مجلة الرسالة/العدد 46/القصص
مجلة الرسالة/العدد 46/القصص
مغامرات آخر بني سراج
لشاتو بريان
'
تلخيص وتحليل ونقد
بقلم الآنسة سهير القلماوي ليسانسييه في الآداب
بنو سراج في التاريخ
إذا كان تاريخ سقوط غرناطة يحفه الكثير من الغموض والكثير من النقص واللبس، فلا غرو إذا كان تاريخ بني سراج كله غموض وإبهام، وكله لبس ونقص. لا نجد كتاباً يذكر عن بني سراج شيئاً كافياً، ولا نجد كاتباً ينتهي في أمرهم إلى ما ينتهي إليه غيره، هذا إذا ذكروهم وما أقل ما ذكروا.
فإذا بدأت بقولهم إن بني سراج اسرة، تجد خلافاً في هل عرفوا في التاريخ كاسرة حقاً، أو أن التاريخ لم يعرف منهم إلا فرداً واحداً؟ وهم بعد يختلفون في حقيقة اسمه. وإذا ثنيت بقولهم نشأوا في غرناطة وجدت من يقول إنهم نشأوا في قرطبة، ثم رحلوا عنها إلى غرناطة. وهكذا يستمر الخلاف في كل خطوة من خطى الكلام على بني سراج.
ولكن برغم هذا كله يمكن أن نستخلص من كلام المؤرخين في شأنهم ما يلي: إنهم أسرة عرفت في غرناطة أواخر أيام بني الأحمر وكان هلاكها على يد أحدهم: أما أبو الحسن علي، وأما أبو عبد الله. وكان لهم يد في الخلافات الأخيرة التي وقعت بين أفراد الأسرة الحاكمة. وهم مشهورون بعد بخلافاتهم مع بني الزغري أو الزغبي، ونجد تأييدا لذلك كتاباً إسبانياً ألف حوالي سنة 1595 عنوانه (تاريخ عصابات الزغري وبني سراج والحروب الأهلية في غرناطة)
كذلك شهر بنو سراج بقصد الفتك بهم، فقيل أن بني الزغري كادوا لهم عند أبي عبد الله ففتك بهم. أما المكيدة نفسها فبعضهم يكتفي بالإشارة اليها، والبعض الآخر يتخذ الأسطورة المشهورة في الفتك بهم كحقيقة تاريخية فيرويها. وفيما بعد تفصيل لتلك الأسطورة
أما شانوبريان مؤلف القصة المشهورة باسمهم، فالظاهر انه كان يرى فيهم أسرة من أشراف غرناطة حاربهم الأسبان فقتلوهم وشردوهم، والدليل على قولي هذا إن بطل القصة آخر سلالة بني سراج جاء إسبانيا للانتقام من سلالة السيد الأسبان لأنهم شردوا أجد اده وقتلوهم: ولو صحت لديه الأسطورة المشهورة لجاء ابن حامد منتقماً من سلالة بني الأحمر لا من سلالة الأسبان.
ننتهي من كل هذا إلى ان بني سراج اسم يذكر مقروناً بذكر سقوط غرناطة وببني الأحمر. إما مآلهم وإما حقيقتهم فشيء يحفه الكثير من الغموض ويحيط به سياج من الأساطير يخفي الكثير من الحقيقة.
بنو سراج في الأساطير
إذا كان التاريخ لم ينصف بني سراج فان الأساطير أنصفتهم كما أنصفهم الفن في الأدب والغناء.
تتعلق ببني السراج أسطورتان مهمتان، وكلتا الأسطورتين كانتا منبعاً للأدب أو للقصص بنوع خاص.
