مجلة الرسالة/العدد 438/التطور البشري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 438/التطور البشري

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1941



للدكتور جواد علي

ما هي مقاييس التمدن وأين هي مظاهره؟ أهي في حركات الإنسان وطراز ملابسه ومجموعة مظاهره الخارجية، أم هي في أثاث بيته وأشكال سيّاراته ووسائل راحته وعدد خدمه، أم هي في الإنتاجين العقلي والمادي للبشرية؟ يختلف الجواب طبعاً على هذه الأسئلة باختلاف عقلية المرء ودرجة ثقافته. فجواب العلماء يختلف ولا شك عن جواب السواد الأعظم من الدهماء. وجواب الشرقي يختلف كثيراً عن جواب الغربي، وكذلك جواب الفقير عن جواب الغني

أما المقاييس العلمية فتستند طبعاً على أسس فنية منتظمة، وقواعد منطقية محكمة، لا تكتفي بالمظاهر ولا تقتنع بالظواهر، لها أحكام خاصة ونتائج تستند على مقدمات وبراهين. و (وحدة التطور) في حياة البشرية بالنظر للغة العلم هي (الكفاءة) والقابلية وقوة الابتكار؛ وهي وحدة تقاس بها كفاية الأفراد كما تقاس بها كفاية الشعوب والأمم باختلاف الأجيال والعصور. فكلما أعرقت البشرية في المدنية ازدادت قوة ابتكارها وتنوعت اختراعاتها وتشعَّبتْ اكتشافاتها وتعقدت حياتها وزادتْ احتياجاتها عن مستوى حياة الإنسان السابق

ولا تقتصر هذه الكفاية على الكفاية الروحية فقط، بل تشمل الكفاية الجسمية والمادية أيضاً. ومعنى هذه الكفاية هو خلق جيل قوي جميل، مثلاً، ذي أعضاء وعضلات قوية متناسبة لا تدكه الأمراض ولا تؤثر فيه الجراثيم، فهو يستطيع أن يقاوم ويقاوم. يتمرد على الطبيعة كما كانت الطبيعة تتمرد على الإنسان السابق. له أهداف ومثل عليا كلما نال منها نصيباً طمع في أخرى؛ لا تقصر همته كما قصرت همة الشعوب المنقرضة

والتقدم في الناحية الثقافية معناه تقدم الإنسان تقدماً مطرداً في دائرته المثلية مثل مثله العليا وأهدافه الأخلاقية ومطامعه في الحياة وأساليب معيشته واحتياجاته البيتية بحيث تتعقد حياته الروحية وتصعب وتتنوع طرق تفكيره وطراز تعبيره عن أفكاره في القول والكتابة، ويبدع في الإفصاح عن شعوره وما يجيش في نفسه في الموسيقى والشعر والتمثيل والغناء. وكلما تنوعت هذه وتشعبت وتميزت دلت هذه التطورات على تقدم ونمو وسير مع النواميس الطبيعية لهذا الكون. لذلك كانت احتياجات الشعوب المنحطة في هذه الناحية ابتدائية بسيطة بينما هي قد تعقدت وتنوعت في الأمم الأوربية المتقدمة تعقداً مهماً

