مجلة الرسالة/العدد 47/في الأدب الفرنسي
مجلة الرسالة/العدد 47/في الأدب الفرنسي
4 - الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
ومن يوم أن غشى صالون المركيزة دي سابليه، شعر بميل شديد إلى كتابة الحكم والمواعظ، وبد في هذا النوع من الأدب ربة البيت وجاك إسبريه. وهذا أول نجاح صادفه في حياته وبعث السرور في دخيلته. وكان من القواعد المألوفة في هذه المجالس أن الإنسان إذا أراد أن يكتب للجمهور، وجب عليه أن يستنير برأي زملائه. وقد ذكر ذلك سجريه فقال: (كان من الواجب على الذين يكتبون للجمهور أن يطلعوا أصدقاءهم على ما يكتبون لإصلاحه وتهذيبه. وقد اتبع الدوق دي لاروشفوكو هذه القاعدة في مذكراته وفي مواعظه. فكان يرسل إلى ما يكتبه ويسألني أن أحتفظ بالكراسات خمسة أو ستة أسابيع حتى يتسنى له إنعام النظر فيها. ومن هذه المواعظ ما تغير أكثر من ثلاثين مرة)
وكثيراً ما كان يستشير المركيزة ويسألها أن تبدي رأيها فيما يكتب، ومما يثبت ذلك أنه كتب إليها في أحد الأيام يقول: (لا يصح أن تسمى هذه المواعظ بهذا الاسم إلا إذا وافقت عليها. إنك لا تستطيعين إنكارها، لأن الكثير منها يرجع إليك). وقد بلغ من اهتمام المركيزة بهذه المواعظ أنها نقلتها وأطلعت عليها كثيراً من أصدقائها في غيبة المؤلف وجمعت آراءهم في أسلوبها ومعانيها.
وقضى عام 1664 في مراجعة كل مواعظه وتهذيب أسلوبها وعاونه على ذلك جاك إسبريه والمركيزة دي سابليه. وفي عام 1665 ظهر الكتاب، أي في السنة التي ظهرت فيها قصص لافونتين المشهورة. وهذا الشاعر سيكون موضوع حديثنا في المقال الآتي
وعقب نشر هذه المواعظ، اتجهت المركيزة إلى العبادة وتوددت إلى الدوقة دي لونجفيل، فأعرض عنها لاروشفوكو بعد هذه الصلة الوثيقة التي استمرت خمسة أعوام. ثم شاء القدر أن يقضي أعوامه الأخيرة في هدوء وسعادة، فساق إليه الكونتس دي لافاييت تخلص له الود والوفاء وتهدهد نفسه الحزينة في شيخوخته
وفي عام 1667 خاض غمار الحرب لآخر مرة في حصار ليل على الرغم من مرضه. ثم اشتدت عليه وطأة الداء فكف عن زيارة البلاط وراض نفسه على أن يقضي بقية أيامه الراحة العذبة بجانب صديقته التي شهد لها بوالو بالتفوق في الأدب والنبوغ في الكتابة
وكان يجتمع في بيته الكتاب والشعراء. فكورني قرأ في صالونه قصة (بولشيري)، وراسين قصة (اسكندر)، وبوالو كتابه (الفن الشعري)، وموليير (النساء العالمات) هذه الكوميديا المشهورة التي قيل في ذلك الحين إنها سخرية من مدام دي سفنييه ومدام دي لافاييت.