أما الأولى فهي الأسطورة التي تروي في سبب الفتك ببني سراج وهي أن أبا عبد الله بلغه حب أحد بني سراج لأخته زريده، فثار ثائره، وجمع الحاسرة كلها في مكان من الحمراء وأحرقهم أو قطع رؤوسهم جميعاً، ومازال صدى أصواتهم يرن في جنبات الحمراء شاكياً من ظلم مالا قوه. ويلمح كاتب مقال بني سراج في دائرة المعارف الإيطالية شبهاً عظيماً بين هذه القصة والقصة التي تروي في الشرق عن سبب الفتك بالرامكة، مما يجعله يرجح ان قصة بني سراج هذه ما هي إلا أسطورة غريبة صيغت على نسق الأسطورة الشرقية، فبنو سراج وزراء بني الأحمر، والبرامكة وزراء بني العباس، وفتك بالبرامكة الرشيد، لان جعفراً البرمكي أحب أخته العباسة، وكذلك فتك أبو عبد الله بالسراجيين لأن أحدهم احب أخته زريدة. ثم يقول كاتب المقال، واسم وهو اسم غريب في الأسماء العربية ما هو إلا تحريف تحكمي لاسم زبيدة زوج الرشيد.
ومما يبعد هذه الأسطورة عن التاريخ أن مؤرخاً عربياً واحدا لم يذكرها وان كان الأسبان اكثروا من ذكرها في مؤلفاتهم.
وأما الأسطورة الثانية التي تتعلق ببني سراج فهي الأسطورة المذكورة في كتاب لانطيونو فالجانس اسمه تاريخ بني سراج وظريفة، ألفه سنة 1551 وقد استقاه من كتاب لا يعرف مؤلفه اسمه ' ويروي فيه قصة ابن دريز الرامي الذي تزوج سراً من ظريفة ابنة قائد قرطبة والذي أسره قائد الأنتقيرة. ولما صاحبته زوجه عن طيبة خاطر إلى السجن أخذت القائد شفقة على حالها المحزنة، وعلى حبهما وإخلاصهما، وطلب إلى أبيه أن يعفو عنهما، وحصل منه على أمر بإطلاق سراحهما. وقد رويت هذه القصة برقة زائدة حتى إن يقول، يظهر إنها كتبت بريشة من جناح أحد الملائكة واشتهرت هذه القصة شهرة عظيمة واعجب بها وذكرها في دون كيشوت. كتابه ديانا. واستخلص من موضوعها روايته. . . . وكانت القصة باختصار موضوعاً لعدة قصص من اشهرها أجملها ما رواه ' روايته
هاتان هما الأسطورتان، وما تفرع عنهما، ولكن موضوع بني سراج أنفسهم غير متأثر بأسطورة معينة من الأسطورتين كان وحياً للموسيقى المشهور شروبيني فقد وضع فيهم أوبرا مثلت في باريس سنة 1381 ووضع كلامها ولا تزال بعض ألحانها مشهورة إلى اليوم
كذلك نجد ذكرهم عند شعراء العرب، فهم يذكرون كثيراً، مثلا فيما ألف حول سقوط قلعة الحامة من شعر وغناء.
كذلك أنصفت الأساطير بني سراج كما أنصفهم الأدب والغناء.
قصة شاتو بريان
هؤلاء هم بنو سراج كما يعرفهم التاريخ وكما تعرفهم الأساطير ولكن الذي رفع ذكرهم ليس التاريخ أو الأساطير، وإنما هي قصة ألفها الكاتب الفرنسي المشهور شاتوبريان، وهي قصة (مغامرات آخر بني سراج). وليست القصة عن بني سراج أنفسهم كما يدل عنوانها، ولكن المؤلف اتخذ لقصته بطلا ادعى انه آخر سلالة هذه الأسرة، ولا يغير من القصة لو كان هذا البطل آخر سلالة أي أسرة عربية أخرى شهدت سقوط غرناطة وأصابها ما أصاب العرب جميعاً إذ ذاك.
كيف استقى المؤلف قصته عاش شاتوبريان في شمال فرنسا، ولكنه عرف بكثرة الرحلات واتساع نطاقها، كما عرفت أسرته كلها بولعها بالرحلات والمغامرات، وقام شاتوبريان نفسه بعدة رحلات، فقد سافر إلى امريكا، وكانت تلك الرحلة من أهم ما انتفع به في كتابه الذي رفع ذكره وهو أثالا. كذلك عاش زمناً في لندره، حيث كتب الكثير من مؤلفاته، ورحلاته هذه لم تمل عليه أدباً فحسب، وإنما وصفها في كتب عدة غير مشهورة.