وتطور البشرية دائماً من بشرية ذات قابلية معينة محدودة، ومن بشرية ذات كفاية مقدرة، إلى بشرية أكثر قابلية وكفاية هي نظرية العلماء الطبيعيين وأصحاب نظرية العالم الإنكليزي داروين والنظرية المعروفة باسم نظرية وهذا التناسق الذي يحدث بمرور الزمن في نظام البشر فيجمع شمل الحياة الإنسانية في محيط معقد معين غير متباين بعد أن كانت الحياة غير متسقة متنافرة، هو التطور المقصود في نظر العالم الإنكليزي هربرت سبنسر وقد صور هذا التطورَ في مدنية الإنسان الفيلسوفُ الألماني هيكل بصورة ملفة من ملفات البردي تنفتح بصورة متوالية كلما انفتح دور في حياة الإنسان المدنية حتى تنتهي بدرجة الكمال أو الإنسانية المطلقة. وقد أطلق على هذا الدور ? وهذا التطور هو من العلامات الفارقة بين الحيوان والإنسان وبين الشعوب المتمدنة وبين الشعوب المتوحشة. ونحن لا نكاد نشعر بظواهر التطور في حياة الأمم الابتدائية والمتوحشة بينما نلمس ذلك بصورة جلية في الأمم المتقدمة التي يظهر فيها التطور كلما تقدمت درجة في المدنية. فوضوح التطور أو غموضه إذاً مقياس يعتبر من أهم المقاييس التي تستعمل لقياس مدنية أمة من الأمم وتقدير منزلتها من بين منازل شعوب الأرض

ولا بد أن يقترن ذلك التطور كما قلنا بالابتكار والإنتاج ويرفع مستوى المعيشة لأفراد الأمة والرفاهية. ولفظه كما يطلق على ذلك الأمريكيون ولذلك يعتبر الرأي العام الإنكليزي نفسه أرقى في المدنية من الفرنسيين لأن الإنكليز أقدر منهم على الابتكار والإنتاج وعلى مجابهة الحوادث، وأكثر منهم قابلية وكفاية بصورة عامة، ودرجة الرفاهية لديهم أعلى من نسبة درجة الرفاهية لدى الفرنسيين

وكلما كان هذا التطور في المجتمع عاماً شاملاً كانت جذور الأمة في المدنية أقوى فيها وأرسخ، وأقدر على مجابهة مشكلات الأمور وحوادث الزمان، وأحكم في السيطرة على أجزاء المملكة وعلى تكوين رأي عام متماسك متقارب فيها لا يندك بسرعة. وهذا هو السر في انهيار بنيان شعوب البلقان مثلاً بسرعة بينما نجد الأمم الجرمانية والإسكانديناوية قوية تقاوم البشر والطبيعة على حد سواء

وهو من العلامات الفارقة بين الحضارات القديمة حتى القرون الوسطى وبعد ذلك، وبين الحضارة الحديثة والتي ستليها. كان التطور في الزمان السابق قد اقتصر على طبقة معينة من الناس وهي الطبقات العليا، أعني رجال القصر وحاشية الحكومة ورجال اللاهوت. أما الطبقات الدنيا فكانت في مستوى فكري روحي منحط. لذلك لم تكن حلقات الأمة محكمة، ولم يكن المستوى العقلي فيها متشابهاً أو واحداً. لذلك كانت خواص الأمة العقلية وخواصها الفسيولوجية منحطة واطئة، لأنها لم تكن متطورة، فلما أخذت الطبقات الدنيا تشارك الطبقات العليل في التعليم وتشاركها في وظائفها العليا وحقوقها المكتسبة أدركت الأمراض التي كانت تحيط بها والأخطار التي كانت تتهددها، فاحترست منها وأخذت تقاومها مقاومة رجل عالم خبير فقوّت عقلها وقوّت جسمها في وقت واحد. ولذلك خفّ ضغط الشعوب المتوحشة على الشعوب المتمدنة، ثم زال عنها بالتدريج. كان أهم مميزات حضارة الإنسان الأول هو ضعف تلك الحضارة من حيث ناحية الدفاع تجاه الأمم المتوحشة إذ كانت القوة للعضلات وكثرة العدد. فلما تطور الإنسان وظهرت حضارة القوة انعكست الآية وأصبحت الشعوب المتوحشة فريسة الأمم المتمدنة القوية، وأصبحت الأمم المتمدنة هي التي تملي إرادتها على الشعوب المتوحشة وتكيفها كيف تشاء؛ لأن القوة لم تعد قوة العضلات ولا قوة الجسارة والطيش، إنما هي قوة التكيف والتطور والابتكار والمهارة. وأصبحت الأمم المتمدنة لا تفلها إلا الأمم المتمدنة. والأمم المتمدنة هي الأمم التي تصمد أكثر من غيرها تجاه مطرقة الأعداء في أية ناحية من نواحي الحياة

