مجلة الرسالة/العدد 461/خسرو وشيرين
مجلة الرسالة/العدد 461/خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 3 -
تنقل الحبيبان ومن معهما من أفراد الحاشية والجواري والخدم من مكان إلى آخر، فوق الهضاب المرتفعة وفي السهول وبين المراعي والحقول، وهما في رحلتهما إلى الريف ببلاد أرمينية، يلهوان بالصيد والقنص وأنواع التسلية والملاهي الأخرى، حتى وصلا إلى شاطئ نهر آراس، حيث تنبعث من الأرض رائحة المسك والطيب، ويجلب الهواء معه عطور الورود والرياحين وشذى الزهور والياسمين، فطاب لهما في هذا المكان المقام، وأمراً بضرب الخيام. وهناك أقام خسرو مأدبة ثانية لحبيبته شيرين، استمعا فيها لألحان (باربد) وموسيقى (نيكيسا) وهما يرددان أناشيد الغرام فينطقان بما ينبض به قلب كل من الحبيبين من عواطف ووجد وهيام.
وفي صبيحة اليوم التالي لهذه المأدبة، جلس خسرو إلى جانب شيرين أمام إحدى الخيام، وإذا بأسد جائع ينقضّ عليهما والشرر يتطاير من عينيه، يريد أن ينال من خسرو كأنه يحقد عليه الاستئثار بشيرين الحلوة الجميلة. فقام إليه خسرو وهو اعزل من السلاح، وتهيا ليقابله في معركة حياة أو موت، بينه - وهو ذلك الملك المتوج على شعب إيران العظيم - وبين هذا الأسد الجائع - وهو ملك الوحوش اجمع وسيد الصحارى والبراري - فتلقاه وقد شمَّر عن ذراعيه ليدافع عن حبيبته.
ووهبه الحب قوة على قوته، فامسك الأسد بيده اليسرى من لبدته، ثم هوى على أم رأسه بضربة شديدة من قبضة يده اليمنى كانت هي القاضية عليه. وقد حدث ذلك كله في طرفة عين دون أن يجد الحارس الواقف على مقربة من الخيمة الوقت الكافي ليهجم على الأسد ويشج رأسه بسيفه. وكانت شيرين قد هرعت إلى باب الخيمة ووقفت به، تنظر إلى (المعركة) واجمة خائفة أن يصيب الأسد خسرو بسوء، ولكنها عندما رأته ينتصر عليه، ازداد إعجابها بحبيبها واعتدادها به.
وفي (شكل1) نرى خسرو وهو واقف أمام خيمته بجوار مجرى ماء، وقد امسك بيده اليسرى لبدة الأسد، وتهيأ ليقضي عليه بضربة من قبضة يده اليمنى، والى اليمين أسرع حارس لمعاونته، وقد قبض بكلتا يديه على سيف امتشقه ليضرب به الأسد، ووقفت شيرين وعلى رأسها تاج في مدخل الخيمة تعض يدها وهي تنظر في لهفة إلى خسرو، وإلى جوارها ثلاث من صويحباتها يرقبن نتيجة (المعركة) ورجل من أفراد الحاشية تقدم لنجدة خسرو. ونلاحظ النقوش الجميلة الواضحة على قماش الخيمة من فروع نباتية وزهور وصور حيوانات وطيور. وهذه الصورة هي في مخطوط لأشعار إيرانية، كتب سنة 813 هجرية (1410م) للأمير إسكندر سلطان حاكم شيراز، وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة جلبنكيان.
هكذا مرت الأيام ومضى الوقت والحبيبان يلهوان بالصيد والقنص، وإقامة الحفلات والمآدب، والاستماع إلى الغناء والموسيقى، ويشعران بالسرور والسعادة في قرب كل منهما للآخر إلى أن كان ذات ليلة وقد عصف الهوى بنفس خسرو واستبدّ به الغرام فلم يستطع كبح جماحه، فقرب منها يريد غوايتها، ولكنها صدته، وهي تذكر ذلك الوعد الذي قطعته على نفسها أمام عمتها (مهين بانو) الطيبة القلب، فاستمدت منه الجرأة لتقسو عليه، وتطلب منه أن يسعى لاسترداد عرش أجداده وأسلافه وينتصر على ذلك المغتصب، وهو ذلك الملك القوي، قبل أن يحاول غواية امرأة ضعيفة مثلها.
وكان لهذه الكلمات أثر شديد في نفس خسرو. ففي صبيحة اليوم التالي رحل قاصداً إلى بلاد الروم، وقلبه مليء بالحسرة المريرة لفراقه من حبيبته الجميلة. وفي الطريق مرّ على دير فيه راهب يتنسك، فقرب خسرو من الدير وقال: (أيها الراهب المتنسك، أني رجل من أهل إيران اقصد حضرة قيصر في رسالة، فأخبرني بما يصير إليه حالي، ويؤول إليه عاقبة أمري. فقال الراهب: أنت كسرى برويز وقد هربت من يد بعض عبيدك، وسيزوجك قيصر بعض بناته؛ ويمدّك برجاله وأمواله فتعود ويهرب عدوّك إلى بلاد بعيدة ثم يقتل بأمرك هناك. فقال: لا كان غير ما ذكرت أيها الراهب، ولكن متى يكون هذا؟ فقال: بعد سنة أخرى، إذا مضت خمسة عشر يوماً من السنة الثانية صرت ملك إيران، وتسنمت التخت ولبست التاج) وكان قد ما تنبأ به هذا الراهب الصالح، وتوجه خسرو إلى الملك موريس إمبراطور الروم، فاستقبله استقبالاً حسناً، ودعاه إلى النزول في (هيروبوليس) فأقام بها. ثم زوجه من أبنته (مريم) وزوده بجيش قوي، تمكن خسرو بواسطته من أن ينتصر على القائد بهرام جوبين، ويلجئه إلى للفرار إلى خاقان الصين، حيث يقتل بأمر خسرو.
وفي (شكل2) نرى الموقعة بين الملك خسرو والقائد بهرام جوبين، وقد جلس خسرو في هودج على فيل كبير، وفي يده قوس يسدد منها سهماً. والى جانبه في وسط الصورة معلمه الوزير بُزرجميد الحكيم، وقد ركب على فرس وفي يده اسطرلاب يحدد به الوقت الملائم لهجوم خسرو على القائد بهرام جوبين ليضربه الضرة القاضية. ونرى المعركة حولهما قائمة على قدم وساق، والمحاربون يحملون الأعلام وهم على ظهور الجياد، يتطاعنون بالحراب والسيوف ويتراشقون بالسهام، وقد سقط البعض منهم صرعى على الأرض، وراحت جيادهم تعدوا هنا وهناك وهي حائرة. ويلاحظ ما هو واضح في هذه الصورة، من الحركة والحياة، وما يبدو على سحن الأشخاص فيها من الاهتمام. وهي تنسب للمصور (سلطان محمد) أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب الأول الصفوي، لما فيها من ميزات أمتاز بها أسلوبه في التصوير وهي محفوظة في المتحف الملكي الاسكتلندي.
وللمرة الثانية توّج خسرو ملكاً على إيران بعد فرار القائد بهرام جوبين إلى خاقان الصين، فأرسل إليه خسرو من اغتاله هناك. ولما استتبت أمور برويز وانتظمت أسباب سلطانه، وأذعنت الملوك طوعاً وكرهاً لأوامره وأحكامه، وأظلت على العالمين سحائب عدله وإحسانه، قسّم الأرض أربعة أقسام، وأرسل إلى كل قسم منها أثنى عشر ألف فارس ممن مارسوا الأمور وكابدوا تصاريف الدهر حتى صاروا أفراد الزمان، وآساد الضرابْ والطعان، وأوصى الكل بالتيقظ والتحفظ وحفظ الممالك، وضبط المسالك. ثم رزق من زوجته مريم بنت موريس إمبراطور الروم أبناً دعاه بين الناس (شِيرويَه). ولما ممضى ثلاث ساعات من الليل على ولادته، حضر المنجمون عند الملك، فسألهم عن طالع المولود، فقالوا: أيها الملك، أن الأرض تمتلئ من هذا المولود شراً، ولا يحمد أحد سيرته، وهو يمرق عن الدين، ويخرج عن طاعة رب العالمين. وكان ما تنبأ به المنجمون، ولزم شيرويه نحس طالعه، حتى أمر بقتل أبيه خسرو، ثم مات هو بالطاعون كما سيأتي ذكر ذلك فيما بعد.
وفي (شكل3) نرى خسرو في يوم تتويجه ملكاً على إيران وقد جلس على عرش في منظرة بحديقة غنية بأشجار السرو والفاكهة والزهور والورود. ويحيط به بعض كبار المملكة وهم يتحدثون ويتناقشون، ويقدم لهم الخدم والسقاة الطعام والشراب، ووقف حولهم رجال الحرس ومعهم أسلحتهم، وغلمان (البازْدارِيّة) وهم يحملون صقور الصيد. ووقف على سطح المنظرة ستة من أفراد الحاشية يتجادلون ويشيرون إلى أسفل، ويبدو كل منهم أنه يود أن يسبق زملاءه في التعرف على كبار الدولة الواقفين حول خسرو. وهذه الصورة عليها إمضاء المصور (آقاميرك)، ولكن بعض مؤرخي الفن الإسلامي، يقولون أنه لا يمكن التثبت بوجه قاطع من صحة هذه الإمضاء، بالرغم مما هو واضح في هذه الصورة من الدقة في رسم الزخارف والزركشة على الملابس وغير ذلك مما أمتاز به أسلوب آقاميرك في التصوير. ونشأ هذا المصور من أسرة كريمة المحتد في أصفهان، تنتسب إلى آل البيت، ثم رحل إلى تبريز حيث تعلم التصوير على المصور (بهزاد) وكان آقاميرك من الأصدقاء المقربين للشاه طهماسب الأول، ويقال أنه ما زال يشتغل بالتصوير في بلاط هذا الشاه حتى سنة 957 هجرية (1550م). ويظهر أن المصور قصد في هذه الصورة أن يبّين ما كان عليه بلاط الشاه طهماسب من الأناقة والبذخ والروعة والجلال، وأنه صوّر الشاه نفسه في شخص خسرو الجالس على العرش، كما يتضح ذلك من سطر الكتابة في أعلى بناء المنظرة. وهذه الكتابة تقرأ (اللهم خلد دولة السلطان الأعظم والخاقان الأعدل الأكرم السلطان ابن السلطان بن السلطان أبو المظفر السلطان شاه طهماسب الحسيني الصفوي بهادرخان خلد الله تعالى ملكه وسلطانه والى (كذا!) يوم الدين). وهذه الصورة في مخطوط نظامي السابق الذكر المكتوب للشاه طهماسب بين سنتي 946 و950 هـ (1539 - 43 م) وهو محفوظ في المتحف البريطاني.
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد في دار الآثار العربية