ولكن هناك رحلة خاصة هي التي أوحت إليه بتلك القصة التي نحن بصدد الكلام عنها، فقد تواعد وإحدى صديقاته على زيارة الحمراء وما حولها في غرناطة. وفعلا تقابلا هناك وزارا معاً الحمراء وما جاورها. وكان من أثر هذه الزيارة ان كتب القصة في نفس تلك الأمكنة التي يصفها. في الحمراء وما جاورها.
هذا ما أوحى إليه بالقصة. وأما مادة القصة فقد استقاها من كتاب أشرنا إليه آنفاً وهو (تاريخ عصابات الزغري وبني سراج والحروب الأهلية لغرناطة) ألف هذا الكتاب حوالي سنة 1595 ولكنه ترجم إلى الفرنسية وطبع في باريس ثلاث طبعات، الأولى سنة 1606، والثانية سنة 1698، والثالثة سنة 1809، وإذا عرفنا أن شاتوبريان مات سنة 1848 عرفنا انه كان يمكنه الاطلاع على كل هذه الطبعات الثلاث للترجمة الفرنسية فوق إن إحداها طبعت في شبابه، فلا غرو أن لفتت نظره. وهذا الكتاب الذي ألفه مستقى من ومن قصص العامة مسيحية وإسلامية حتى أن بعضها منقول نقلا. أضف إلى كل هذا أن أوبرا في بني سرا مثلت سنة 1813 فكانت حافزا للمؤلف ولا شك على تأليف قصته
ملخص: القصة
أما القصة نفسها فتتلخص في ان ابن حامد هاجر من قرطاجنة إلى غرناطة شوقاً إلى رؤية آثار أجداده وآخذاً للثأر ممن فتكوا بهم. وأثناء زيارته لتلك الآثار التي كانت تثير أشجانه، لمح أسبانية فتعرفها ثم احبها وأحبته. وزارا معاً قصر الحمراء، ولكن كل واحد منهما أصر على دينه، وأصر على ألا يتزوج صاحبه إلا إذا بقى على دينه. وكان ابن حامد يعرف أن صاحبته من أسرة أسبانية عريقة، ولكن لا يعرف عن هذه الأسرة شيئاً. وكانت إدماء تعرف أن صاحبها من أشراف العرب الذين هاجروا إلى المغرب، ولكنها لم تعرف لأسرته اسما.
ويضطر ابن حامد إلى ترك غرناطة ليودع والدته قبل فراقها الحياة، فيودع إدماء ويقسمان على الإخلاص والوفاء. ثم يعود إليها بعد أن فارقت أمه الحياة فيجدها كما أمل: وفية مخلصة ثابتة على دينها
ولكن يظهر لابن حامد منافس في حب إدماء هو صديق أخيها الفارس الفرنسي لوترك ويعرض عليها أخوها الزواج من لوترك فترفض وتعترف له بحبها لابن حامد، فيثور أخوها ويطلب ابن حامد للمبارزة فيتبارزان ويجرح ابن حامد. وتأتي إدماء إلى ميدان المبارزة في صحبة لوترك، وتحاول إصلاح الحال بين أخيها ولوترك من جهة، وبين ابن حامد من جهة أخرى، ولكنها لا تفلح، ويصر ابن حامد على أن يحترم دون كارلوس أخاها ويحتقر لوترك حبيبها ويكرههما الاثنين.
وعند الغروب بينما كان ابن حامد سائراً سابحاً في أفكاره، إذ تنبه على صوت الناقوس يدعو النصارى إلى صلاتهم، فيدخل الكنيسة على إله النصارى وهو إله أيضا أن يحل ما تعقد في رأسه من أفكار. فيرى في الكنيسة (لوترك) راكعاً يصلي، فيهم بالخروج وإذا به يفاجئ إدماء داخلة تصلي أيضاً، فيظن هو إنها آتية للقاء لوترك، ولكنها تنفي عنه الظنة قائلة (أنا أعلى من أن أغشك) ثم تشتكي له ما تلاقيه وتفهمه أنه بتنصره يبرئها من سقامها وآلامها، فيخرج ابن حامد من الكنيسة وهو مصمم على أن يتنصر في الصباح.
