مجلة الرسالة/العدد 441/العقدة النفسية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 441/العقدة النفسية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1941



في طريق التكون وفي طريق الزوال

للأستاذ حسين الظريف المحامي

يراد بالعقدة كل مرض يصيب الحياة العقلية. وتفصيل ذلك أن الطفل يولد وعقله الواعي ستارة بيضاء، حتى إذا اتصل بوالدته وذويه وبالوسط الذي هو فيه، بدأ عقله الشاعر يتكون ويتطور، ودنوت على تلك الستار معاني ما يأخذه عما حوله.

ويمكن إجمال أدوار الطفولة في أن الطفل يشعر بادئ ذي بدء بأنه جزء من أمه، حتى إذا بلغ الثلاث من العمر، أخذ يشعر باستقلال نفسه، وذكت فيه عاطفة فرض ما يريد على الغير ولفت نظرهم إليه.

ويلي هذا الدور، دور السؤال عما حوله كمن يريد أن يحلل ويعلل، ولا يندر أن يسأل الطفل عن نفسه: كيف وجد؟ ومن أين أتى؛ وهو في كل أدواره هذه يعمل على تكوين وتنمية عله الواعي، مفزعاً إياه في الوضع الذي تهيئه له معاني وسطه المحدود.

فحياة عقلنا الظاهر يبدأ تاريخها منذ الولادة، غير أن هذه الحياة قد تكون سلسلة متعاقبة الحلقات، وقد تقوم بين هذه الحلقات بعض الحواجز فتفقد السلسلة صفة التسلسل، وما هذه الحواجز إلا العقد التي تعتور العقل الشاعر في طور نموه، فتقف حائلاً دونه، وترغمه على تبديل اتجاهه الطبيعي بآخر معوج يدركه فيه بعض الشلل.

قد تكون هذه (العقد) في صورة إدراك حقيقية مغلوطة تفقد جزءاً من العقل بعض ارتباطه، وقد تكون منبعثة عن سوء تربية الطفل وعما وراء هذا من مختلف العوامل، فينشأ الوليد شاذاً غير سويّ

إن الدافع الجنسي في الطفل تكون بعد الولادة بقليل، ومن مظاهره مص الأصابع، والرغبة في القبض على الثدي بالشفاه، حتى في غير أوقات الرضاع. هذا ما يقوله الدكتور فرويد ويضيف إليه أن الطفل يوزع حبه على أفراد عائلته، غير أنه يهب أكثره لأمه لشدة اتصاله بها، فإذا ألهاها عنه الزوج نشأ عنده الكره لأمه والغيرة من أبيه، ويزداد هذا الانفعال رسوخاً بتكرر الوقائع، حتى يصبح فيه الطفل واقعاً بين عامل الحب لأحد أبويه، وعامل البغض والغيرة، فإذا بلغ الحلم وجه حبه إلى من يختار من الجنس الآخر، وبذلك يج الحب له منقذاً طبيعياً يفنى فيه. أما إذا لم يوجه التوجيه الصحيح لجهل الأبوين أو لشذوذ في الطفل، فقد يبقى الفتى محباً لأمه، أو لمن يماثلها من الفتيات، وتبقى الفتاة محبة لأبيها، أو لمن يماثله من الفتيان؛ وهذا مظهر من مظاهر الشذوذ الجنسي، وهو ما يراد من العقدة. ذلك لأن سلسلة الفكر عن الحب وموطن وضعه فيه لم يجر على ما هو بصورة طبيعية، وإنما انحرف عما خلق له، لعامل في نفس الطفل، أو لشذوذ في تربيته، وسلك طريقاً آخر غير سوى، قد يكون مصدر كثير من آلامه طول حياته.

كذلك يمر بالطفل دور يحب فيه معرفة ما يحيط بموضوع الولادة، فيبدأ بالسؤال عنه فتسكته أمه بما يشعر بقبح الموضوع، فيلتهب فيه حب الاستطلاع بطريقة غير حميدة، ويجد في الموضوع لذة على الرغم من إفهامه أنه قبيح، وتكون النتيجة اعتقاد الطفل بأن الشيء اللذيذ هو الشيء القبيح. وهنا تنشأ العقدة. ويترتب على ذلك أحد أمرين، فإما أن يكره الطفل أن تقترب منه أمه، أو تتولد فيه الرغبة في المخالطة المادية، فيتبع إحدى الطريقتين، إما الخجل أو اللذة الجسدية؛ فإذا أنكفئ الطفل على ملذاته ورأى منه والده ما يريب وانتهره ولجأ معه إلى الشدة، انقلب خوف الولد من أبيه إلى الكره له، والاعتقاد بأنه لو لم يكن أقوى منه لما خذله، وتكون العقدة في نفس هذا الطفل، هي شعوره بالضعف. ولما كان الصغير لا يجد أمامه مجالاً للإفصاح عما وقع له فهو يحاول إخفاءه عن الجميع، ويوجد في محاولته هذه الصفات المضادة للصفات التي يحاول إخفاءها، كطرق دفاعية نفسية ضدها يشعر ما يشعر به من ضعف يوشك أن يظهر للناس.

