مجلة الرسالة/العدد 450/الإسلام في أوله وحاضره
مجلة الرسالة/العدد 450/الإسلام في أوله وحاضره
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
أظهر ما توحي به الهجرة إلى النفس، ما كان عند الرسول ﷺ وعند أصحابه الأخيار من قوة العزيمة ورسوخ الإيمان، قوة ورسوخاً تغلباً على جميع ما لاقوه من شدائد ومصاعب
فقد احتمل الرسول ألوان الكيد وصنوف المشقات من أعدائه بعزيمة لا تعرف الكلل ولا التواني ولا الخنوع. وتحمل المسلمون الأولون معه مثل ذلك بعزائم مقتبسة من عزيمته، حتى كان الواحد منهم يمشط بأمشاط الحديد فلا يصرفه ذاك عن قصده ولا يلويه عن عقيدته. تحملوا هذا الضيم وهم أباته في سبيل نشر الدعوة التي تفتحت لها قلوبهم فاعتنقوها وأخلصوا إليها. وما زالت المتاعب وضروب الإيذاء تغالب عزائمهم تبتغي وهنها والحد من نشاطها، حتى صرعتها هذه العزائم في جلد وصبر واستهزاء، فإذا دين الله ينتشر عزيزاً في بقاع المعمورة، وعلمه يرفرف على أمم وممالك لم تكن للعرب بها صلة قبل ذلك. ثم كانت تلك الفتوحات العظيمة أثراً من آثار رسوخ عقيدة الأولين وإيمانهم بفكرتهم وتفانيهم في الدفاع عنها والعمل على نفوذ سلطانها
إن الحوادث التاريخية منذ القديم إلى اليوم تدل دلالة واضحة أنه على قدر إيمان الدعاة والأتباع بفكرتهم ويقينهم بها يكون عملهم لرفعتها ونجاحهم في نشرها وتحقيق سيادتها. كذلك نشاهد أن الأمم الحديثة التي تؤمن بفكرة اقتصادية واجتماعية وتعتقدها وتفنى فيها تحاول جاهدة بسطها على الناس بالدعاية والإقناع تارة، وبالسيف والنار أخرى. وما التطاحن الحالي إلا مظهر من مظاهر ذلك
على هذا النحو كان المسلمون الأولون في إيمانهم بفكرتهم وعملهم لها. وليس من شك أن للإيمان بالفكرة والانسياب في كل ما ينهض بها وجعلها الشغل الشاغل لصاحبها أثراً جليلاً في قبول دعوتها وتوجه الناس إليها وتفكيرهم في أمرها
إن الشعوب الأجنبية تنظر إلى الإسلام في أشخاص أصحابه وأعمالهم وأوصافهم، وقديماً كانت الأفراد والشعوب تنظر إلى المبادئ والفكر في تصرفات أصحابها وأحوالهم. وما زلنا نحن نحكم على الأحزاب والجماعات هذا الحكم؛ لأن ذلك أول مظهر ينجلي فيه الإخلاص للفكرة والاقتناع بها والإعلان عنها. ومن ثم كان من يحاول انتزاع صفات الإسلام والوقوف على مبادئه وغاياته من أعمال شيعته الأولين وتصرفات أحوالهم ومظاهر حياتهم بنتائج تصرفه إلى الاعتراف بصلاحه وتجعله دائم التفكير في الركون إليه.
أما اليوم فمن يحاول انتزاع هذه الصفات والمبادئ من مظاهر أحوال معتنقيه في كافة الشعوب التي تتغنى بأن دينها الإسلام، فإنه يظفر بما لا يجعله شديد الرغبة في هذا الدين ولا كثير التفكير فيه؛ لأن مسلمي اليوم - لا فرق بين جمهورهم وسادتهم - في ضعف واستكانة وذلة؛ وتحلل من جميع الصفات التي ساد بها السابقون وعليها ارتقت دولتهم وعظم سلطانهم.
وهذه المظاهر لا تدل على ضعف في المبادئ ذاتها. لأن هذه المبادئ هي التي نهضت بالسابقين نهضة ما يزال التاريخ يزهي بها؛ وإنما تدل على ضعف في إيمان أصحابها اليوم. ونقص في إخلاصهم للفكرة وانصرافهم إليها. وإن تعجب فعجب أنهم ما يزالون يسمون أنفسهم مسلمين.
