، أو كما يسميها ماكولي (عين العقل) كما يرسم الفانوس السحري لا يؤدي عمله إلى الوجه الأكمل إلا في الحجرات المظلمة، فكذلك الشعر لا يؤثر تأثيره القوي إلا في العصور المظلمة، عصور العقول الساذجة الفطرية التي لم تغيرها الفلسفة والعلوم. وكلما انتشر نور العلم وتمكنت العقول من استنباط الأصول وتقرير القواعد وكشف النقاب عن حقائق الحياة، تضاءل تبعاً لذلك عمل الخيال وتزايل تأثير الشعر، وحالت ألوانه، وتلاشت أطيافه، وهكذا نرى الفلسفة والشعر على طرفي نقيض.

تلك هي خلاصة آراء ماكولي في العلاقة بين الشعر والمدنية وبين الشعر والفلسفة. ولعلي أعرض على القارئ في القريب رأيه في شاعرية ملتن، فقد تعرض في ذلك إلى كثير من الأفكار التي تدور حول الشعر ولغته ومحسناته ومراميه.

محمود الخفيف