قال فرويد: إن للعقل الباطن طريقتين متناقضتين للتعبير عما فيه؛ فقد يكون رجلاً فاضلاًُ شريفاً ذلك الذي يطيل الحديث عن الشرف والفضيلة، وقد يكون سافل النفس دنيئاً فأرد أن يخفي بهذا الحديث ما يعرفه في نفسه مخافة أن يعرفه الناس. وعلة هذا أن العقل الباطن يجب أن يعبر عن النشاط الكامن فيه فإذا كان أحد الطريقين مقفلاً اختار الطريق المقابل

إن الطفل يحمل كثيراً من الغرائز التي يجب أن تعبر عن ذاتيتها وحيويتها في أعماله؛ فإذا نحن منعناه عن الإفصاح عن إحدى غرائزه، اختار للتعبير عنها طريقاً آخر شاذاً، تنشأ فيه العقدة في نفسه، وقد يضغط على رغبة التعبير عن إحدى الغرائز فتتسرب تلك الرغبة إلى قاع النفس وهي ممنوعة عن الظهور، إلا أنها لا تسكن في موطنها الجديد، وإنما تبقى فاعلة متفاعلة في حدود العقل الباطن، حتى إذا سنحت فرصة الظهور خرجت من العقل الباطن إلى العقل الواعي ونفست عن نفسها في هذا الخروج.

لنفرض أن طفلاً مدللاً أرسله أبواه إلى المدرسة فلم يجد فيها ما ألفه في بيته من الحنان، فمثل هذا الطفل إما أن يغير سلوكه الذي اعتاده قبل دخوله المدرسة، أو يبقى مستمراً عليه، فإذ هو لم يختر ما وقع له وظل يريد من الحياة أن تكون مثلما رآه في بيته، مملوءة بالحنو والرقة، ففي هذه البداية ينتهي الوليد إلى اعتبار كل زميل له في الدراسة فظاً غليظ القلب فينفر من الاقتراب منه، ويشعر بالبغض له، ومن ثم يحدث له نفور من كل غريب حتى تعذبه كل تعارف جديد. ود تغيب هذه الرغبة الشاذة في طيات عقله الباطن، ويزيدها تطاول العهد إمعاناً في التواري، إلا أنها تبقى حية عاملة وهي تكون جزءاً من عقل العليل. فالرغبة التي تربط الموضوع في هذا المثال، هي العقدة

إن أكثر من نعرف يحمل في طيات نفسه من العقد النفسية ما يخرج حياة عقله عن السواء ويميل بها إلى جانب من الشذوذ يكتنف شعور صاحبه وإدراكه ويملي إرادته على ما يأتيه من قول وعمل. وقد ثبت في دائرة العلوم النفسية أن أخطر سنوات الطفولة ما يقع بين الثالثة والثامنة من العمر، ففي غضون هذه السنوات يقع أكثر ما يدعي بمشاكل الطفولة.

على أن العقدة في ذاتها لا تعد خطراً على صاحبها إلا إذا كانت متوارية عنه، وهي تعمل من وراء حجاب من الزمن. فإذا حلت العقدة زال ما بصاحبها من مرض يصيب العقل في الصميم

غير أن تحليل العقدة إلى العنصر الذي نشأت عنه، وبعبارة أخرى أن تذكر الحادثة الخاصة التي تنطوي عليها العقيدة ليس مما لا يشق على من يعانيه؛ ذلك لأنه إذا فعل وجد نفسه أمام مانع عنيد هو الزمن، فالعقدة لا تكتفي بالاختفاء وراء ثوبها المستعار وإنما تتوارى فيما وراء وقائع الزمن. وفي أحضان هذا الواقع تقع الصعوبة في تحليل العقدة. ولكن مهما يكن الأمر صعباً فأن طريق الخلوص إليه واضح لمن يريد

لنطلق العنان لما لنا من خواطر وأفكار ومنازع يعج بها العقل الباطن حتى نخرج بها إلى الذاكرة، ومن ثم إلى عقلنا الواعي فنحللها فيه ونرجعها إلى مصادرها الحقيقية، فإننا إن فعلنا ذلك استطعنا حل كافة العقد النفسية، وممن ثم يسهل علينا التحرر منها بالإرادة

وطول الممارسة

تلك هي طريقة التحليل النفسي، بها نخرج بالعقدة إلى العقل الواعي ونربطها بالحادثة التي نشأت عنها فيظهر لنا بطلانها، وبالتالي نتحرر منها وتصبح وكأن لم تكن بالأمس شيئاً.

(بغداد)

حسين الظريفي

المحامي