مجلة الرسالة/العدد 474/أشهر الكتاب الاجتماعيين العراقيين في القرن الرابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 474/أشهر الكتاب الاجتماعيين العراقيين في القرن الرابع

مجلة الرسالة - العدد 474
أشهر الكتاب الاجتماعيين العراقيين في القرن الرابع
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 08 - 1942


الهجري

القاضي التنوخي

للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني

يسرني أن أبدأ لك - أيها القارئ العزيز - بسرد حياة هذا القاضي الحجة، الكبير الهمة، الشاعر الفحل، والمحقق العدل، والأديب الأريب، العالم ابن العالم ابن الحسب والنسب من آل تنوخ الكرام

أما الذين ترجموه من العصور المتأخرة، فقد رووا عنه أخباراً جميلة وعددوا مؤلفاته التي لم نحصل منها - ويا للأسف - إلا على ثلاثة: أولها كتاب (الفرج بعد الشدة)، ذلك السفر المشحون بأخبار الأولين وكلها أقاصيص وحكايات واقعية تنبئ عن المآثر التي خلدت في عز العرب والإسلام. ترجمه إلى التركية لطف الله بن حسن التوقاني المقتول سنة 900هـ. وقد طبع الكتاب طبعتين: الأولى طبعة الهلال للمرحوم المؤرخ جورجي زيدان سنة 1903م. والثانية طبعة المكتبة العلامية بجوار الأزهر بمصر لصاحبها عبد القادر علام سنة 1938م. وأما ثانيها، فهو كتاب (جامع التواريخ) المسمى (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة)، وهو أحد عشر مجلداً على ما رواه ياقوت في معجم الأدباء اشترط فيه أنه لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب. كل مجلد له فاتحة بخطبة. وقال غرس النعمة محمد بن هلال الصابي العلامة المؤرخ المشهور: صنف أبو علي المحسن كتاب (نشوار المحاضرة) في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة. وقد ذيله غرس النعمة بكتاب سماه كتاب (الربيع) قال: ابتدأته سنة ثمان وستين وأربعمائة. هذا ولم يحصل عالم الطبع منه إلا على جزئين وبعض جزء ثالث. فالأول قام بطبعه المستشرق العلامة مرجليوث، وطبع الجزء الثامن منه بدمشق سنة 1348هـ (1930م) بإرشاد الأستاذ مرجليوث. قال بعد أن سرد ترجمة التنوخي نقلاً عن معجم الأدباء لياقوت الحموي: (وأول مجلد منه نشرناه في سنة 1921م عن نسخة في مكتبة باريس العمومية. وبذل البحاثة الشهير أحمد باشا تيمور جهده في تفسير ما ورد فيه من الغريب، فنثر ثمرات أفكاره في المجلدين الثاني والثالث مجلة مجمعنا العلمي العربي في دمشق، وقد أخبرنا أن عنده نسخة من الجزء الثاني). ونشر بعض الثالث في مجلة المجمع العلمي العربي بعد نشرها الثامن. هذا، وقد ذكره بعنوان (نشوان المحاضرة وأخبار المذاكرة) - ابن خلكان. ونقل عنه هذه اللفظة صاحب شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي في حوادث سنة 384هـ، وهي سنة وفاة التنوخي. ونقل عنهما الحاجي خليفة في كشف الظنون تلك اللفظة، إذ وضع اسم الكتاب في مادة النون. والكتاب الثالث هو كتاب المستجاد من فعلات الأجواد، لم يذكره سوى ابن خلكان، ونقل عنه صاحب شذرات الذهب. وقد طبع الكتاب حديثاً طبعة حجرية نشره ليوبولي في شتتجارت سنة 1939، طبقاً للمخطوطة الأصلية في 215 صفحة فيها الفهارس كاملة زيادة على ست وعشرين صفحة للمقدمة الألمانية. وقد علمت بأن نسخة خطية منه يملكها المنلا صابر بكركوك. وقد طالعت طائفة من أخباره فوجدته بديعاً لا يقل أسلوباً عن الكتب الأخرى المذكورة آنفاً والشائعة بين القراء والمتتبعين. إن أول من ترجم التنوخي على ما يستوجب سياق التاريخ هو هلال بن المحسن الصابي في تاريخ بغداد الذي وصل به تاريخ ثابت بن سنان، ثم الثعالبي صاحب يتيمة الدهر المتوفى سنة 429هـ حيث قال عنه بعد أن تكلم عن أبيه: (هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المثيل لأصله، والنائب عنه حياته، والقائم مقامه بعد وفاته. . . وله كتاب (الفرج بعد الشدة)، وناهيك بحسنه، وإمتاع فنه وما جرى من الفأل بيمينه، لا جرم أنه سير من الأمثال، وأسرى من الخيال. . . أخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، وأن بعض العوائق حال بينه وبين تحصيله، حتى فاته واشتد الأسف عليه، ولو تقدر له استصحابه كسائر الدواوين البديعة، لكنت أتفسح في الانتخاب منه. ولكني الآن مقل من شعره، وسيقع لي ما أتكثر به، وألحق المختار منه بمكانه من هذا الباب بمشيئة الله تعالى وعونه، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج:

إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ

ومن لم يرض لم أصفعه إلا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي

وذكره بعدهما الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ في كتابه تاريخ بغداد، عده محدثاً ببغداد وعدد نسبه وحدد تاريخ مولده ووفاته إذ قال: (المحسن بن علي بن محمد بن أبي فهم أبو علي التنوخي القاضي بن القاضي، ولد بالبصرة وسمع بها من واهب ابن يحيى المازني وأبي العباس الأشرم ومحمد بن يحيى الصولي والحسن بن محمد بن عثمان النسوي وأبي بكر بن داسة واحمد بن عبد الصغار وطبقتهم ونزل بغداد وأقام بها وحدث بها إلى حين وفاته. وكان سماعه صحيحاً أديباً شاعراً أخبارياً. أخبرنا عنه أبنه أبو القاسم علي، أخبرنا التنوخي حدثنا أبي - من لفظه وحفظه ومن أصله - حدثنا واهب بن يحيى بن عبد الوهاب المازني البصري - بها من حفظه - قال التنوخي وحدثنا إدريس بن علي المؤدب؛ ورفع الإسناد إلى مسلمة بن مخلد قالْ قال رسول الله : (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن فك عن مكروب فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) قال لي التنوخي قال قال لي أبي: مولدي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة. قال وكان مولده في ليلة الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الأول وأول سماعه في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وأول ما تقلد القضاء من قبل أبي السائب عتبة بن عبد الله بالقصر وبابل وصور (كذا) في سنة تسع وأربعين. ثم ولاه المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وإيذج ورامهرمز. وتقلد بعد ذلك أعمالاً كثيرة في نواح مختلفة، وتوفي ببغداد في ليلة الاثنين لخمس بقين من المحرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة). أما من ذكره بعدهم فمنهم أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي صاحب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم المتوفى سنة 597هـ، فذكر نسبه ومولده وسماعه وتحديثه وأول سماعه الحديث وتقليده القضاء كما أسلفنا، ثم ذكر أيضاً وفاته كما ذكر سلفه الخطيب البغدادي. وقد ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في حوادث سنة 371هـ. ونقل أن عضد الدولة قبض عليه وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها، وذكره أيضاً في وفيات سنة 384هـ. وهي سنة وفاته سارداً تاريخ مولده أيضاً. قال وكان فاضلاً. وقد ذكر التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) أنه كان على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز سنة ست وأربعين وثلاثمائة. وذكر بعد ذلك بقليل أنه كان على القضاء في بجزيرة ابن عمر. وذكر ابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهر المتوفى سنة 874هـ أنه تقلد القضاء بسر من رأى يشبه سوراً. قال: وكان أديباً شاعراً والذي عرفنا - أسباب توليته القضاء وعزله - ياقوت الحموي في كتابه المعروف بإرشاد الأريب في معرفة الأديب - أعني - معجم الأدباء وذلك بإسهاب يصعب علينا استيعابه فنختصره ونقول: (قال بعد ذكر نسبه ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بخلاف ما ذكره الخطيب البغدادي وابن الجوزي صاحب المنتظم وهما أسبق من ياقوت وذكر وفاته أيضاً من دون خلاف، وذكر تآليفه كما ذكرناه آنفاً: ولي القضاء بواسط وكان بها متولياً سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وقال في موضع آخر من كتابه نشوار المحاضرة: حضرت أنا مجلس أبي العباس أبي الشوارب قاضي القضاة إذ ذاك وكنت حينئذ أكتب له على الحكم والوقوف بمدينة السلام مضافاً إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقا وخانيجار وقصر ابن هبيرة والجامعين، وسوراء وبابل والإيغاريين وخطرنية وذكر قصة. وذكر في موضع آخر - جاء قبلاً منقولاً عن الخطيب البغدادي - أنه كان يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله، وعز الدولة بن بويه. وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة. قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة قضاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركس الشاهد، وكان خليفته على القضاء قبلي كتاباً على يدي وعنوانه: إلى المخالف الشاق، السيئ الأخلاق؛ الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق. وقال ياقوت أيضاً: قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتجديد العهد بخدمته، فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز قلت نعم. قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: ألا أن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالاً - وكانت سني يومئذ عشرين سنة - قال وجب أن تجيء إلى الحضرة لأتقدم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملاً تقبل أنت فيه شهوداً (قلت ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب. فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها؟ ثم قال لي أخرج معي إلى بغداد. فقبلت يده ودعوت له. وسار من السوس إلى بغداد. ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في بما دعاه أن قلدني عملاً بسقي الفرات. وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالساته. واتفق أن جلس يوماً مجلساً عاماً وأنا بحضرته وقيل: أبو السائب في الدار، قال: يدخل. ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومد يده ليسارّني فقبلتها، فمد يدي وقال ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارّني في مثل هذا المجلس الحافل فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة فيرهبك ويحشمك ويتوفر عليك ويكرمك فإنه لا يجيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك. وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفن من الحديث إلى أن دخل أبو السائب. فلما رآه في سرار وقف ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له تقرباً إليه وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان في ذلك الوقت فاسد الرأي فيه. فقال لأبي السائب يجلس قاضي القضاة، وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له أجلس يا سيدي، وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشد من تلك؛ فامض إليه في غد فسترى ما يعاملك به. وقطع السرار وقال لي ظاهراً: قم فامض بما أنفذتك فيه وعد إلي الساعة بما تعجله، فوهم أبا السائب بذاك أننا في مهم. فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب فكاد يحملني على رأسه وأخذ يحادثني بضروب من المحادثة والمباسطة وكان ذلك دهراً طويلاً

(البقية في العدد القادم)

يوسف يعقوب مسكوني