انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 450/الهجرة والأخلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 450/الهجرة والأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1942



للأستاذ محمد يوسف موسى

الهجرة من الناحية التاريخية حادث من أبرز الحوادث في تاريخ الإسلام إذ كانت فاتحة مجده، ومقدمة علو كلمته على الشرك والمشركين. بها أعز الله الإسلام، وصار المسلمون بعد أن كانوا يستخفون من قلته، ويتسللون لواذاً للمدينة فارين بدينهم وأنفسهم، أقوياء بعد ضعف، فيهاجمون قريشاً ومن حالفها، وقد كانوا لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم عدوان المشركين وجبروتهم. لا جرم أن أفاض المؤرخون والكتاب في هذا الحادث؛ يصفونه، ويقصون ما كان من أمره في بدئه ونهايته.

لكن للهجرة نواحيها الأخرى التي لا تقل عن الناحية التاريخية خطراً، والتي يجب فيما أرى أن نتذكرها ففي هذا عظة وخير. من هذه النواحي الناحية التي تتصل بالأخلاق.

كلما تذكرنا هجرة النبي من مكة مثابة قومه إلى المدينة مستقر أنصاره، نتمثل المبدأ القويم واعتزاز صاحبه به، ومحافظته عليه، ولو وقف الموت في سبيله أو عرضت عليه الدنيا بأسرها، كما نتمثل التضحية في سبيل المبدأ بالمال والولد وسائر ما تحرص عليه فطرة الإنسان وطبيعته. لقد صدع الرسول الشجاع بما أمر به، فلقي قومه من ذلك عظيماً، ورأوا فيه تسفيهاً لأحلامهم، وسباً لآلهتهم، واستهانة بما كان أسلافهم عليه من عقائد موروثة ودين مقدس عزيز. هبت قريش تتلمس السبل للتخلص من هذا الذي أقض عليهم مضاجعهم، وكان لهم في هذا محاولات عدة، باءوا من جميعها بالفشل؛ ومنها ما عرضوه من أن يُملِّكوه عليهم، فيكون الملك المطاع، وهم الرعية الخاضعة. رفض الرسول إذاً كل ما تقدمت به قريش؛ إذ وجد في ذلك ما يحول دونه ودون ما أخذ نفسه به من الجهر بالدين حتى ينال النصر، وتكون كلمة الله هي العليا. وفي ذلك موضع الذكرى والعظة!

ورأت قريش مع هذا أن تعالج الأمر من ناحية أخرى بالقوة العارمة والعذاب الشديد للمستضعفين من المسلمين تريد فتنتهم وردهم للكفر وقد نجاهم الله منه. لكن هؤلاء قابلوا الفتنة بالصبر والتضحية قبل الهجرة وحين شرعوا فيها. كان أول من هاجر إلى المدينة - فيما يروى ابن إسحاق - أبو سلمة عبد الله. فلما أجمع الخروج فرقت قريش بينه وبين زوجه وأبنه، فطاب عنهما نفساً وبقيا بمكة ولم يلحقا به إلا بعد سنة أو قريباً منها. وصهيب بن سنان يروي ابن هشام حديثه لما أزمع الهجرة فيقول: إنه لما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك. والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فلما بلغ ذلك رسول الله قال: ربح صهيب، ربح صهيب.

هكذا كان ثبات النبي وصحبه على المبدأ وتضحيتهم في سبيله بالنفس والنفيس وصبرهم على الأذى. أما نحن فإن الواحد منا يرى وجهاً من وجوه الإصلاح ويعتقد أن في الدعوة إليه ونشره وأخذ الناس به الخير كل الخير لأمته؛ ثم يعد العدة للتبشير به مؤكداً لنفسه ولمن يحيط به أنه جاد فيما يرى، صادق فيما يقول، قائم بالدعوة مهما لقي في سبيلها، باذل في ذلك من وقته وماله ونفسه. وما هو إلا أن يلتف فريق من الناس حوله وإلا أن يلوّح له بعض ذوي الجاه والسلطان بسيف المعز وذهبه حتى ينكشف ويتضاءل فيعود مَسخاً ليس له من الرجولة إلا الإسم؛ وليس له من ماضيه وما كان أعتزم وقدر وقرر إلا الذكريات التي تتراءى له صوراً وأشباحاً تألم لها نفسه إن كان لم يفقد ضميره بعد، أو لا يأبه لها ولا يباليها؛ بل ويسخر منها إن كان فقد مع رجولته الضمير الحر الحساس أيضاً!