وفي المساء سار إلى دون كارلوس فوجده قد سبقه إلى بيت لوترك، فسار إليه هناك فوجد أن لوترك يقيم حفلا في هذا المساء، وبدأ القوم يغنون بمفاخر قومهم كعادتهم في حفلاتهم، وغنى دون كارلوس فعرف ابن حامد من غنائه أنه أحد سلالة السيد الأسباني الذي جاء ينتقم من سلالته لأجداده بني سراج. وهنا كشف ابن حامد لهم عن حقيقته، فخيره دون كارلوس بين المبارزة وبين التنصر والتزوج بإدماء. وكان الخيار عليه صعباً، فحكم إدماء، فكان حكمها أن (عد إلى صحرائك)
ظلت إدماء بلا زواج طول حياتها تندب السراجي، وضم السراجي قبر لا زال معروفاً إلى الآن في المغرب بقبر آخر بني سراج
هذه خلاصة القصة ونلاحظ عليها ما يلي.
1 - إن القصة كلها لا أصل لها في التاريخ. ويقول صاحب مقال بني سراج في دائرة المعارف الإيطالية أن ليس لها من الحقيقة سوى الاسم، بنى سراج.
2 - إن الفكرة الدينية كانت عنصرا هاما في الموضوع، وهي دائما عنصر هام في روايات شانو بريان حتى قصته التي رفعته إلى أوج الشهرة وهيمبنية على الفكرة الدينية.
3 - تعد القصة من مؤلفات شاتو بريان الثانوية، قلما يقرؤها إلا من كان معنيا بشؤون الشرق والشرقيين. ولكنها برغم هذا من القصص التي تترك في نفس القارئ أثرا بينا، لا من حوادثها فقط ولا من شهامة إبطالها فحسب، ولكن من هذا كله ومن الوصف الدقيق الذي تمتاز به.
4 - أبطال القصة مرتفعون بشهامتهم وشرفهم ارتفاعا لا يقربهم إلى نفس القارئ، ومما ساعد على بعدهم عن قلب القارئ قلة التحليل النفساني الذي يصل بالقارئ إلى معرفة هؤلاء الأبطال معرفة تقربهم منه، وهو وان كان قد عمد إليه في بعض الأحيان فلا انه لم يوفق فيه. فشخصية ابن حامد وهي أهم شخصية في القصة لا تجد لها تحليلا كافيا ولا تتبينها إلا إذا أسبغت عليها الكثير من خيالك الخاص.
5 - والمحادثات التي تجري في القصة متكلفة بشكل غريب، وكان أبطالها كلهم ينشئون رسائل أو ينمقون مقالات، وكان لكل هذا أثره البين في إلباس هذه الشخصيات لباساً غامضاً لا يتنوع بتنوع الأشخاص.
6 - كان المؤلف في قصته وصافاً اكثر منه مؤلفاً قصصياً، والظاهر أن موضوع القصة وأشخاصها لم يهم المؤلف قدر ما أهمه وصف الحمراء وما جاورها.
الترجمة لشكيب أرسلان
ترجم القصة الفرنسية الكاتب المعروف شكيب أرسلان، ولكن الترجمة حرفية، وقد أخلت حرفيّها بكثير من معانيها، وجعلت لها صبغة غريبة لغرابة تراكيبها وتعابيرها. ولو عمدت إلى نقل المواضع التي أفسدتها الترجمة الحرفية لاكترث وأمللت
وقد خلى المترجم ترجمته بأبيات شعر كثيرة مقتبسة غير التي اضطر إلى نظمها ترجمة للأصل الفرنسي الشعري، وكانت هذه الأبيات المقتبسة مما ساعد كثيراً على عدم الانسجام في القصة، فهي وان كانت في نفس المعنى المساقة فيه، إلا ان بعدها عن روح القصة وجوهاً جعلها كالأنغام الناشزة في الموسيقى.
وأخيراً لم يكن للمترجم فضل في تلك الترجمة إلا نقل صورة مهما تكن حالها لقصة يجب ان يطلع عليها كل قارئ لتاريخ الأندلس، وأما فضله حقاً فهو في الذيل الذي أتبعه قصته وهو ما لا نتعرض له.
سهير القلماوي