مجلة الرسالة/العدد 486/إلى المعترضين علينا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 486/إلى المعترضين علينا

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1942


2 - إلى المعترضين علينا

للأب أنستاس ماري الكرملي

3 - حل المعضلات

إننا لم نفكر يوماً، بل دقيقة، بل لحظة عين، أن نعت جمع التكسير يكون مفرداً مؤنثاً، أو جمعاً على السواء، والمطبوعات التي عنينا بنشرها - من تأليف ومقالات - مما طبع ولا نزال نتولى طبعه في المجلات والجرائد والكتب، نشهد شهادة تفقأ في العين حصرماً، وتذر فيها رماداً، في الوقت عينه بأننا عملنا - ولا نزال نعمل - بهذه الضابطة المطردة؛ ومن نسب إلينا الخلاف، فهو أعمى أو يتعامى، ولا يهمنا أمره، إنما إنكارنا كان لما كان على أفعل فعلاء وجمعهما على فعل لا غير؛ إذ لا يوصف الجمع المكسر والصحيح بغير هذه الصيغة الأخيرة؛ فإنك لا تقول البتة: رجال سوداء، ولا نساء سمراء؛ ولا نهارات زهراء، ولا ليلات بيضاء؛ حتى أن العوام لا تنطق بها. وكذلك لا تقول: كريات بيضاء، ولو علقت برجليك تلك الكرى دهوراً وعصوراً، توبة وندامة على ما سلف من أغلاطك، وعلى ما فرطت في حياتك

فالذي أنكرناه إذن - ولا نزال ننكره - هو قولك: كريات بيضاء. . . فهذا كفر نحوي عربي لم تنطق به العوام، ولا الأعاجم ولا الأروام!!

وقال أحد المعترضين المعاندين الذي لا يريد أن يهتدي إلى سواء السبيل: وبحسب قاعدة الكرملي، لا يجوز نعت المنازل بالأخرى ولا بالأولى، كما جاء في قول المتنبي:

هذى منازلك الأخرى نهنئها ... فمن يمر على الأولى يسليها!

لكن، هل يستطيع هذا المخالف أن يقول لنا: أين رأى كلامنا هذا؟ أليس هذا كذباً منه وبهتاناً وافتئاتاً؟! فهل في (أولى) (أخرى) لون، أو عيب، أو حلية؟ وهل تجمعان على (أول) و (أخر) بضم أوليهما؟ أفليس هذا مخالفاً للشرط الرابع؟ فما هذا التعامي والعمي أجارنا الله منه؟

وأما قول الخصم: إن (المتنبي) قال:

(وبستانيك الجياد وما تح_مل من سمهرية سمراء)

فالسمهرية هنا مفردة والسمراء كذلك. والمفردة هنا منكرة تدل على جمع، فهي من قب وضع الواحد موضع الجمع، وهذا معتاد في وضع الأجناس. قال هذا علي في المخصص 68: 1.

وقال هذا المعترض المسكين المغرور: السماع يؤيد القياس في هذا الشأن، فمن السماع قول طرفة:

ويوم رأينا الغيم فيه كأنه ... سماحيق ترب وهي حمراء حرجف

قلنا: (حمراء) هنا مجاورة (لهي)، وهي مفردة مؤنثة فحمراء صحيحة لما أشرنا إليه في الشرط الخامس

وقال المعترض أيضاً، محاولاً بكل قواه أن يضع رأيه الجامح موضع رأي ناجح، وذلك من العبث، فقال: (ومن ذلك قول الفند الزماني معاصر المهلهل)

(بقيت بعده الجليلة تبكي ... والخدود العيطاء تدعو لحاحاً)

ثم قال: (هكذا جاء في روضة الأدب (ص185)، وشعراء النصرانية (ص243) انتهى.

قلنا: وحسناً فعل حين قال: (هكذا جاء في روضة الأدب وشعراء النصرانية، لأن سليقته تقول له: ليس هذا العجز من العربية في شيء، إنما هو باللغة الشويرية، ولم تكن هذه اللغة يوماً لغة فصيحة، بل خليطاً من العربية، والرومية، واليونانية، والزعفرانية، والجلجلوتية!

زد على ذلك أن صاحب روضة الأدب اسكندر آغا أبكاريوس وهو أرمني فاسد الذوق العربي، فهو غثاء سيل؛ وصاحب شعراء النصرانية شيخو، وكان رحمه الله - حاطب ليل، على ما اشتهر عنه في سورية والعراق وديار النيل، فوقعنا بين غثاء سيل وحاطب ليل، لكن لا عتب على الأب شيخو، لأنه نقل أبياته الزمانية عن الأرمني المذكور، وهذا الرجل يكتب الأرمنية بحروف عربية، ويتوهم أنه يكتب المضرية، وإلا فما معنى قول الفند: (الخدود العيطاء)، وهل كانت أو تكون أو ستكون، أو سوف تكون، يوماً، الخدود عِيطاً (بكسر العين وإسكان الياء). فالعيطاء مؤنث الأعيط، والأعيط على ما في معاجم اللغة: (الطويل الرأس والعنق، والأبي الممتنع) فما معنى العيطاء وكيف تتفق مع الخدود؟ اللهم إلا أن يكون معناها غير هذا في إحدى اللغات الثلاث: المالطية والوقواقية، أو الشنقناقية؛ لكني أقر معترفاً أني أجهلهن كلهن. ولعل حضرة المجادل يفهمهن، فيفسر لنا الكلمة في موقعها هنا! ثم لو فرضنا أن لها معنى غير مدون في كتب متون اللغة فليس ذلك دليلاً على أنها وردت في كلام الشاعر الأصلي، إذ البيت ظاهر الوضع وليس من كلام الأقدمين.