ليت شعري متى كان الإسلام كلاماً ودعاوى، ومتى نهضت المبادئ مع تحلل أصحابها عنها وتركها وراءهم ظهرياً! إن الذي يتوهم أن المبادئ تعلو مع خذلان أصحابها لها، وتنتصر مع انصرافهم عنها، وتنهض وهم يعوقون حركتها؛ إن الذي يتوهم ذلك يجري وراء شيء أبعد من الخيال. والرأي عندي لهذا أن الخلاف بين الكلاميين في التفرقة بين الإيمان والإسلام يرجع إلى أمر جدلي أكثر مما يرجع إلى الحقيقة
هناك فرق بين الإيمان بالفكرة والتسليم بها. الإيمان بالفكرة يستلزم التفاني في خدمتها والنهوض بها. ويتبعه جهاد عنيف شاق وعمل دائب متصل لأجل سيادتها وذيوعها وبسط سلطانها؛ ولأن هذه الرغبة تحدو المؤمن بفكرته يحاول جهده أن يقف عند تعاليمها وتأثر خطاها ويترسم حدودها، ويبتعد عن كل مظهر يخالقها أو تلمح فيها مدافعتها. أما التسليم بالفكرة فيكتفي صاحبه باستحسانها وعدم معارضتها دون أن يتبع ذلك عملاً حاسماً في سبيل نصرتها ورفعة شأنها؛ وسواء لديه بعد ذلك أنهضت الفكرة أم ماتت؛ لأنه لم يؤمن بها ولم يخلص إليها ولم يأبه لرواجها
وإذا أردنا استخلاص شيء من ذلك خلص لنا أن المسلمين اليوم ضعاف الإيمان؛ لأن مظاهر قوة الإيمان غير متحققة فيما بينهم ولا جلية في أعمالهم وأوصافهم؛ وكل ما يبدو من تصرفاتهم عنوان هذا الضعف ودليله
لهذا كله نراهم محتاجين إلى قيادة وتوجيه حتى يتزايد عندهم الإيمان ويتولد الشعور بقوته وكماله فينصرفوا كما انصرف السابقون يثبتون دعائمه ويبسطون سلطانه
وموقف القيادة والتوجيه لذلك يتطلب من صاحبه أن يكون مثلاً أعلى فيما يدعو إليه؛ مؤمناً بفكرته، مخلصاً لها، حريصاً على نجاحها؛ لا يبدو عليه في قول ولا عمل ما يشعر بعدوله عنها أو ضعف يقينه فيها. فإذا وجد ذلك القائد اقبل الناس عليه واستجابوا دعوته
إن مصر فيما يرى الناس زعيمة الشرق الإسلامي، فمن حقها إذن أن تكون القائد الموجه له في ذلك. فهل تستطيع أن تعمل بحرارة وإخلاص لفكرة سيادة الإسلام وسيطرته؟ وهل تستطيع النهوض بهذا العبء الشاق وتقوى على تكاليفه وتبعاته؟
إنها لتستطيع ذلك وتقدر عليه عن طريق الأزهر ورجاله، أزهر الشباب المملوء توثباً وأملاً وقوة، (أزهر القرن الرابع عشر - كما يسميه الأستاذ الزيات - الذي يضع لثقافة الشعب أساساً من الدين، ويقيم عليه من القواعد والنظم والأوضاع ما يقره العقل ويتقبله العصر وتقتضيه الحاجة)؛ الأزهر الذي يتفانى في سبيل ذلك ويكافح وينافح ويلجئ بسلطانه الروحي رجال الحكم وذوي الرياسات على تنفيذ ما رسم والإيمان بما آمن، لا يعرف من أجل هذه الغاية النبيلة هوادة ولا انتظاراً ولا مجاملة؛ الأزهر المخلص الذي يراه الشعب كذلك فيكون حليفه وناصره، ينقاد لأمره ويعمل برأيه ويسير بخطواته؛ الأزهر الذي يقتفى بحق اثر صاحب الهجرة، فيؤمن إيمانه، ويكافح كفاحه، ويثق في الله ونصره وثوقه، ويعتمد عليه اعتماده
يقول الأستاذ الأكبر: (كانت الهجرة حداً فاصلاً بين الذلة والعزة وبين الضعف والقوة)؛ فهل يعيد التاريخ نفسه فتكون ذكرى الهجرة اليوم حداً فاصلاً بين ذلة الحاضر وعزة المستقبل، وبين ضعف اليوم وقوة الغد؟ وهل تكون رمزاً لانتصار حق الدين على باطل المدنية الكاذبة الخداعة، فينخلع المسلمون عامة مما هم فيه من مجائبة لنظم الإسلام وتعاليمه وإرشاداته، ويعودوا إلى الحنيفية البيضاء يترسمون خططها ويتبعون هداها وينزلون على أحكامها؟ وهل يقف الأزهر من المسلمين اليوم موقف القائد الجريء الواثق من النصر، المؤمن بمبدئه الراسخ العقيدة فيه؟ وهل تتجه نظمه ودراساته إلى ما يخلق في نفوس أبنائه الإيمان بالفكرة والعمل على إنجاحها وسيادتها؟ وهل يتفانى أهله في سبيل سيطرتها ونصرتها وتغلغلها في صدور الناس فلا يرى من أحوالهم وتصرفاتهم إلا ما ينميها ويحسن الإعلان عنها ويفسح الطريق أمامها؟
ذلك أمل عسى أن يتحقق قريباً
ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة