مجلة الرسالة/العدد 461/محاكمة (آدم) و (حواء)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 461/محاكمة (آدم) و (حواء)

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 05 - 1942


في جلسة سرية

للدكتور زكي مبارك

بين المحسوس والمعقول

سنجد في حديث اليوم أن الله ظهر (لآدم) و (حواء) بصورة حسية، وذلك يخالف العقيدة الإسلامية، فكيف نقبل تلك الصورة مع تنزيه الله عن أن تراه الأبصار؟

الحل سهل: فنحن نلخّص كتاب شيث بن عربانوس، وهو كتاب وُضعتْ أصوله في عهود فِطرية لا تُدرك المعقولات إلا عن طريق المحسوسات فهي لا تتمثل الله إلا بصورة حسية تراها العيون.

وما وقع في كتاب (شيث) وقع مثله في النسخة الموجودة بين أيدي الناس من (التوراة)، فعبارة التوراة صريحة في أن الله ظهر لآدم، وأن آدم وامرأته اختفيا بين أشجار الجنة حياءً من ملاقاة الله وجهاً لوجه بعد العصيان.

وعلى فرض أن التوراة الموجودة بين أيدي الناس هي التوراة الحقيقية وأنها لم تصب بتحريف ولا تبديل، فمن الممكن أن نرجع نصوصها إلى الاستعارة التمثيلية، كما صنع المفسرون حين وجدوا في القرآن ألفاظاً لا تساير الروح الإسلامي إلا بعد التأويل.

والواقع أن الإنسانية في عهودها الفِطرية جسَّمت جميع المعاني، فقد جعلت لله وجها ويدَيْن، وصورته بألوان لا نرضاها اليوم، بعد أن ارتقت العقول فصار من السهل أن تؤمن بأن الله ليس كمثله شيء، وأنه فوق ما تتصور الأوهام والظنون.

وما سُقنا هذا التمهيد لقراء (الرسالة) وهم من الخواص، وإنما أردنا أن نحرر الموقف تحريراً يرفع من طريقنا جميع العقبات لنصل إلى الغرض بسلام وأمان.

الجلسة السرية

أنزعج فريق من الذين حضروا الجلسة حين طلب آدم أن يحاكم في (جلسة سرية)، وأخذ منهم الغيظ كل مأخذ حين أجابه الله إلى ما طلب، فقد كانوا يشتهون أن يشبعوا ما انطوت عليه جوانحهم من شهوات الفُضول، وكانوا يتوقون إلى معرفة ما سيدافع به آدم عن نفسه في ذلك المقام الرهيب، وربما كلن فيهم من تسوقه ثائرة الحقد إلى رغبة التشفي من آدم وهو مأخوذ بجريرة العصيان.

جزع آدم

كان الخوف من شماتة القرود هو الذي حمل آدم على طلب الجلسة السرية، وفاته أن يذكر أن لعلنية الجلسة حكمة عالية، فهي تدعو القاضي إلى التلطف في الاستجواب، ترفقاً بمن يحاسَب أمام جماهير لا تخلو من أعداء وأغبياء، وفاته أيضاً أن يذكر أنه سيقف وحده أمام قاضيه، وللوحدة رهبةٌ تزُيغ البصر وتعقل اللسان.

آدم يقف وحده أمام الله في جلسة سرية؟

وأين المحرّضون على المعصية وهم ثلاثة شُخُوص: إبليس والحية وحواء؟

فإن كان الله يريد إقامة العدل فليطلب حضور المحرضين ليلقوا جزائهم على التحريض

وما كاد هذا الخاطر يطوف بقلب آدم حتى صاح الهاتف:

- آدم لا تجمع بين المعصية والجهل

- أنا من العصاة ولست من الجاهلين

- أن اعتراضك على الله هو الغاية في الجهل

- أنا لا أعترض على الله، ولكني أطلب إقامة العدل

- وما العدل عندك؟

- هو أن يحاسَب المحرضون قبل أن أحاسَب

- ومن هؤلاء المحرضون؟

- الحية وإبليس وحواء. ومهما يكن فلا أقل من أن يحاكم إبليس اللعين

- أترك إبليس في غفوته، يا آدم، ولا توقظ الشر الوسنان

- لابد من محاكمة هذا اللعين على التحريض

- إبليس لعين؟

- بشهادة الله

- وكيف انخدعت بأحابيله وأنت تعرف أن الله شهد بأنه لعين؟

- تلك هفوة أوقعني فيها الجدُّ العاثر - آدم، لا تجمع بين المعصية والجهل

- أراك تكرر هذه العبارة أيها الهاتف، فماذا تريد؟

- أريد القول بأن الله لم يعلن غضبه على إبليس إلا لحكمة سامية

- وما تلك الحكمة؟

- هي أن يرفع الغشاوة عن أصحاب الغرور والغفلة والانخداع

- أوضح، أيها الهاتف

- أن الله سخر إبليس لامتحانك، يا آدم، وشاءت رحمته بك أن يعلن أن إبليس شيطانٌ رجيم، لتنقطع حجتك في الانخداع أو لتأخذ الحيطة لنفسك فتحترس من ذلك الناصح الظنين. . . فإذا استطاع إبليس على سوء سمعته أن يجرّك إلى العصيان، فكيف يكون حالك لو كلف الله بامتحانك أحد الملائكة المقرَّبين؟

- آه، آه، آه، صَعَقْتني أيها الهاتف!

- ما صعقتك، ولكنني نصحتك، فاترك إبليس في غفوته، ولا توقظ الشر الوسنان

- وماذا يقول إبليس لو ألححتُ في محاكمته على تهمة التحريض؟

- سيصمت صمُت الأموات

- لماذا؟

- لأنه على رأس الشُّرطة السَّرية

- هو إذن جاسوس؟

- أن كانت هذه اللفظة تشفي غليلك فإملاء بها مسامع الأرض والسماء!

- أراك تعطف على إبليس مع أنه شاقَّ الله بعناد وكبرياء

- لا يستطيع مخلوق أن يشاق الله، ثم يترك له الله أي فرصة للتمتع بنعمة الوجود

- أيرضى الله عن نزغات إبليس؟

- لو أعلن رضاه لضاعت الفرصة في امتحانك

- أن رأسي يدور من هول هذا المنطق

- كنت أنتظر أن يدور رأسك من هول ما صنعتُ بنفسك

- وما صنعت بنفسي؟ - انخدعت بنصيحة مخلوق كتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدَّين، فكيف يكون حالك لو خدعك مخلوق غير ملعون؟ أن إبليس فضح نفسه حين قَصَر دعوته على العصيان، وكان في ذلك ما يكفي لرفع الغشاوة عن عينيك

- آه، آه، آه، صعقتني أيها الهاتف!

- وسأصعقك مرة ثالثة فأقول: أنك شهدت على نفسك بالغفلة والحمق حين انخدعت لمخلوق مفضوح، فقد أعلن على رؤوس الأشهاد أنه سيزّين لك ولذريتك وأنه سيغويكم أجمعين، فما دفاعك عن نفسك وقد صلصل الناقوس بأن إبليس غريمك وأنه سيصرعك حين يستطيع؟ ما دفاعك وقد وضعت قدميك فوق أشواك سمعتْ أخبارها أذناك، ورأتها عيناك؟

- وترى أيها الهاتف أن اسكت فلا اطلب محاكمة إبليس على التحريض؟

- ذلك ما أراه، فأنا أخشى أن يظهر لسكان الفردوس أن إبليس أشرف منك

- اشرف مني؟ وكيف؟

- لأنه خادعٌ وأنت مخدوع، فان لم يكن اشر منك فهو أقوى منك، والقوة من علائم التشريف

- وألقي الله وحدي وجهاً لوجه في هذا المقام الرهيب؟

- كما لقيته وحدك وجهاً لوجه حين عصيته

- أكان الله يراني عند العصيان؟

- ألم تكن تعرف انه يراك؟ أن أوزارك بالجهل أوزارٌ ثقال!

- يظهر أنى سأخسر القضية في ساحة العدل

- لا خسران في ساحة العدل، فستفوز بأعظم ربح وهو التأديب

- أترك الحية واترك إبليس، واكتفي بحضور حواء

- لتحاسَب؟

- لتشهد محاسبتي، فقد يرى كرم الله أن يعفيني من الذل فما تكرم امرأة زوجها إلا إذا كان من الأعزّاء، وما أحسب الله يريد أن أهان.

يوم الحساب - من أنت يا هذا؟

- عبدُك آدم

- وما تلك بيمينك؟

- أَمَتُك حواء

- وفيم حضرتما؟

- لنقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا، وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين)

- من علمكما هذا الأسلوب من المتاب؟

- هو بعض ما تلقينا من فيض هدايتك الربانية

- وما الذي كان يمنع من إعلان هذا المتاب بحضور سكان الفردوس؟

- منع من ذلك الخوف من رفض هذه التوبة على مرأى ومسمع من القرود

- ولكن القرود خلقٌ من خلق، ومن حقهم أن يشمتوا بالآثمين

- هذه بداية مرعبة، وأنا أدعو الله أن يتفضل بإمهالي يوماً أو يومين لاستعد للدفاع

- أمهلتك أسبوعاً

وخرج آدم من الجلسة السرية وهو موقن بان الأمل في نجاته عزيز المنال!

فما الذي سيقع بعد أسبوع؟ وهل يفلح آدم وهو صاحب حواء؟ نسأل الله الصفح عن آدم، فما عرفناه إلا فتىَ وهّاج الروح والفؤاد.

(للحديث أشجان وشجون)

زكي مبارك