ثم لو فرضنا ثانياً أن لها معنى حسناً يناسب المقام هنا، فإن الفند الزماني كان من ربيعه بن نزار، والعربية الفصحى لم تنقل إلا عن قريش، وأسد، وتميم، وقيس، وكلهم من مضر، فكيف يستشهد بكلام من هو من ربيعه؟

ثم لو فرضنا ثالثاً - وهو أمر قريب من المحال - أن المجادل وجد لنا عشرة أبيات شعر ممن يستشهد بكلامهم وفيها ما يثبت دعواه، فليس ذلك بشيء، لأن شواهده ليست من القرآن، ولا من الأحاديث النبوية، ولا من كلام الفصحاء، والبلغاء، الإثبات، إذ لا يكون الكلام ممن يوثق به إلا إذا جاء منقولاً عمن أخذت عنهم العربية المضرية الفصحى.

ثم لو فرضنا رابعاً أنه أتانا بعشرة شواهد ممن يوثق بعربيتهم من قريش، وأسد، وتميم، وقيس، فعشرة شواهد غير كافية لوضع قاعدة.

ثم لو فرضنا أن العشرة شواهد التي جاءنا بها من فحول شعراء مضر ومن عشرة منهم، فإننا لا نقبل الشعر في اتخاذ القياس، لأن النظم يتحمل ضرائر لا يقبلها النثر، فنحن لا نرضى إلا بنثر رصين يذكر مثل تلك الكلمة أي الكريات البيضاء، وإلا فنصيب تلك الشواهد سلة المهملات، أو سلة المحترقات

فليتدبر حضرة مخالفي هذه الأقوال كلمة كلمة، ثم يتعرض للرد علىِّ رداً معقولاً يفهمه الناطقون بالضاد لا أبناء الشوير فقط

وقال أيضاً المعترض: (ورد في كتب النحاة كشروح ألفية ابن مالك، وفي المعاجم كالقاموس والتاج: جاءوا الجماء الغفير، أي يقال: جاء العلماء الجماء الغفير)

لله درك يا سيدي من عالم بارع ولغوي عظيم! إننا لم نجد في التأليف التي تشير إليها ما تقول. ففي أي طبعة من طبعاتها؟ وفي أي بلد من البلدان طبعت تلك المصنفات؟ وفي أي سنة من السنين نشرت؟ إنك لم تقل لنا كل ذلك. أما في الكتب التي بأيدينا فإنها لا تقول ما تدعي. وكيف يكون كلامك صحيحاً وفيه من الخطأ ما ارتعد له الملأ الأعلى، وأهل الأرضيين السفلي!

كيف يكون معنى جاءوا الجماء الغفير: جاء العلماء الجماء الغفير؟ ففي أي لغة تتكلم، وهل تفهم ما تقول يا سيدي اللغوي القدير! أما نحن فنخالفك؛ فقد يقال: جاءوا الجماء الغفير من غير أن يكونوا علماء؛ إذ قد يكونون عوام وسوقة، فأين وجدت ما تقول؟ إننا نرى في تاج العروس في باب (جمم) ما هذا نقله: (وجاءوا جماً غفيراً، والجماء الغفير) أي (بأجمعهم) قال سيبوبه: (الجماء الغفير من الأسماء التي وضعت موضع الحال، ودخلتها اللام والألف، كما دخلت في العراك من قولهم: أرسلها العراك) اهـ. المقصود من إيراده وهنا كلام القاموس وكلام التاج أيضاً؛ فالذي بين هلالين هو للقاموس وما بقي هو للتاج على ما هو مقرر في هذا الديوان اللغوي

فيا سيدي وأستاذي العزيز، على من تريد أن تعبر عباراتك وآراؤك؟ وقراء هذه المجلة كلهم يفهمون ما تكتب وما تحاول أن تعبره عليهم من الأحلام والمنامات، وما شابه هذه الترهات والخزعبلات وأضغاث الأحلام

وقال حضرة سيدي وأستاذي الجليل: (وفي شرح الزوزني القاضي قول الحارث اليشكري: (وله فارسية خضراء) يقول: (وله دروع فارسية خضراء) فهذا كلام لا غبار عليه، لأن خضراء هنا مجاورة لفارسية، وفارسية كلمة مفردة مؤنثة وإن كان معناها يدل على جمع لأنها عائدة إلى (دروع). فراجع الشرط الخامس لتفهم سبب هذا القول، وإن كان يجوز لك أن تقول أيضاً: (وله دروع فارسية خضر) وهذه أفصح من تلك.

ثم من هو الزوزني، أبو الزوزني، وجد الزوزني بجانب نص القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة، وفصيح كلام البلغاء من العرب؟. أنسيت، يا سيدي وأستاذي، أن الزوزني قال هكذا في شرح بيت اليشكري: (يقول: ثم قابلنا بعد ذلك حجر بن أم قطام، وكانت له (كتيبة) فارسية خضراء لما ركب دروعها وبيضها من الصدأ. وقيل: بل أراد: وله دروع فارسية خضراء لصدئها) اهـ

فلو قال: أراد: وله (دروع خضراء) لما جاز لكنه قال: (وله دروع فارسية خضراء) فجاورت خضراء فارسية فجاز له هذا التعبير. ولا تنس انه قال في أول شرحه: (وكانت له (كتيبة) فارسية خضراء - فافهم يا سيدي، وتأمل وتدبر وترو إلى أن تروي من ماء الحقيقة ونميرها. والله المعين

(البقية في العدد القادم) الأب أنستاس ماري الكرملي

أحد أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية

بغداد في 2691942