حقق التطور البشري كثيراً من أحلام البشرية وفك بعض طلاسم الكون والوجود، ولكن هل يستمر هذا التطور في سيره السريع هذا؟ وهل يأتي يوم تحقق فيه البشرية كل ما كانت تحلم به أو تصبو إليه، فتتكون على الأرض البشريةُ المثلى وينعم الإنسان في هذه الجنة الأرضية بالخلود والنعيم؟ آمن بعض ذوي الخيال الواسع من العلماء بهذه الفكرة الجميلة فحاولوا قديماً وحديثاً استغلال العلم واستعباد العقل للعثور على سر الحياة واكتشاف لغز الموت لمقاومته، واقتنع آخرون بنظرية إطالة عمر الإنسان مدة تزيد على مدة العمر الطبيعي. وأبى آخرون إلا أن يهتدوا إلى سر الكون، وإلا أن يتوصلوا إلى إدراك كنه ما نسميه بالطبيعة، وأن يجدوا لهم سبيلاً إلى الشمس والنجوم أو طرقاً للمحادثة مع سكان الأجرام العلوية على الأقل.

ولكن دلت التجارب على أن كل تطور يعقبه تطور من جهة أخرى لا يرغب فيه الإنسان. قضى علماء الطب على معظم الأمراض القديمة، ولكن المعامل الكبرى والمدن الضخمة والسكك الحديدية وضجة الآلات والسرعة الرهيبة، كل هذه جاءت إلى البشرية المتطورة بأمراض لم يكن يعرفها إنسان الماضي، وستجيء بأمراض ولا شك لإنسان المستقبل لم نكن نعرفها نحن جزاء تطوره هذا.

وقد جاءت الاختراعات والثورة المادية بعوائد اجتماعية زلزلت بنيان البيت القديم وقوضت دعائم قدسيَّاته الاجتماعية وقواعده الأخلاقية التي كان يستعز بها. وجاءت بعادات جديدة فرضتها عليه فرضاً، ووسع هذا التطور مجال الحروب فجعلها عالمية وقد كانت موضعية، وجعلها آلية تكلف الإنسان ثمناً باهظاً تبتلع معظم ميزانية الدولة فلا تنتهي الحرب حتى يدخل في حرب أخرى جديدة أعم من تلك وأعظم

لذلك تشاءم بعض الفلاسفة من هذا التطور فأعلنوا ثورتهم على التطور الحديث والمدنية الحديثة فاعتزل الفيلسوف الشهير شيخ المتشائمين المحدثين شوبنهور هذا الكون ومن فيه متمثلاً بآراء فلاسفة الهنود ساخراً من كل شيء إلا من كلبه الأمين الذي أطلق عليه كل العالم ليعبر بذلك عن مقدار استخفافه بهذا العالم

وتبرم فيلسوف آخر هو الفيلسوف المتشائم شبنكلر من الحضارة الحديثة ومن الثقافة المادية التي صبغت كل شيء حتى المثل الأخلاقية بالصبغة المادية، وهدد بناء أوربا بسقوط عاجل مريع في إنجيله الفلسفي الجديد (سقوط الغرب) وقد أبان فيه أن الإنسان قد تطور تطوراً سريعاً جداً

أما من حيث الناحية الروحية فقد سارت البشرية فيها ولا شك بخطوات سريعة أيضاً ولكن إلى الوراء، ونادى الفيلسوف الدانماركي كيركه كارد ? أبناء قومه بعبارة تنم عن نفسية أوربا الحديثة: (هيا إلى الدين)

جواد علي