مجلة الرسالة/العدد 486/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 486/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1942


1 - الحدية اللغوية!

أخذ الأب أنستاس ماري الكرملي على الأستاذ محمد مندور خطأً لغوياً وقع فيه حين قال: (وأما قصة الكراكي، فقصة لا أثر لها فيما (عثرت به) من كتب اليونان)؛ وذلك لأن وجه الصواب أن يقال: عثرت (عليه) لا عثرت (به)، والعثور بالشيء غير العثور عليه. وقد أراد الأب الكرملي أن يبين للأستاذ مندور - في تضاعيف كلامه - معنى قوله: (عثرت به)؛ فقال: (. . . ولعله أراد أن يقول: فيما عثرت (عليه) من كتب اليونان، (أقاله الله من كل عثرة)، وإن الجواد قد يعثر). ولكن الأستاذ لم يلتفت إلى هذه الإشارة المقصودة؛ لذلك رأيناه في تعقيبه على كلمة الأب أنستاس يعود فيقول: (. . . إنني لم أعثر بها، ولا أقول: لم أعثر عليها - كما يقترح اللغوي الكبير الأب الكرملي - لأن المعنى الذي أريد أن أعبر عنه، هو إنني لم أعثر بها، أي لم أقع عليها؛ وللأب الفاضل أن يظهر علمه - إذا أراد - في غير هذه التوافه، وأن يتفضل بأن يترك للكاتب الحق في أن يتصرف في اللغة، وفقاً للمعنى الذي في قلبه)!

ولو أن الأستاذ مندور توخى الحق في تعقيبه، لما انساق إلى هذا الرد؛ إذ إن غرض الأب الكرملي - فيما أعلم - أن يرشد الكاتب إلى التعبير الصحيح المتفق مع اللغة التي يكتب بها؛ وأي إنسان يجهل الفرق بين عثرت (به) وعثرت (عليه)؟

ثم أريد أن ألفت نظر الأستاذ إلى أن ما يسميه (توافه)، ليس كما يتوهم: وسبب ذلك أن اللغة العربية - على الرغم من رحبها وسعتها - لغة دقيقة، تتميز بالعمق وبعد الغور؛ فأي اختلاف في حرف الجر الذي يجيء بعد الفعل يترتب عليه اختلاف في المعنى قد لا يفطن إليه الكاتب الذي لا يتوخى الدقة في التعبير. . . وأما الحرية اللغوية التي يطالبنا بها الأستاذ، فهي حديث خرافة، لا أضن أحداً من المخلصين للغتنا العربية يقبل أن يسمعه، ولأ أعرف واحداً من كتاب الغرب يدعيه لنفسه. فأنا أفهم أن تكون هناك حرية في التعبير وتخير الألفاظ، وصوغ أساليب جديدة؛ وأما الحرية في اللغة نفسها بحيث يكون للكاتب الحق في أن يقول: (عثرت به) حين يكون يريد (عثرت عليه)؛ فهذه حرية لا أفهمها، ولا يفهمها أحد، لأنها فوضى لغوية لا تباح إلا حين يكون لكل منا أن يخترع لغة جديدة تلائم حريته!!

2 - تعريب الأسماء الأعجمية

لاحظ الأب أنستاس الكرملي في كلمة الأستاذ مندور أخطاء كثيرة (وأصر على تسميتها أخطاء) في تعريب بعض الأسماء الأعجمية؛ فهو يقول مثلاً: (لوسيان) و (مارك أوربل) والصواب: (لقيانس) و (مرقس أوراليوس). وقد وقع بين يدي - بعد قراءة هذه الملاحظة - كتاب (المجمل في التاريخ المصري): (وهو من تأليف بعض أساتذة التاريخ بالجامعة المصرية)، فوجدت فيه أخطاء كثيرة من هذا النوع: فالكاتب مثلاً يسمى يوليانوس جوليان (ص101)، ويسمى كيرلس (وهو اسم شاعر شائع بمصر خاصة، فقد كان البطريرك الأسبق يسمى كيرلس الخامس): (سيرل ويسمى ديوقلديانوس (ديوكليشان)، ويسمى هباتيا (هباشيا)، ويسمى ثيودوسيوس (ثيودوزيوس)، وأثناسيوس (أثنازيوس) ومرقيانوس (مارسيان) ص102، ويوستنيانس (جوستينيان) ص104 الخ. وسبب هذه الأخطاء كلها رجوع الكاتب إلى الاسم في لغة غير لغته الأصلية - كالإنجليزية والفرنسية - حتى لقد سمى بعضهم سقراط (سوكراتيز)، أو (سكرات)!

والواجب (أن نعود إلى لفظ الأعلام كما ينطق بها أصحابها): (كما قال الأب الكرملي في مقاله، وكما قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية). وذلك لأن الاسم الأصلي كثيراً ما يختلف عن الاسم الموضوع باللغات الأجنبية؛ والعرب لم يترجموا الأسماء إلا عن لغتها الأصلية، ومن ثم نجد اختلافاً كبيراً بين الأسماء العربية التي وضعوها نقلاً عن اللغة الأصلية نفسها، والأسماء العربية التي يضعها بعض الكتاب نقلاً عن الإنكليزية أو الفرنسية. وهذا الاختلاف كثيراً ما يضيق به الطالب الذي يرجع إلى المؤلفات التاريخية العربية، مع أن الألفاظ التي يجدها في كتب العرب هي الأصح، لأنها أقرب إلى الأصل من الألفاظ التي ألف استعمالها عن الإنكليزية والفرنسية

ومن الغريب أن بعض أساتذة الجامعة يصرون على استعمال طريقة النقل عن هاتين اللغتين في تعريبهم للأسماء الأعجمية0 وأني لأذكر أن أحد أساتذتنا في الجامعة - وهو يدرس لنا الفلسفة المسيحية - نطق باسم فرده طالب من بيننا قائلا له: الاسم بالعربية هو (أمبروسيوس)؛ ولكن الأستاذ أبى أن يأخذ باللفظ العربي، مع أن الاسم في لغته الأصلية ينطق بالسين لا بالزاي (كما يقال أيضاً فيلسوف لا فيلوزوف). ولا يفوتني أن أذكر في هذا الصدد أنني قرأت مقالاً في هذا الموضوع للفريق أمين باشا المعلوف، يتضمن بعض الأصول التي يجب التزامها في تعريب الأسماء الأعجمية (عن اللاتينية أو اليونانية)؛ فإلى هذا البحث أوجه نظر الأستاذ مندور - وغيره من أساتذة الجامعة المدققين - حتى يعم النطق الصحيح بين الطلاب، ولا يجد أحدهم صعوبة في تذوق اللفظ العربي الذي يعثر عليه في كتب التاريخ العربية.

(مصر الجديدة)

زكريا إبراهيم

مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال

لم يكن لنا إلى ما قبل عشرين سنة أو ما حولها تاريخ مفصل لنهضة البلاد الوطنية يضمه كتاب، ولا سند صحيح لحركتها القومية يحتويه سفر، وإنما كان هذا التاريخ مطموس المعالم مبهم الحدود، حتى لو أراد دارس أن يقف عليه أو يلم به لأعياه السعي ولعميت عليه السبل، إذ لا يجد مهما جد في البحث وأمعن فيه إلا أنباء مبعثرة هنا وهناك بين صفحات أسفار لا يبلغها الحصر، ولو هو ظفر بشيء منها لوجده مما لا يشبع نهمه ولا يروي غليله. ومن الغريب أن يظل جهادنا لوطننا وكفاحنا في سبيل تحرير بلادنا، بغير تاريخ يبين أطواره، ويسجل أدواره، ويكشف عن نصيب كل جيل منه بما أنفق فيه من جهد وما قدم له من عمل!

وقد ظل هذا النقص بادياً في تاريخنا إلى أن قيض الله له مؤرخاً محققاً، وقانونياً كبيراً، وسياسياً محنكاً، ومجاهداً مخلصاً، هو الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك. توفر حفظه الله على دراسة هذا التاريخ والبحث عن تفاريقه الممزقة بين مئات الأسفار، واستقل بأعبائه وحده يؤلف بين هذه التفاريق ويجمع أشتاتها، مستنفداً ما وسعه من جهد في سبيل تمحيصها واستخلاص الحق منها، باذلاً في سبيل إحسان عمله كل نفيس من نفسه وماله، مما لا يكاد يستطيع فرد أن ينهض وحده به، حتى أخرج لنا في أصدق صورة وأبلغ بيان عملاً ضخماً، وعلى إنه ملأ مما عمل لهذا التاريخ تسعة أسفار كبار فإنه قد بقى منه أجزاءً أخرى ستظهر إن شاء الله

كان الذي بعث عزيمة المؤلف على هذا العمل أنه كان يريد أن يضع (تاريخاً لفقيد الوطن العظيم مصطفى كامل علي مثال كتاب (بول دشانل) عن (جامبتا) خدمة للقضية الوطنية وأداءً لواجب الوفاء نحو من تلقى عنه مبادئ الوطنية الأولى) ولكنه وجد أن تاريخ هذا الزعيم يستتبع (الكلام عن مبدأ ظهور الحركة القومية بمصر والتطورات التي تعاقبت عليهاِ) فجعل همه أن يدرس هذه الحركة (من بدء ظهورها إلى اليوم) ذلك بأن مصطفى كامل إنما كان (يمثل دوراً من أدوار الحركة القومية سبقته أدوار وتلته أخرى، ولا تكون دراسة الحركة القومية وافية إذا اقتصرت على عصر واحد من عصورها، بل يجب أن يتناولها البحث بأجمعها)

ولما أنشأ يدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لكي يصل إلى مبدأ هذه الأدوار، وجد بعد مواصلة الدرس ومطاولة البحث إن (للروح القومية التي بدأت تظهر في أواخر القرن الثامن عشر - يجب أن يرجع مبدأ الحركة القومية المصرية؛ وإن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر)

ولم يقف به البحث عند دراسة الحركة القومية، بل وجد إن تاريخ هذه الحركة يدعو إلى (دراسة نظم الحكم التي تخللت أدوارها، ذلك إن سياسة الحكم وأساليبه كانت في مختلف العصور والبلدان الرئيسية لظهور الانقلابات والحركات القومية كما إن لهذه الحركات أثراً فعالاً في تطور نظام الحكم)

ولما استوت له هذه الطريقة ووضع لها المعالم وأحكام الحدود، أخذ يؤرخ هذه الأدوار على ما قدمنا، ثم زاد عليها ما يلابسها وما يتصل بها من دراسة الحركات العلمية والفكرية والاقتصادية مما هو كمال لها، وتمام عليها، بما في ذلك من ترجمة رجال هذه الحركات كلها

ولقد كنت أود أن أفصل القول في وصف هذا العمل العظيم الذي يعد بلا ريب من أعظم الأعمال التي يقوم بها المجاهدون المخلصون في سبيل أوطانهم، وإن أبين شيئاً مما جاء في هذا التاريخ الزاخر الذي أوفى فيه مؤلفه الجليل على غاية ليس فوقها مرتقى لهمة، ولا وراءها مذهب لذي إحسان، حتى يعرف القارئ الكريم مقدار هذه المعلمة الوطنية ويقف على هذا النهج الفريد من التأليف الذي يجمع بين عف القول وصدق اللهجة وبين بلاغة العبير وتقرير الحق، ثم ما وراء ذلك من وزن الأمور بمعيار الدقة والنزاهة وهو ما اتصف به مؤلفنا الجليل سواء كان ذلك في أقواله وأفعاله أو في جهاده وتأليفه كنت أريد ذلك كله أو بعضه، ولكن ما أصاب الصحف في هذه الأيام من ضيق الصفحات وقلتها يضطر الكاتب إلى أن يلزم القصد في القول والإيجاز في التعبير

من أجل ذلك أراني مرغماً على الوقوف عند الكلام على هذا الجزء الذي عقدت من أجله هذه الكلمة ولكن بعبارة موجزة لا تعدو بضعة سطور. تكلم المؤلف الفاضل في هذا الجزء عن تاريخ مصر القومية مدى عشر سنوات (من سنة 1882 إلى سنة 1892) وهي السنوات الأولى للاحتلال وفصل القول في جميع ما جرى للبلاد في هذه الفترة من كل النواحي تفصيلاً لا يوجد مثله في كتاب. وبحسبك إنه قد جاء على غرار ما سبق من الأجزاء من حيث التحقيق والاستيعاب، فلم يدع صغيره ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا ترك ناحية من نواحي هذه الفترة من تاريخنا إلا بينها وجلاها. فجزاه الله بما قدم من عمل صالح لبلاده خير الجزاء، ووفقه بعنايته وفضله إلى إتمام ما بقي لهذا التاريخ من أجزاء، إنه سميع الدعاء.

(المنصورة)

محمود أبو ريه