مجلة الرسالة/العدد 49/في الأدب الفرنسي
مجلة الرسالة/العدد 49/في الأدب الفرنسي
6 - الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
فلسفته:
لما عجز لاروشفوكو عن تحقيق آماله ويئس من إرضاء طموحه، صدف عن حياة الاجتماع الصاخبة، وانطوى على نفسه وحللها، واستعرض في ذهنه حوادث الماضي وأخلاق الناس الذين عاشروهم ولاحظهم، ثم طلع عليهم بمواعظه القاسية الأليمة التي تظهر عواطفهم في صورة دميمة، وتجعل لجميع أعمالهم مصدراً واحداً هو الأثرة. وليس عجيباً أن يقسو هذا الرجل في الحكم على نفسه وعلى الناس، وأن يقوده التفكير إلى فلسفته اللاذعة، لأن التحليل لا ينتج التسامح، والغلو في الشك يؤدي إلى حب النفس. وأعتقد أن آراءه في معاصريه وبيئته، تنطبق على الإنسان في كل زمان، مع أن المصور الذي يرسم البحر أثناء العاصفة فقط، لا يعطينا عنه إلا فكرة ناقصة إلى حد بعيد. ولكي يكون الحكم على الجماعة صحيحاً، يجب ملاحظتها ودرسها في حالتي الهدوء والشغب، ولكن لاروشفوكو رأى الناس في عصره يعملون مدفوعين بمصلحتهم الذاتية، كما هو الحال دائماً أثناء الاضطراب الداخلي والحروب الأهلية، فاستخلص من ذلك أن المصلحة الذاتية التي يسميها عزة النفس أو الأثرة هي الباعث على جميع الأعمال الإنسانية، وينبوع العواطف البشرية. ولا شك في أن الإنسان يعمل دائماً طوعاً لمبدأ في دخليته يدفعه إلى البحث عن مصلحته الذاتية وسعادته. ولكن يعاب على هذا الفيلسوف أنه يضع لجميع الأعمال والعواطف على اختلاف أنواعها تفسيراً واحداً، على حين أن الطبيعة قد منحت الناس مواهب خاصة وغرائز متعددة وأذواقاً متباينة وملكات مختلفة تسبق الفكر في كثير من الأوقات والحالات الى الحركة والعمل، وجعلت لكل فرد طريقة يتبعها في الوصول إلى هدفه من الدنيا. وفي الحياة كثير من الناس يرثون عن أصولهم السذاجة الكريمة وصفاء القلب الجميل، فليس لهم مبتغى ولا متمني غير إسداء المعروف إلى إخوانهم في العاجلة مخلصين. وهم يلاقون في سبيل ذلك عناء كبيراً ويصادفون أخطارا جمة ويقدمون على تضحية كثيرة يستعذبونها. وطريقتهم في الحياة هذه عزيزة عليهم، يجدون فيها مثلهم الأعلى في الشرف والسعادة. وليس من الحق والإنصاف أن يسمى الباعث إلى أعمالهم أثرة بالمعنى الذي يقصد إليه لاروشفوكو ويفهم عادة من هذه الكلمة وهذا الفيلسوف أبيقوري كمعاصره (هوبز) الإنجليزي الذي يرد بعض العواطف الهامة مثل الشفقة وحب البر والإحسان إلى مصدر واحد هو المصلحة الذاتية. ولكن الحكيم الفرنسي توغل أكثر منه في النفس الإنسانية. وقليل من علماء النفس ماثلوه في دقة التحليل، ولم يصل أحد منهم بمثل مهارته إلى هذا الجزء الخفي من النفس الذي تكمن فيه بعض الأفكار الأنانية العميقة. هذه الأفكار المبهمة ينفذ إليها لاروشفوكو بعقله ويخرجها إلى النور دون أن تستطيع الإفلات منه
ويرى هوبز أن في الحياة لذتين رئيستين: لذة البدن وهي الاستمتاع، ولذة النفس وهي الغرور، ويفضل الأولى على الثانية. أما لاروشفوكو فيعتقد أن اللذة النفسية هي الجديرة بالتفضيل على غيرها. ويقول، (اكبر مسرات النفس في اعتقادي هي المجد الصحيح والمعارف الجميلة. وأومن بأن الذين يجعلون للذة الجسدية قيمة كبرى لا يملكون من هذه المعارف إلا قليلا. وأرى أن اللذة الحسية خشنة مبتذلة تلهم الاشمئزاز، ولا تستحق البحث عنها والسعي وراءها إلا إذاكان للذة النفسية نصيب كبير فيها
ولم يقل ذلك إلا بعد أن مل العبث وكلف بالقراءة والتفكير العميق. وهو وهوبز يتفقان على أبيقور على أن الأعمال الإنسانية ليست نقية من الغرض. وقد اتبعا طريقتين مختلفتين في الوصول إلى آرائهما، ولكنهما التقيا في نقطة واحدة. أما هوبز فقد استعمل طريقة الاستنباط (أي استخراج قضية من قضية أعم منها) والتعقل. وأما لاروشفوكو فقد اتبع طريقة الاستقراء (أي الانتقال من الخاص إلى العام) والملاحظة. وكلاهما اتبع سبيلا واحدة في اتجاهين متضادين، ونجحا في قطعها إلى آخرها كل في اتجاهه
لما كف لاروشفكو عن حياة الخيال والدسيسة والشغب، بدأ حياة الفكر وتسلل بعقله إلى أبعد أغوار نفسه، ولاحظ في دقة ناردة نفوس أهل عصره. ثم وجد بأنه أينما ولى بصره لا يرى غير النفاق، يطل عليه الغرور، ويمكن خلفهما الأثرة. ودلته التجربة على أن هذه الأثرة كلما دقت واستخفت على الملاحظة، كانت قوية حادة، لأنه يجعل مقياسها مبلغ المشقة التي يعانيها الإنسان في استكشافها.
ومن ملاحظاته التفصيلية الخاصة، استخلص فكرته العامة عن الإنسان، وهي تتلخص في أن المصلحة الذاتية تقوده في كل موطن، وحب النفس يدفعه إلى كل عمل. وصاغ هذه الفكرة العامة في تعبير دقيق: (تتلاشى الفضائل في المصلحة الذاتية كما تتلاشى الأنهار في البحر) (موعظة رقم 171). ولكي يكسبها الوضوح والجلاء رجع إلى ملاحظاته التفصيلية واختبرها ليثبت أن كل واحدة منها تدخل في حكمه العام. وهذا يدل على أن لاروشفوكو له أسلوب (مجموع المقدمات الصحيحة الموجزة الموصلة للحقائق) أو طريقة منظمة متناسقة متصلة الحلقات، ومن يلق على مواعظه نظرة سطحية يرها مفككة الأجزاء مبعثرة، ويعتقد أنها ملاحظات بسيطة دونها صاحبها مصادفة تبعاً للظروف دون أن يكترث لما سيكون لها من القيمة أو لما ستنتجه من الأثر ولكن القارئ الذي يمعن في التفكير يجدها متصلة بأقوى إيمان بالأثرة العامة الشاملة، وأشده ثباتاً وعنادا.
وهذه الطريقة تتلخص فيما يلي: الأهواء مصدر أعمالنا وأحكامنا وعواطفنا، وكل فضيلة تفنى في الأهواء التي تجاورها، كل فضيلة تقترب غاية القرب من رذيلة وتمتزج بها في ميدان العمل، وإننا نطلق عليها اسم فضيلة بدلاً من الرذيلة المجاورة خطأ أو إرضاء لكرامة غرورنا أو كبريائنا: (إن ما نعده فضائل، ليس في أغلب الأحيان إلا مجموعة من أعمال متعددة، ومصالح متنوعة يرتبها الحظ أو صناعتنا) (موعظة رقم 1). فالرحمة - مثلاً - التي نؤمن بوجودها يقول عنها: (الرحمة التي يحسبها الإنسان فضيلة، تستعمل أحياناً بدافع الغرور وأحياناً بدافع الكسل، وفي أغلب الأحيان بدافع الخوف، ودائماً بدافع هذه الصفات الثلاث مجتمعة) (موعظة رقم 16). ونرى من قوله أن كل عمل من أعمال الرحمة يتلاشى في إحدى الرذائل المجاورة أو يتلاشى فيها مجتمعة، كما يتلاشى النهر في البحر. وهذه الجملة (التي يحسبها الإنسان فضيلة) تدل على أن الرحمة ليست في ذاتها فضيلة، أو على الأقل على أن مصدرها الغرور والكسل والخوف وليس غير، مع أنها قد تصدر عن الشفقة وهي عاطفة عامة، أو عن الطيبة الكريمة التي تشعر بها النفوس العالية الكبيرة. ولنضرب مثلا: يوليوس قيصر الذي انتصر على بومبيوس في موقعة فإرسال (من أعمال اليونان الآن) في عام 48 قبل الميلاد، وأسر كثيراً من عظماء عدوه، فانه عفا عنهم وكان في استطاعته قتلهم جميعاً. فهل يقول العقل إن هذا العفو مصدره الغرور، والغرور هو الكبرياء الذي تنشئه في النفس الأعمال التافهة الهزيلة، وانتصار قيصر على عدوه ليس من الأعمال التافهة، أو يقول إنه صدر عن كسل وهو في مقدوره أن يأمر بالقتل فيطاع، أو يقول إنه صدر عن خوف وهو منتصر قوي؟ ولكن لاروشفوكو لا يجد في الإنسان طيبة نقية، ويحرم علينا أن نؤمن بوجودها، وهو يبهر النظر بالضوء الذي يلقيه على رذائل الإنسانية، ويلقي بالفضيلة في ظلمة تحجبها عن الأبصار.
ولا شك في أن الرذيلة هي التي تسب شقاء الناس، وأن الفضيلة تهيئ لهم أسباب السعادة. فكل فكرة ترمي إلى هدم الفضيلة لتقيم على أنقاضها رذيلة، هي فكرة قاضية على سعادة البشر. والفكرة التي تقضي على سعادة البشر لا يمكن أن تشتمل على حقيقة، لأن صفة الحقيقة وعملها أن تسمو بالنفس لا أن تفسدها، وأن تشع الحياة في الجماعات الإنسانية لا أن تدمرها، وأن ترهب الطغاة لا أن تشجعهم. وقد سبق القول إن هذا الفيلسوف صور نفسه وعصره ومواعظه. ورأيه في الرحمة يدلنا على ذلك أفصح دلالة، لأنه ينطبق على سياسة الملكة آن دوتريش. فان هذه الملكة بعد أن ضحى لاروشفوكو في سبيلها كثيراً وشاكس ريشليو ورفض ما عرضه عليه من الرتب إرضاء لها، لم تحسن إليه بعد أن أقيمت وصية على العرش، بل أحسنت إلى الذين كانت تحقد عليهم. وهؤلاء كانوا أتباع ريشليو، فلما مات هذا الوزير وخلفه في الحكم صنيعته مازاران، بسط عليهم جناح حمايته كسلفه، فلم تجد الملكة بداً من مداراتهم بالرحمة التي ألهمت لاروشفوكو موعظته.
يتبع
حسن صادق