مجلة الرسالة/العدد 442/بحث مقارن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 442/بحث مقارن

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1941



الوضع الاجتماعي للمرأة في الإسلام

للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر

مقدمة

لم يتسع نطاق الحديث عن المرأة في عصر من العصور بقدر أتساعه في العصر الحاضر الذي يمكن أن يسمى بحق (عصر المرأة). ففي كل زاوية من زوايا المعمورة نشمُّ رائحة المرأة: شخصاً، أو موضوعاً، أو عاطفة، أو هدفاً. وبالجملة هي تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الرجال وضمير المجتمع. وإذا كان كل شيء في ذاته قابلاً للمدح والذم فأن المرأة قد تفردت بالحصول على نهايتهما!

ولا عجب أن تحتل المرأة هذه المكانة العريضة، فإنها لم تعد محلاً لقضاء شهوة، أو سلعة تباع وتشتري، أو خادمة ذليلة، أو مواطناً لا حقوق له، أو حتى تمثالاً جميلاً يركع الرجل تحت قدميه؛ وإنما أصبحت الممثل اللاعب في حياة الرجل من وراء ستار، و (القالب) الفذ العميق الذي تتشكل فيه شخصية المجتمع، ويحمل أفراده ملامحه، وينطبع فيهم كل ما به من خير أو شر. ثم هي قبل كل شيء ما زالت - كما كانت منذ فجر البشرية - حجر الزاوية في الأسرة الإنسانية

ومن البدهي أن يعنى المفكر العصري بالكلام عن المرأة بعد إذ ظفرت بحقوق كثيرة، ووثبت هذه الوثبة الاجتماعية الكبيرة، وليبحث فيما إذا كانت قد جاوزت بذلك حدود طبيعتها، واعتدت على حقوق الرجل، وجنت في النهاية على نفسها وعلى غيرها أم لا؟ وأي الشرائع أهدى لها وأكثر اعتناء بها؟

ثم هل الشريعة الإسلامية قد حررتها وأعزتها وصانتها أم قضت بعبوديتها وأذلتها وابتذلتها!

المرأة في غير الشريعة الإسلامية

يروي لنا علماء الاجتماع أن الرجل، عند بدء الخليقة، كان يعيش عيشة الحيوان، يطوف في الأرض، ولا يعرف الأسرة بالمعنى الذي نفهمه. ويعتقدون أنه لم تكن له يومئذ أوضاع مرعية في اتصاله بالمرأة، وكان كل احتفاله بها منصباً على أن يقضي شهوته البهيمية منها ثم ينصرف عنها لا يلوى على شيء، وتظل هي وحدها حتى تضع حملها، وتسعى لتقوت بنيها الذين لا يعرفون لهم أباً، ولا يستشعرون الأبوة، ولكنهم ينسبون إليها، ومن ثم كانت - المرأة - تبني الأسرة بمفردها. ولم تكن لها في تلك المرحلة قِبلَ الرجل أو القبيل الذي تنتمي إليه أي نوع من أنواع الحقوق، بل كانت حياتها كلها واجبات!

وبعد ذلك استقر الرجل بعض الاستقرار، وبدأت (زعامة الأب بعد (زعامة الأم وفي هذا الدور احتكر الرجل المرأة التي جعلها من عبيده وسراريه

وإذا كانت المرأة آنئذ قد تخففت من بعض العبء الذي كان ملقى على كاهلها إلا أنها لم تكن أكثر من ظل للرجل.

فهؤلاء هم الأثينيون - أكثر الأمم القديمة حضارة - عاملوا المرأة معاملة سقط المتاع، تباع وتشترى في الأسواق، بل سموها رجساً من عمل الشيطان، وحرّموا عليها كل شيء سوى تدبير البيت وتربية الأطفال، وأباحوا للرجل التزوج بأي عدد من النساء. أما في إسبرطة، مع أن الرجل كان ممنوعاً من أن يتزوج بأكثر من واحدة إلا في أحوال قاهرة، فقد أبيح للمرأة أن تتزوج بأي عدد تشاء من الرجال!

وكانت المرأة عند اليهود تكره على الزواج والبغاء، وتورث ولا ترث، وكان محجوراً عليها التصرف في مالها الخاص.

وكانت بعض الشرائع تبيح للأب بيع ابنته، ولم تكن المرأة في القانون الروماني شيئاً يذكر، فهي قبل زواجها تحت سلطة أبيها، فإذا تزوجت دخلت في سلطة زوجها.

وكان العرب في الجاهلية يئدون بناتهم، وكان فيهم من يرى أنه لا قصاص ولا دية في قتل المرأة!

وقد قرر أحد المجاميع العلمية (كذا!) في روما أن المرأة حيوان نجس لا روح له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يكمم فمها كالكلب المسعور لمنعها من الضحك والكلام!!

وفي سنة 586 ميلادية عقدت بعض الولايات الفرنسية اجتماعاً عاماً، شهده الآلاف من الرجال الذين ظلوا ساعات طوالاً يبحثون فيما إذا كانت المرأة إنساناً أو غير إنسان؟! وبعد مناقشات جدية عنيفة أصدر المجتمعون بأغلبية الأصوات قراراً يمنح المرأة درجة (الإنسانية)، ولكنه يقضي فيما عدا هذا بأنها (لم تخلق إلا لخدمة الرجل)!!

ويذكر التاريخ أن أهم إنصاف نالته المرأة قبل ظهور الإسلام بنحو ربع قرن ما منحه إياها القانون الروماني، فإن هذا القانون قد ترك للعذراء والأرملة كل حريتهما ما دامتا بالغتين سن الرشد. أما المتزوجة فقد وضعها تحت سلطة زوجها المطلقة؛ فهي، بحسب هذا القانون أشبه ما تكون بالمحجور عليه أو القاصر من الناحية القانونية، ولزوجها السلطة الواسعة في مراقبة شئونها الشخصية، وهو حر التصرف في ملكها ومالها من دونها، وله أن يمنعها من الاجتماع بأي شخص لا يريد اجتماعها به، وأن يفض رسائلها الصادرة منها أو الواردة إليها!

(وكما أنه من جهة أخرى كانت الكنيسة في القرون الوسطى تعلم الأولاد أن الوحشية صفة التنين، وأن المكر صفة الأفعى، وأن المرأة قد جمعت بين الرذيلتين، وكان رينان الفيلسوف الفرنسي العظيم (1833 - 1892) يلاحظ أن الكنيسة رفعت المرأة إلى درجة جلب الخطيئة! ونرى مارتن لوثير المصلح الديني الألماني الكبير، ومؤسس المذهب البروتستنتي في النصرانية (1483 - 1546) قد كان نصيراً لمذهب القائلين بحرمان المرأة من الثقافة. ونرى أيضاً الملك هنري الثامن يصدر أمراً بتحريم مطالعة الكتاب المقدس على النساء وآخرين من طبقة منحطة! وقد كان النساء طبقاً للقانون الإنجليزي العام (حوالي سنة 1850) غير معدودات من (المواطنين)؛ وكان لذلك مباحاً لبعولهن أن يضربوهن بعصا لا يزيد حجمها على رأس الإبهام. كذلك لم يكن لهن حقوق شخصية، ولا حق ملكية في ملابسهن ولا في الأموال التي يكسبنها بعرق الجبين)!

وقد حدث، في عهد قريب، أن باع رجل إنجليزي زوجته لشخص كان يغازلها بخمسمائة جنيه بسبب فقره وعدم توافق طباعهما. ولما قدم الزوج المحاكمة قال محاميه للقاضي أن لا وجه لإقامة الدعوى لأن القانون الإنجليزي كان يبيح بيع الزوجات، بل لقد بلغ (سعر) الزوجة في سنة 1801 ستة بنسات (أي نحو 24 مليماً)!! ولكن القاضي لم يأخذ بدفاع المحامي اللبق، وقضى بالحكم على الزوج بخمس سنوات، ذاكراً في أسباب حكمه أن القانون الذي يشير إليه المحامي ويستند عليه قد ألغى في عام 1805 (أي بعد نزول القرآن، وإعلان حرية المرأة المسلمة بنحو أثنى عشر قرناً!!)

واليهود هم أول أمة سمحت أن يكون الزواج مبنياً على مجرد الاختيار الشخصي، وتقدمت عندهم حقوق المرأة بخطى كبيرة. وقد جاءت المسيحية من بعدهم فضاعفت هذه الحقوق، وحرمت تطليق المرأة إطلاقاً، ثم إباحته بشروط مخالفة بذلك شرعتها، بعد أن تبين لها أنه ضروري للرجل والمرأة معاً، وأعلنت استقلال المرأة بملكيتها كالإسلام! أما تعدد الزوجات فلم تسمح به

والشائع في أوربا اليوم هو الزواج المدني، والتحرر السريع من القيود الدينية المسيحية فيما يختص بالمرأة وعلاقتها بالرجل. فالطلاق مباح، والزواج العرفي معترف به وبآثاره وبما يترتب على عشرة السوء! وبالجملة قد تخلصت المرأة مما تقيدها به ديانتها، وساعدها الرجل على ذلك، وحصلت على حرية واسعة بلغت حد الإباحة، وعلى احترام كبير وصل إلى درجة التقديس، لا لأنها مخلوق ضعيف يستحق الرعاية والتنعم والصيانة، بل لأنها مخلوق لطيف، مؤنس، رشيق، يفوح منه عبير العطور، وينشر في مجالسه السحر المذاب الحلو، وأشياء أخرى تدل عليها الآثام العميقة التي كانت تسبح فيها أوربا قبل هذه الحرب، والفضائح التي كانت تزكم الأنوف!

المرأة في الشريعة الإسلامية

ظل الناس في بداوة الجاهلية الأولى ضاربين، وفي غمرة الشهوات الهمجية غارقين، وظلت المرأة تعاني مرارة الذل وقسوة الحيف والاستعباد حتى جاء (منقذ المرأة ومحررها)، محمد النبي العربي بكتاب سماوي يقول: (ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة)؛ فكانت هذه الآية الكريمة الوثيقة القانونية الأولى التي تعترف بإنسانية المرأة، وحريتها، وحقها في الحياة، ومساواتها للرجل مساواة نبيلة أبية لا فضل فيها لمخلوق. ولقد فصل الإسلام حقوق المرأة تفصيلاً دقيقاً بديعاً، وتغلغل في صميم حياتها حتى أنه عالج أصغر هواجسها، وأتفه شؤونها، وتناول أدق وأحرج أسرارها. فهو قد شمل حقوق المرأة بوصفها بنتاً وزوجاً وأماً وأختاً، وكذلك يوصفها عضواً في المجتمع الإنساني؛ وفيما يلي موجز ذلك:

2 - أوجب الإسلام للبنت النفقة شرعاً في حياة أبيها حتى تتزوج، وليس له أن يلزمها طلب الرزق كالابن. وإذا ما تزوجت ثم طلقت فعادت إلى بيت أبيها عادت نفقتها عليه بعد انتهاء مدة نفقتها الزوجية. وقد قررت الشريعة ذلك حماية للبنت من السقوط في حمأة الرذيلة إذا أمسك عنها أبوها أو ألزمها طلب الرزق

3 - جعل الإسلام رضا البنت عند بلوغها سن الرشد شرطاً لصحة العقد عليها. وليس لمخلوق كائن من كان يكرهها على الزواج بمن لا تريد. ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فقد كان إذا أراد أن يزوج امرأة يأتيها من وراء حجاب فيقول لها: (يا بنيَّة، إن فلاناً خطبك فإن كرهته فقولي (لا) فإنه لا يستحي أحد أن يقول (لا)، وإن أحببت فإن سكوتك إقرار). وهذا الحق الطبيعي الرائع الذي منحته المرأة المسلمة في القرن السابع للميلاد حُرمته المرأة الأوربية حتى القرن السادس عشر!

4 - وقد أراد الرسول (ص) أن يدفع الناس إلى الاعتناء ببناتهم بعد أن حرم الله وأدهن، وأعطاهن حق الحياة المقرر للرجل فقال: من كانت له بنت جعلها الله له ستراً من النار، ومن كانت عنده ابنتان ادخله الله الجنة بهما.

5 - وكان بعض الرجال يسيئون معاملة زوجاتهم، ويمتنع الزوج الكاره زوجته عن تطليقها حتى تفتدي نفسها بمهرها، فنزلت الآية الكريمة (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)؛ وقوله: (هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)؛ وقوله: (هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)؛ وجاء في أخبار الرسول أنه قال (ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حق. أما حقكم على نسائكم فأن لا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ولا يأتين بفاحشة، فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع)؛ وقال: (حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت)؛ وقال: (عليكم باللطف والرفق بنسائكم: لا تظلموهن، ولا تضيقوا عليهن، فأن الله تعالى يغضب للمرأة إذا ظلمت كما يغضب لليتيم). وفي ذلك كله تبين روح الآداب الزوجية التي يبثها الإسلام في تعاليمه، وينزلها الله تعالى على لسان نبيه الكريم، وفي تصرفاته، وقدوته لعشيرته، وبني قومه الذين حكموا الدنيا ودوخوا العالمين عندما كان الرجال يتقون الله في نسائهم، وكانت الأسرة الإسلامية منبع سرور وشهامة وإن من آداب الإسلام العائلية لما يذهب إلى أبعد من هذه الحدود، فقد روى أنه جاءت إلى عمر بن الخطاب امرأة قالت: إن زوجي يقوم الليل ويصوم النهار. فقال لها عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك! فقال كعب بن سوار الجالس بجواره: بل لقد شكته! تزعم أن ليس لها من وقت زوجها نصيب. قال عمر: فإذا قد فهمت ذلك فاقض بينهما - فقضى. ولو تدبرنا هذه الفئة الإسلامية العابرة لوجدناها ترمز إلى إشكال عريق في حياة المرأة ومصدر سوء تفاهم مزمن في حياة كثير من الأسر!

وإذا كان المصلحون الاجتماعيون في أوربا وأمريكا لم يهتدوا إلى الطريق الأمثل لفض المنازعات الزوجية إلا في القرن الحالي، فقد أشار الإسلام إلى ذلك في القرن السابع. فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب مخاطباً الأزواج: (إذا لم يفد المرأة الوعظ والهجر والضرب (ولن يضرب خياركم - وفي هذا المعنى الحضر لشيء أباحه الله لضرورة قاسية بشروط حتى لا يساء استعماله) عمد الرجل إلى التحكيم، وهو أن يؤلف (مجلساً) من أهله وأهلها فيعرض كل من الزوجين ما يشكوه من الآخر، فإن تمرد المحكوم عليه منهما فرقوا بينهما بالطلاق وهو آخر أنواع من التأديب)

(البقية في العدد القادم)

محمد عبد الرحيم عنبر