وشغل أعوامه الأخيرة في تنقيح كتابه الصغير (مواعظ). فالطبعة الأولى في عام 1665 وبها 307 مواعظ، والطبعة الثانية في 1666 وبها 302 موعظة، والثالثة في عام 1671 وبها 341 موعظة، والرابعة 1675 وبها 413 موعظة، والخامسة في عام 1678 وبها 504 مواعظ، وفي هذه السنة الأخيرة نشرت حكم المركيزة دي سابليه وكتاب جاك إسبريه (شوائب الفضائل الإنسانية)
وماتت زوجه في عام 1670 فعاشت معه مدام دي لافاييت لا تفارقه إلا لماما، وبفضلها خفت لهجة المواعظ القاسية في طبعتي عام 1671 وعام 1678. ويصح أن نطبق عليها جملة الشاعر الألماني الأكبر (جوت) التي قالها عن (مدام دي ستيل) إنها تحيل المرارة إلى عذوبة). ساعدته على تنقيح مواعظه، وساعدها على كتابة قصصها وعلى الأخص قصتها المشهورة التي خلدت ذكرها وهي (الأميرة دي كليف). وقد اعترفت بذلك وقالت (استفدت من عقله، ولكني أصلحت قلبه). أصلحت قلبه لأنها أخلصت له الحب وهيأت له أسباب السعادة
وفي شهر يونيو عام 1672 جرح ابنه الأكبر في موقعة الرين جرحاً بليغاً وقتل فيها ولده الرابع والكونت دي سان بول ابنه غير الشرعي من الدوقة دي لونجفيل، فانتابه حزن أليم. وذكرت مدام دي سفنييه هذه الحادثة لابنتها في إحدى رسائلها (كنا عند مدام دي لافاييت لما بلغه ما أصاب أولاده، فسالت دموعه من أعماق قلبه على خديه. . . رأيت قلبه عاريا في هذا الظرف القاسي فعرفت فيه قلب رجل شجاع ثابت الجنان راجح العقل وافر الحنان)
ولما ماتت أمه في عام 1678، وكان يحبها حباً شديداً، كتبت مدام دي سفنييه إلى ابنتها تقول: (رأيته يبكي في حنان جعلني أعبده)
وبكاؤه أولاده وأمه شيء عادي لا يستحق الذكر. وإنما ذكرته مدام دي سفنييه لأن الناس اعتقدوا أن هذا الرجل الذي أنكر العواطف الإنسانية في كتابه، غليظ القلب عار من العواطف، فأرادت أن تمحو ما وقر في أذهانهم وتبرهن لهم على خطأ اعتقادهم
وذات مرة فاجأته مدام دي سفنييه (متلبساً بالحنان) إذ سمع قصة تدل على الشجاعة ونبل العاطفة في أشد المواقف هولاً فبكى. وفي هذا تقول: (إنه يبكي نفسه بإعجابه بنبل هذه العاطفة) وأوحت إليه هذه القصة إحدى مواعظه: (يشعر الإنسان بأن له نصيباً في الأعمال الجميلة إذا مدحها بقلب خالص)
وقبل موته بقليل عرض عليه (هويه) أحد معلمي ولي العهد الدخول في مجمع العلماء، فاعتذر من القبول بالمرض. ولكن (هويه) يقول في مذكراته إن سبب رفضه يرجع إلى خجله الشديد في حضرة الجمهور
وفي أوائل شهر مارس عام 1680 استبد به الداء، فعاده جميع الأطباء النابهين، ثم دعي (تالبوت) الطبيب الإنجليزي المشهور لعلاجه، ولكن الطب عجز عن قهر المرض. وفي 15 مارس كتبت مدام دي سفنييه إلى ابنتها تنبئها بحالة الدوق وتظهر لها إعجابها بهدوء نفسه واطمئنانه إلى لقاء الموت
وفي يوم 16 مارس استوفى أنفاسه ليلا بين ذراعي بوسويه، وهو في السابعة والستين من عمره، أي بعد موت الدوقة دي لونجفيل بعام، وبعد نشر قصة مدام دي لافاييت (أميرة دي كليف) بعامين وقد خلف لأولاده ديناً كبيراً على الرغم من ثروته الهائلة. ولكن ابنه الأكبر فرنسوا السابع نال بحكمته عطف الملك وحبه، وأصلح بمعونته ما أفسده أبوه
صفاته
ذكرنا في تاريخ حياته أنه وصف نفسه كتابة في صالون الآنسة دي مونبانسييه، ونشر هذا المقال عام 1659، فكان أول عهد الجمهور بآثار هذا الكاتب الأدبية. وقد استهله بوصف دقيق لقامته وشعره ورأسه وأسنانه، ثم قال: (يحمل وجهي سمة الحزن وطابع العزة، وهذا ما يجعل الناس يعتقدون خطأ أن من طبعي ازدراءهم. ومزاجي تستقر فيه الكآبة وتألفه، ولم يرني أحد من الناس أضحك أثناء ثلاثة أعوام أو أربعة إلا ثلاث مرات أو أربع، ويخيل إلي أني كنت أحتمل اكتئاب مزاجي وأجد فيه بعض الراحة والهدوء لو لم يستطب صحبتي اكتئاب آخر يملأ مخيلتي ويستبد بفكري، ويجعلني أقضي جل وقتي إما صامتاً حالما وإما متكلما دون أن ألقى بالي إلى ما أقول)
وليس من العسير أن نجد سبب هذا الاكتئاب الآخر، فإن ذكريات الحرب الأهلية تركت في نفسه أثراً أليما، وولدت في دخيلته الاكتئاب الباطني الذي غمر (مواعظه) فبدت للناس قاتمة حزينة.
يتبع
حسن صادق