مجلة الرسالة/العدد 449/شروط الاجتهاد في الفقه الإسلامي
مجلة الرسالة/العدد 449/شروط الاجتهاد في الفقه الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
كان الفقهاء الأولون من المسلمين مثلاً عليا في النشاط العلمي، والتفكير العقلي، والجرأة على الدراسة والشجاعة في مواجهة الحقائق. درسوا كتاب الله وسنة رسوله، وفهموا مقاصد الشريعة، وأدركوا أسرارها، وعرفوا أحوال عصرهم، وعادات قومهم، واجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، ولم يقصروا في ناحية من نواحي النظر، حتى ملئوا طباق الأرض علماً، ووسعوا دائرة الفقه، وجعلوا من مباحثه صوراً تمثل حياة الناس في عصورهم تمام التمثيل، ونشروا علمه الخفاق على دور الحكم والولاية والقضاء، ومراكز الإدارة والسياسة ودوائر الأموال والأعمال!
ثم دار الزمان دورته، وجاءت من بعد ذلك عهود ركدت فيها ريح الفقه، وغلقت أبواب الاجتهاد، وأصبح الفقهاء رواة لمن كانوا قبلهم يرددون أقوالهم، ويشرحون عباراتهم، ويدرسون ألفاظهم، ويتعصبون لمذاهبهم، وابتعدوا بالفقه عن الحياة الواقعية، واحتفظوا منه بصور أثرية تتحدث عن عصور منقرضة وتصف أحوالاً مندثرة؛ وكان من آثار ذلك نفور أهل الحكم والسلطان منه لشعورهم بأنه على صورته التي صار إليها لا يلبي حاجات الأمم، ولا يصلح عيوبها، ولا يحل مشاكلها. وكان من آثار ذلك أيضاً أن انقطعت الصلة بين أهله وبين المجتمع، إذ أصبحوا غرباء عنه، يعيشون في واد غير واديه، ويدرسون أحوالاً غير أحواله. ثم كان من آثار ذلك أن دخلت التشريعات الأجنبية على بلاد المسلمين؛ فأصبحت دستور الحكم، وأساس الإدارة، وقانون القضاء، وعماد النظام في كل ناحية من نواحي الأعمال!
هكذا كان الفقه وهكذا صار!
كثيراً ما أسأل نفسي: هل كان الفقهاء الأولون طرازاً غير طراز سائر الناس؟ هل منحهم الله ما لم يمنحه أحداً من بعدهم، فآتاهم من العقل ما لم يؤت العقلاء، رزقهم من صحة الفهم وقوة الإدراك ما لا ينبغي لأحد بعدهم من ذوي الفهم والإدراك؟ هل فتحت كنوز العلم والمعرفة والنظر عنصراً من الزمان ثم غلقت أبوابها وأحكم رتاجها فلن تفتح بعد ذلك لأحد من العالمين؟ إني أحب هؤلاء الفقهاء وأجلهم ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أجيب عن هذه الأسئلة (بنعم) لأن فضل الله أوسع من أن يقصر على زمان دون زمان، أو يختص بقوم دون آخرين
لا أستطيع أن أجيب (بنعم) لأن كتاب الله خالد، والخطاب به عام لجميع الناس سواء منهم المتقدمون والمتأخرون: كلهم مطالبون بأن يتدبروه ويعقلوا هدايته، ويدركوا أسراره، ويلقنوا منه حجة الله على عباده، وينتفعوا به في دينهم ودنياهم. ولو جاز أن تقف العقول البشرية عن متابعة هداية الله، وعن تدبر كلمات الله، لما قامت حجة الله على المتأخرين من الناس كما قامت على المتقدمين منهم، ولما كان هنالك فائدة علمية في أن يضمن الله الحفظ والخلود لكتابه الكريم!
إذن فما بالنا قد حرمنا أنفسنا هذا المتاع العقلي، وهذه اللذة الفكرية فلم ننظر نظروا، ولم نجتهد كما اجتهدوا؟ بل لماذا رضينا أن نكون صدى لهم في كل شيء حتى لنستشيرهم ولا نستشير عقولنا في أحوال شهدناها وغابوا عنها، ورأيناها رأى العين وتوهموها؟!
(شروط الاجتهاد) هي التي قضت علينا بذلك! نعم شروط الاجتهاد التي تصورها أهل العلم من المتأخرين شيئاً هائلاً رهيباً، وأسرفوا في تقييد أنفسهم وتقييد الناس بها، وأقاموا منها حجاباً بين العقول وما أوسع الله لها من مدى في التأمل والتفكير!
أبى المتأخرون إلا أن يجعلوا للاجتهاد شروطاً، ثم زعموا للناس أن هذه الشروط صعبة لا يستطيعها أحد، كثيرة متشعبة لا تكاد تجتمع لأحد، فأغلقوا باب الاجتهاد، وأوجبوا على الناس أن يقلدوا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى أوجبوا عليهم تقليد فقهاء معينين، يتعصبون لهم، ويزعمون أنهم أولى بالاتباع من غيرهم، ولكن أقوالهم اضطربت في ذلك اضطراباً يثير الظنون، ويغري بالتهم: فقالت طائفة منهم: لا يجوز لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر. وقالت طائفة أخرى: لا اختيار بعد الأوزاعي وسفيان. وقال قوم: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة. ولما اشتهرت المذاهب الأربعة المعروفة وكان لها أتباع ومتعصبون يخشى بعضهم كيد بعض، اصطلحوا فيما بينهم على أنه لا يجوز تقليد أحد سوى هؤلاء الأئمة، فجعلوا لحكمهم أثراً رجعياً ينسحب على جميع الفقهاء الذين اجتهدوا، فلم يعد لأحد أن يأخذ بقول الليث أو سفيان أو غيرهما من أصحاب المذاهب التي لم ترزق من الجد وحسن الطالع ما رزقته هذه المذاهب المعروفة، فانقرضت ولم يبق لها أنصار يدافعون عنها، ويدعون إليها
فعلوا ذلك كله، وألقوه في روع العامة كأنه عقيدة من العقائد، وشغبوا به على أصحاب العقول الراجحة، والأفكار الحرة، وأعلنوا عليهم حرباً طاحنة، جيوشها العامة والدهماء، وأسلحتها التفكير والرمي بالزندقة والخروج على إجماع الأمة، والطعن في الأئمة الذين ارتضاهم المسلمون. . . الخ، ثم عكفوا على كتب بخصوصها لا يعرفون غيرها، ولا يعتمدون على سواها، ولا يتلقون شريعة إلا منها، ذلك بأنها ألفت على هذه الشريطة في عصور التأخر الفقهي، وزعموا أن الدنيا خلت ممن يستطيع أن يخرج على هذه الكتب، أو يتكلم في العلم دون أن يعتمد عليها، بل حرموا على الناس أن ينظروا في كتاب الله أو في سنة رسوله نظر العلماء المستنبطين، وأوجبوا على العالم ألا يقضي ولا يفتي بشيء منهما حتى يعرضه على ما تنقله هذه الكتب من أقوال مذاهبهم، فإن وافقها جاز الحكم به، وإلا وجب رده وعدم قبوله!
تلك آثار بعيدة المدى، لا يزال الفقه الإسلامي يعانيها ويحمل أصرها وأغلالها، ويتعثر في أشواكها وعقابها، وهو الفقه الذي ورثناه عن الرسول ﷺ، وعن أصحابه من بعده، وعن الأئمة المهتدين، قوياً لا يعرف الضعف، ناشطاً لا يعرف الجمود، واسعاً لا يضيق صدراً بالنوازل والأحداث!
شروط؟ ومتى كان للاجتهاد شروط؟ هل ذكرت في كتاب الله أو في سنة رسوله؟ هل كان الصحابة الذين اجتهدوا واختلفوا وتعددت آراؤهم يعرفونها؟ وهل روي عن رسول الله ﷺ أنه كان ينهاهم عن الاجتهاد أو يشترط له شروطاً خاصة؟
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم علماً وفهماً وإدراكاً لأسرار التشريع يجتهدون ويختلفون فيما بينهم؛ وربما انفرد الواحد منهم بالرأي لا يراه غيره، ولقد وجد من بعدهم عشرات بل مئات من المجتهدين، وكانت لهم حرية فكرية واسعة المدى، فأين في هذا كله خبر تلك الشروط وأين حسها؟ وهل زعم أحد أنهم أعدوا أنفسهم أولاً لنيل شروط معينة، وأشهدوا الناس على أنهم حصلوها ثم أخذوا بعد ذلك ينظرون؟ كلا فليس الاجتهاد منصباً تمنحه الأمة وتمنعه، إنما هو مرتبة علمية يشعر بها العالم من نفسه، وليس كل أحد يدعي ذلك ولم نسمع أن أحداً من أهل العلم قد التمسه أو أقدم عليه دون أن تكون له أداته الطبيعية؛ وليس الناس ملزمين برأي من الآراء كأنه فريضة محكمة، وإنما هو العلم أساسه الحجة والبرهان. ولو اتفق الناس على أن رجلاً منهم صار من أهل الاجتهاد لما أعفاه ذلك من تمحيص العقول لآرائه، والتثبت من حجته. ولو أنكر الناس على رجل منهم هذه المنزلة لما أعفاهم ذلك من الخضوع لرأيه حين تكون الحجة إلى جانبه
فليس الأمر إذن أمر شروط تشترط، وإنما هو العلم يجب أن تسمع كلمته من أي فم كان، وأن تفهم وتقبل إذا كانت حقاً، وأن ترفض وترد إذا كانت باطلاً، والحق أحق أنت يتبع!
ولكن، لندع هذا كله جانباً، ولننظر في نفس الشروط كما يصورها الذين خوفوا الناس بها، وحجروا على العقول من أجلها!
تصفح ما شئت من كتب الأصول التي وضعها المتأخرون، واقرأ ما شئت من هذه الشروط، تجده يبدو لك أول الأمر عسيراً لا يستطاع تحقيقه؛ فإذا راجعت فيه الشروح والحواشي والتقريرات، وجدت الأمر على خلاف ما بدا لك، ووجدته شرطاً هيناً سهل الحصول
قالوا: أول شروط الاجتهاد أن يكون المرء عالماً بكتاب الله وسنة رسوله؛ ثم جعلوا يضخمون هذا الشرط، فحكوا لنا خلاف العلماء فينا يجب علمه من السنة؛ فقالوا: ألفان، وقالوا: عشرة آلاف؛ حتى زعم بعضهم أنه سأل أحمد ابن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا؛ قال: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أربعمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أيكفيه خمسمائة ألف؟ قال: أرجو!
لا تخف - أيها القارئ - ولا تستصعب الأمر، فأن شارح التحرير يقول: (أن ذلك محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا)؛ وإن الغزالي يقول: (لا يشترط معرفة جميع ما في الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام. . . ولا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل يكون عالماً بمواضعها بحيث يطلب منها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، ولا يلزم حفظ السنة عن ظهر قلبه، بل يكون عنده اصل محقق لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام. ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة).
فانظر كيف بدأ هذا الشرط عسيراً هائلاً، ثم عاد خفيفاً هيناً! وقالوا: لا بد أن يكون قادراً على التمييز بين الصحاح والحسان والضعاف من الأحاديث، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد هذه الأوصاف؛
والشوكاني يعلق على هذا الشرط فيقول: (وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجل عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال)؛ وكذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: (مع العلم بحال الرواة، ولو بالنقل عن أئمة الشأن).
وقالوا لابد أن يكون عالماً بمسائل الإجماع، وبالناسخ والمنسوخ. ويقيد الشوكاني هذا الشرط بقوله: (إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي)
ويقول الغزالي (وليس معنى ذلك أنه يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل في كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفاً للإجماع. إما بأن يعلم أنه موافق مذهباً من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض)
أما الناسخ والمنسوخ فهذه كتب التفسير والحديث تعد بالمئات وقد تكفلت بيان مواضع النسخ بياناً شافياً. على أن جهابذة العلماء لا يرون القول بنسخ شيء من الكتاب الكريم
شرطوا بعد ذلك أن يكون المرء عالماً بلسان العرب وعلم أصول الفقه، ثم قالوا إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته وخاصة ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه الخ
الأمر في ذلك يسير وإن بدا متعسراً. فعندنا من العلماء من يعرف لسان العرب كما يعرفه العرب أنفسهم، زمن فاق الأولين بصراً بعلم أصول الفقه وقدرة على التصرف فيه، وبين أيدينا جميع مؤلفات العلماء في ذلك وفي قدرتنا أن نستخرج منها ما نريد، وقد قربوها كما يقول الشوكاني أحسن تقريب!
هذه هي شروط الاجتهاد كما يراها المتأخرون، وهي شروط في المجتهد المطلق الذي ينظر ويستدل ويسستنبط في جميع أبواب الفقه، فأما الذي ينظر في باب دون باب، أو في مسألة دون مسألة، فالأمر فيه أيسر، وقد أجازوا له ذلك دون أن يشترطوا فيه إلا (أن يكون على بصيرة فيما يفتي)
فأي شيء في هذه الشروط يصعب تحقيقه؟ وكيف يقال ذلك في عصر العلم والمراجع والمكتبات والفهارس والمذياع وجمعيات؛ المراسلات والمؤتمرات العلمية والصحف والمجلات والدراسات المنظمة، وهو لم يقل في عصور كانت العلوم فيها ناشئة، وكان العلماء فيها يرحلون للحديث الواحد من بلاد إلى بلاد!
أما بعد فقد أتى على الناس حين من الدهر كان التدين فيه هو طابع الحياة، وكانت مظاهر الورع والتقوى والصلاح تستطيع أن تغطي القصور والضعف وقلة الإنتاج
أما اليوم فإننا في زمان هجمت علينا فيه الثقافات من كل جانب، وأصبح الناس بحاجة إلى التوسع في العلوم، وتلبية مطالب الحياة؛ وأصبح النضج الفكري عنوان التقدم ووسيلة الاحترام
فإذا التمس العلماء أن يعيشوا في العصر الحديث بما كانوا يعيشون به في العصر الحديث بما كانوا يعيشون به في العصر القديم فقد التمسوا المحال
(القاهرة)
محمد محمد المدني
المدرس في كلية الشريعة