هل نحن في حاجة لضرب الأمثال لهذا الداء الذي شرى فما أظن أن من السهل أن نطب له ونبرأ منه، أعني داء عدم الاعتداء بالمبدأ والتمسك به، مهما قامت العقبات وتعقدت الأمور ما دام في التمسك به خير وصلاح الأمة. المثل لهذا كثيرة؛ نجدها في الميدان السياسي، ونجدها في الميدان الاجتماعي، ونجدها في الميدان الاقتصادي؛ وأخيراً نجدها في الميدان الديني. لنلق نظرة على ما صدر من الصحف في هذه السنوات الأخيرة نجدها ملأا بالدعوات الحارة لمبادئ مختلفة رأى الدعاة إليها خيراً كثيراً في تحققها، وربما ألفت لجان لبعضها تفحصها وتشير إلى وسائل جعلها حقائق فعلية بدل أن تظل أماني تجيش بها الصدور وتلج بها الألسنة. ولكن ما هي إلا أيام أو شهور ونرى الدعاة قد استوعروا الطريق واستطالوا الشقة، أو رأوا فيما يدعون إليه ما ينفر رئيساً أو ذا جاه، في ترك ما حسبوه جرى منهم مجرى الدم من مبدأ أو فكرة ما يقربهم زلفى إلى هذا الرئيس أو ذي الجاه؛ حينئذ ينقلب الواحد من هؤلاء على عقبيه، وينكر ماضيه ويترك مبدأه ويعيش متمتعاً بما نال من حظوة وكسب من صيت وشهرة باعتباره رجلاً من رجال الإصلاح!

إن كنت مبالغاً في هذا الذي أقول فلنتذكر أن لنا بالقاهرة وحدها عشرات من الجمعيات الدينية والاجتماعية ولكل منها مبادئ قامت بها فيما تزعم عليها. وأنه ما من واحدة من هذه الجمعيات أخلصت أو تخلص لمبادئها وجدت أو تجد في الدعوة إليها أو تحقيقها! هل ربت جماعات الكشافة التي تزخر بها المدارس تلميذاً واحداً على الصدق في القول والاستقلال في الرأي والاكتفاء بالنفس، ومعاونة الغير، ونحو هذا من مبادئ الكشف والكشافة؟ هل أفلحت جمعيات المسلمين في جعل فريق من الناس ولو من أعضاءها مسلمين حقاً يعرفون - ويعلمون بما يعرفون - أن الصدق في المعاملة من الدين، وأن اعتبار المؤمنين جميعاً اخوة أساس الدين، وأن كراهة الظلم والظالمين مما يحتمه الدين ويدعو إلى أن يظهر بطريقة عملية تردع هؤلاء الظالمين؟ هل أخذ أعضاء هذه الجمعيات الدينية - التي تدعو للحشمة والصون والعفاف، وتحارب فيما تزعم التبرج والخروج عن الدين - أهلهم وأولادهم جميعاً بحدود الدين وألزموهم سننه وشرائعه؟ معاذ الله أن يفعلوا هذا وأن يلتزموا المبادئ التي يدعو إليها وأن يكون لهم في ثبات النبي وأصحابه الصادقين على المبدأ الحق عظة وذكرى!

إذا تركتا هذا النحو من القول، وانعطفنا ثانية لحادث الهجرة نجد فيه مجالاً لعظات أخر من الخير أن نشير إلى بعضها.

هاجر النبي وصاحبه الصديق إلى المدينة فماذا فعل؟ كان أول ما عمل أن آخى بين المهاجرين والأنصار ليكونوا يداً واحدة عل من عاداهم؛ وكان من هؤلاء الأنصار أن واسوا إخوانهم المهاجرين وشاطروهم ما يملكون، وآثروهم ولو كان بهم خصاصة، فكانوا بذلك مؤمنين حقاً؛ حسن إيمانهم، وخلصت قلوبهم، ورأوا من الكذب والزور أن يزعم الواحد منهم أنه أخ لمن يشركه في الدين ثم يستأثر بما أنعم الله عليه به، ويزوي عنه حقه فيه؛ ويحتجن دونه نصيبه منه

أما نحن فنلوك بألسنتنا أن المؤمن أخ المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه؛ ونقرأ كثيراً قول الله تعالى: (إنما المؤمنون اخوة)؛ وقول الرسول الحكيم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). نعلم هذا كله لا نؤدي الزكاة، ولا نواسي المحتاج؛ ولا نرحم البائس الفقير؛ ونزعم مع ذلك أننا مؤمنون حقاً؛ وأننا بمنجاة من سخط الله وعذابه لأننا قائمون له بما يجب! ناسين أو متناسين ما رواه عبد الله بن عمر إذ يقول: (أقبل علينا رسول الله فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا؛ ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المثونة وجور السلطان عليهم؛ ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا؛ ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم؛ وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل الله؛ ويتخيروا مما أنزل إليهم إلا جعل بأسهم بينهم)!

يميناً بالله أنني أرى أنا نستحق الآن أن يعمنا الله بعذاب من عنده، لولا ما فينا من شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع! لقد اجتمعت فينا هذه الخمس التي خافها الرسول على المؤمنين المهاجرين. فقد منعنا الزكاة والتمسنا لهذا الفتاوى الباطلة والتعلات الكاذبة! وظهرت الفاحشة فينا، بل جعلنا لها ولحمايتها اللوائح والقوانين! وفشا الغش والتدليس في المعاملة، وصار ذلك باباً من المهارة يطلب أن يحذقه التاجر والصانع ومن إليهما! واستعرنا ما تتحاكم إليه من قوانين من فرنسا وغير فرنسا نابذين كتاب الله وما جاء به من شرائع ظهرياً! وصار الغني لا يملك باساً في أن يسكن القصر ويملك الآلاف ويبيت يشكو البطنة والتخمة، وبجواره وحواليه المئات من إخوانه في الدين والوطن جياعاً معدمين! ومع هذا كله نزعم أننا بخير، وأن الدين لا يزال ثابت الدعائم مرعى السنن والآداب والأحكام!

بذلك الإهمال للدين، واطراح ما يأمر به الله من سنن وتشاريع، وبترك النصح للعامة والخاصة، صرنا في أمر مريج ولبس شديد، وصار المرام صعباً، والمطلب وعراً، والمسلك حزناً. ولو أننا اتعظنا بالحادثات وراعينا صالح الدين والوطن قبل كل شيء وائتمرنا بما يأمر به الله وانتهينا بنهيه، لسهل الأمر وسلس، وصار قريب التناول، سهل المقاد! بقيت كلمة أخيرة تخطر بالبال كلما انتهى العام وبدأ آخر: هي أنه كما يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رضوان الله عليه: ترى التجار يحاسب الواحد منهم نفسه في شهر أو عام ليعرف كسبه من خسرانه؛ فإن كان الأول حمد الله واستزاده منه، وإن كان الآخر بحث الأسباب ليتلافاها فلا يقع فيها مرة أخرى؛ إذا كان هذا عادة التجار، مع أن الخسارة أو الكسب لن يكون إلا شيئاً من حطام هذه الدنيا، فكيف يليق بالعاقل ألا يحاسب نفسه كل ليلة ساعة يأوي لفراشه على ما عمل سحابة نهاره!

لست أطمع في الوفاء بما يطلب الغزالي من حساب المرء نفسه كل ليلة، وغاية الذي أرجو أن يكون الحساب آخر كل عام؛ حتى نستقبل العام الجديد بنفوس راضية تائبة عازمة على أن تكون فيه خيراً منها في العام الذي انتهى. هدانا الله إلى الصراط المستقيم؛ وجعلنا من الذين إن تقلد الواحد منهم عملاً سواه، وإن رأى ضالاً هداه، وإن آنس أوداً ثقفه. إنه المستعان

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين