مجلة الرسالة/العدد 442/بين موسيه وخالد الكاتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 442/بين موسَّيه وخالد الكاتب

مجلة الرسالة - العدد 442
بين موسَّيه وخالد الكاتب
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1941



للأستاذ صلاح الدين المنجد

أذكر أني قرأت منذ شهور بعاد مقالاً ذكر فيه صاحبه أن الشاعر الفرنسي (موسّيه) كان يُشابه خالداً الكاتب في بكائه وألمه وهواه، وأن من الحق أن يسّمى خالد (موسّية الشرق)!

وقول كهذا القول يطوي في ثناياه من التسرَّع في الحكم والجهل في المقايسة النصيب الكبير؛ فليس من الصحيح إقامة الموازنات بصلة هزيلة أو نسبة ضعيفة، وليس من العلم إطلاق الألقاب بدون حذر أو أناة

لقد أحبَّ (موسَّيه) وأحبَّ (خالد) وبكى موسًّيه وبكى خالد؛ فكانا في الحب مختلفْين وفي البكاء متباينيْن. أما الأول فقد بكى وتألم حتى سمى الشاعر الألم. وكان الدافعَ إلى ذلك حبَّ مفجع وقلب محطم وكان شاباً ناعماً يفوق لداته بالرشاقة والأناقة والنبوغ. فلما أحب (جورج صاند) غرَّد بحبها في أشعاره وملأ به أناشيده وأغانيه. ثم حملها إلى إيطاليا بلد الجمال والفن ليقضيا حياة حلوة كالعسل، رفافة كالنعيم، ويتمتعا بالجمال البارع والحب الوليد على أنها تركته بعد قليل وتبعت (باجيلو) الطبيب الإيطالي. وكأنها كانت كالفراشة النشوى يروقها رشف الرحيق من كل زهرة! فثار موسَّيه لما رأى إعراضها وهم أن يقتل الحبيبة والطبيب معاً، ولكنه فضل البكاء على الجريمة، ورحل عن (فينسيا) باليأس والخيبة؛ فهام في رباع أوربة ثم عاد إلى فرانسة وأخرج للناس آيات رائعات، غنى فيها بأشعار رقاق من السهل الممتنع، آلامه المبرحات وحبه الجريح، ويأسه الداجي، وإخفاقه المر. والحق أن موسَّيه كان بارعاً في تصوير ذلك، لأنه كان صادقاً، والصدق يؤثر في القلب الشاعر ويطربه؛ ولأنه آلامه ويأسه وإخفاقه عواطف، تجدها قد لامست كل قلب وأقرحت كل كبد، ولذلك يشعر المرء أن في أشعار موسَّيه ترجماناً مما يعتلج في حنايا ضلوعه. ولقد كان شاعرنا إذا وصف ألمه وذكر المرابع التي رآها والأحوال التي صادفها واليأس الذي لقيه برع وأجاد. ولقد سما في وصفه لحبيبته (في ليلة تشرين) ففي هذه القصيدة تجد صورة أخاذة للحبيبة الشهوانة ذات العينين السوداوين. العطشى للحب، الظمأى للقبل، التي لا تفي لحبيب، ولا تقنع بحبيب. ولعل هذا آت عن فرة حسها وفرط شاعريتها وسعيها وراء لذتها التي خلفت لها وأغ على أن موسَّيه قد أتخذ من بكائه وألمه وسيلة للتعليم كما أرى، فجاء طرف من شعره تعليمياً أبان فيه عن ضرورة الألم وأثره في النفس، ومحاسنه التي لا تنفد ومزاياه التي تهذب الروح وترهف الحس. يقول: (أن الرجل صانع والألم معلمه. والمرء لا يعرف نفسه إلا إذا تألم؛ ولا شيء كالألم يجعلنا عظماء ذوي شأن). ثم يدعو إلى الألم ويبرع في الدعاوة له وتزينه للناس. ويقولون إن أهل عصره كانوا يسيغون أشباه هذه الأقوال، ويعجبون بمن يذرف الدمع ويصعد الحسرات، وينظرون إلى الذين يقاسون آلام الحب وأسقام القلب نظرة إعجاب؛ بل كانوا يشتهون ذلك. فمن عانى التهيام والتحنان والسهر؛ والبكاء وما يدعو إليه الهوى فقد امتاز عن غيره بكثير

ولقد كان فلاسفة اليونان الأقدمين ينصحون للفتى إذا سألهم النصح (أن اعرف نفسك بنفسك) وكانوا يحسبون إن السعادة الكبرى في هذه الحروف الثلاثة. ثم تساءلوا: كيف يعرف المرء نفسه؟ فركب كلٌ مركباً؛ أما موسّيه فقال (ينبغي لك أن تتألم كي تدرك ما تريد، لأن المرء يعرف نفسه إذا تألم) وهو في كلامه هذا ينطق عن تجربة، ويعتقد أنه عرف نفسه وعبقريتها، لما أدمى الحب قلبه فتألم. وعندئذ علا صوت قلبه الشجي. وصوت القلب كما يقول يصل وحده إلى القلب، فهو يود أن يدع قلبه يتكلم دائماً في كل حال. لأن على الشاعر أن يصغي إلى قلبه ويدع عقله، وأن يبتغي رضا القلب قبل مرضات الناس، والحب إذا فجر الألم من القلب جعله غلاباً للمصاعب، عزاماً في المصائب، لأن الألم رمز القوة وهو سبيل الخلود. والخير الفرد الذي بقى لنا في الدنيا هو تذرافنا الدمع في بعض الأحايين

أفيكون حال خالد كحال موسَّيه؟

لا جرم أن ما نعلمه من حياة موسَّيه أوفر مما نعلمه عن حياة خالد. لا شك أن كلا أحب وكلا بكى، ولكن شتان ما بين البكاءين. ولقد ذكروا أن خالداً كان كاتباً في الجيش، وأنه كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها، وأن محمد بن عبد الملك ولاه الإعطاء في الثغور، فخرج إليها، فسمع في طريقه منشداً ينشد ومغنية تغني:

من كان ذا شجن بالشأم يطلبه ... ففي سوى الشأم أمسى الأهل والشجن

فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه؛ ثم أفاق مختلطاً واتصل ووسوس. أفيكون سبب بكائه ونحيبه هواه لهذه الجارية أم هناك سبب آخر؟ يقول صاحب الأغاني إن خالداً كان مغرماً بالمرد ينفق عليهم كل ما يفيد، وأنه هوى غلاماً يقال له عبد الله كان أبو تمام يهواه، فتهاجيا بسببه وأنه وسوس على أثر ذلك

وهنا نتساءل: (هل اتخذ خالد من بكائه وألمه ما اتخذه موسَّيه؟!)

لا جرم أن خالداً لم يذهب مذهب موسيه في بكائه وألمه، ولم يفطن للألم وأثره في النفس، ولم يبرع في تصوير الألم براعة موسَّيه، ولم تكن في شعره تلك الصفة الإنسانية التي تجدها عند موسيه. فقد تجد بعض التكلف في العواطف والغلو في المعاني لديه؛ على أنه تفنن في وصف الدمع، وشعره فيه يعذب ويرق. ولا شك أنه الشاعر الفرد الذي بلغ في وصف الدمع ما لم يبلغه أحد من شعرائنا، وهذا ما يمتاز به من موسيه

ويحدثنا خالد في ديوانه أنه أصبح دنفاً هائماً بمن صارمه واحتجب عنه، فبكى؛ وجعل الدمع مداداً يكتب به على خده ما في فؤاده!

ثم طلب من الحبيب أن يفهم معاني دمعه. فلما أعرض عنه هواه وفقد الراحة، لج في تذراف الدمع حتى تقرحت عيناه وطلبتا العذر منه، فلم يعذرهما لأن قلبه لا يعذره ولا يشفق عليه

ولقد كان إذا مرض فله عائدوه، ونأى عنه طبيبه، دعا الدموع فهي مطيعة له، تسرع إليه وتجيبه. وهو ينصح لمن كان هذا شأنه أن يفعل ما فعله، وإذا أنكر الحبيب حبه ودنفه فهو يتخذ الدمع شفيعاً شهيداً. وما زال يبكي حتى كاد يعشب خده:

ولو أن خداً كان من فيض عبرة ... يُرى معشباً لا خضر خديًّ فأعشها

كأن الربيع الزهر بين مدامعي ... بما اخضل فيه من ضني وتصيبا

على أنني لم أبك إلا مودعاً ... بقية نفس ودعتني لتذهبا

وما زال هكذا حتى تخاصمت عينه وقلبه:

القلبُ يحسد عيني لذة النظر ... والعينُ تحسد قلبي لذة الفكر

يقول قلبي لعيني كلما نظرتْ: ... كم تنظرين؟ رماك الله بالسهر

العين تورثه هماً فتشَغلُه ... والقلب بالدمع ينهاها عن النظر

هذان خصمان لا أرضى بحكمهما ... فاحكم فديتك بين العين والبصر فإذا نفد دمعه نادى:

نفدتْ عبرتي فهل ... عبرةٌ أستعيرها؟

فأنت ترى من هذه اللمحة الموجزة أن الشاعرين مختلفان في حبهما وألمهما وبكائهما، وأن لكل مزايا. ولعلي أعود إلى خالد فأوسع الكلام عنه

(دمشق)

صلاح الدين المنجد