مجلة الرسالة/العدد 432/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 432/القصص

ملاحظات: حوار عند الغروب Dialogue au soleil couchant هي قصة قصيرة بقلم بيير لويس. نشرت هذه الترجمة في العدد 432 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 13 أكتوبر 1941



حوار عند الغروب

للقاص الفرنسي بيير لويس

للأديب عبد الغني العطري

(بيير لويس شخصية أدبية فذة لها مكانتها الرفيعة في عالم الرواية والقصة والفكر. ولو لم يكن لهذا الكاتب سوى روايته الخالدة (آفروديت) التي تجري حوادثها في مدينة الإسكندرية، ولو لم يكن له من أبطاله سوى (كريزيس) صاحبة تمثال (حياة خالدة) لكان ذلك كافيا لجعله في مقدمة زعماء الرواية العبقريين.

وكما برع لويس في الرواية فقد برع في القصة والأقصوصة أيضاً، وله في ذل مجموعة نفيسة سماها قصص مختارة، والقطعة التي نقدمها اليوم لقراء الرسالة الزهراء تحتل المكان الثاني في هذه المجموعة الرائعة. ولعل أقوى ميزات هذه الأقصوصة الحوار الطريف (الساذج) الذي أجراه الكاتب على لسان راعية وراع.

(ع. ع)

أركاس - أيتها الفتاة. . . يا ذات العينين السوداوين

مليتا - لا تمسني!

- لن أمسك. . . سأظل بعيداً عنك - كما ترين - يا أخت آفروديت ويا ذات الشعور الجميلة المعقدة على شكل عناقيد من العنب. هأنذا أقف على جانب الطريق دون أن أستطيع الذهاب، لا إلى الذين ينتظرونني، ولا إلى الذين خلفتهم ورائي

مليتا - أذهب! أذهب! إنك تتكلم عبثاً، وتفوه بما لا طائلة تحته أيها الراعي من غير غنم، ويا جواب الطرق المشبوهة الوعرة إذا كنت لا تستطيع بعد سلوك الطريق العام فاذهب إذن عن طريق الحقول، على ألا تطأ قدماك مرجي المخضوضر. أنت الذي لا أعرفه. . . وإلا ناديت واستغثت

- من عساك تنادين في هذه الوحدة؟

- الآلهة التي تسمعني - إن الآلهة يا فتاتي الصغيرة بعيدة عنك الآن أكثر مما أنا بعيد عنك بكثير ولو كانت على مقربة منك لما منعتني من إبداء إعجابي بجمالك وسحرك، لأنها تفخر بوجهك الصبوح وتزدهي وتعلم أنه تحفتها الرائعة

- صه أيها الراعي صه! إليك عني. لقد حظرت أمي عليَ الإصغاء إلى أقوال الرجال. إني في هذا المكان أرعى نعاجي الكثيرة الصوف وأحافظ عليها إلى أن تتضيف الشمس ثم تأوي إلى مرقدها. يجب عليَ ألا أصغي إلى أصوات الفتيان الذين يمرون بهذا الطريق، مع أنسام المساء والغبار المتطاير

- ولم ذلك؟

- لست أدري السبب، غير أن أمي تعرفه بدلاً مني. . . لم يمض بعد ثلاثة عشر عاماً على ولادتها إياي فوق سريرها المصنوع من ورق الشجر، وسأكون عاقة لها إذا لم أصدع بكل ما تأمرني به

- لم تفهمي يا فتاتي مقصد أمك الرءوم. . . إن أمك طيبة عاقلة، حسناء محترمة. . . لقد حدثتك إذ حدثتك عن البرابرة الذي يجوبون الحقول والأرياف وهم يحملون المجان في يسراهم والسيوف في يمناهم. . . هؤلاء يا فتاتي يستطيعون إيذاءك لأنك ضعيفة وهم أقوياء. . . لقد قتل هؤلاء الأشرار في المدن التي احتلوها خلال الحروب البغيضة كثيراً من العذارى الحسان اللواتي يضاهي جمالهن جمالك. ولئن عثروا بك في طريقهم فلن يشفقوا عليك. . . أما أنا فأي أذى أستطيع إلحاقه بك، ولست أحمل سوى جلد الخروف على كتفيَ، وهذه العصا في يدي. . . انظري إلى ملياً. . . أمخيف أنا إلى هذا الحد؟. . .

- لا أيها الراعي. . . لست مخيفاً. . . إن ألفاظك عذبة ناعمة، لذا يمكنني أن أصغي إليها طويلاً؛ ولكنهم حدثوني فقالوا: إن أعذب الكلام وأحلاه أكثره إمعاناً في الغدر والخداع، وذلك حين يغمغم به شاب في أذني واحدة منا نحن الفتيات. . .

- أأفوز منك بجواب إذا وجهت إليك سؤالاً؟

- أجل. . .

- بم كنت تفكرين تحت الزيتونة السوداء عندما مررت؟

- لا أريد أن أخبرك به. . .

- ولكني أعرفه!

- قله لي. . .

- إذا سمحت لي بالدنو منك، وإلا فسألزم جانب الصمت، لا أستطيع أن أقوله إلا همساً. . . في أذنك، لأنه سرك وليس سري. . . أتأذنين لي بالدنو. . . وأن آخذ يدك بين يدي. . .؟

- قل. . . بم كنت أفكر؟

- في نطاق زفافك. . .

- ولكن. . . من أنبأك بهذا؟ أكنتُ أتحدث بصوت مرتفع؟ أأنت إله أيها الراعي فتقرأ من مسافة بعيدة ما يجول في خواطر العذارى؟. . . لا تنظر إلى هكذا. . . لا تحاول أن تقرأ أفكاري في هذه اللحظة. . .!

- كنت تفكرين بنطاق زفافك وبالرجل المجهول الذي سيحل عقدته ببعض من ألفاظه المعسولة العذبة التي تخشينها الآن. . . تُرى، أتخلو هذه أيضاً من الخيانة والغدر؟

- إني لم أستمع إليها بعد. . .

- ولكنك تستمعين إلى كلماتي، وتنظرين إلى عيني. . .!

- لا أريد بعد أن أراهما. . .

- سترينها في الحلم. . .

- أيها الراعي. . .!

- لماذا ترتعشين عندما آخذ يدك في يديّ. . .؟ لماذا تنحنين عندما أضمك إلى صدري. . . ولم يبحث رأسك الكليل عن كتفي. . .؟

- أيها الراعي. . .!

- أكان في الإمكان أن أضمك هكذا بين ذراعي وأنت شبه عارية. . . لو لم أكن زوجاً لك على وجه التقريب؟

- ولكن لا. . . لست زوجاً لي. . . دعني. . . دعني. . . إني خائفة. . . إليك عني فأنا لا أعرفك. دعني، إن يديك تؤذيني. . . دعني. . . فلست أريدك!

- لم تتحدثين إليَ أيتها الطفلة بلسان أمك؟ - لا ليست هي التي تتحدث إليك، بل أنا التي أتحدث، إني عاقلة مفكرة. إليك عني أيها الراعي فأنا أخجل أن آتي بمثل ما فعلته (تاييس) أو (فيليرا) أو (كلوي) اللواتي لم ينتظرن يوم زفافهن، بل تعلمن أسرار (آفروديت) وأخذن ينسلن أولادهن في الخفاء!. . . لا. . . لا. . . لن أستسلم! في إمكانك أن تمزق قميصي فلن أستسلم إليك أيها الراعي! سأخنق نفسي بيدي هاتين قبل أن تنال مني مأرباً

- ولِمَ كل ذلك؟ بل ماذا صنعت؟ لقد لمست قميصك ولم أمزقه. . . ولثمت نطاقك دون أن أفك عقدته. ليكن ما تشائين! سأتركك تذهبين حيث أردت. . . هيا اذهبي. . . اذهبي. . . لم لا تذهبين؟

- دعني أبكي

- لعلك تحسبين أن حبي لك قليل ضئيل حتى أسلبك من نفسك ثم أدعك تستسلمين إلى أحزانك؟ أكنت أتحدث إليك هكذا مطولاً لو أني لم أكن راغباً منك بغير ساعة من اللذة البهيمية التي تستطيع أية فتاة راعية أن تمنحني إياها؟ أما أنبأتك عيناي بما أريد؟ ولكنك لا تنظرين إليهما أبداً. . . وإنك تحجبين عينيك، وترسلين عبرتيك

- أجل. . .

- ولكن. . . لو شئت لوددت أن أقضي عند قدميك حياة مفعمة بالحب والهوى، ولغمرتك بألفاظي العذبة الناعمة، ولكنت طوقتك بذراعي هاتين، ووضعت رأسي على نهدك، وفمي على ثغرك، ولكنت أرسلت شعرك الجميل يداعبني برفق وحنان؛ ونحن نتناغى ونتبادل القبل. اصغي إلي قليلاً يا فتاتي! لو شئت لصنعت لك كوخاً من أغصان خضر مزدهرة وأعشاب طرية ملأى بالجنادب المغردة والجعلان الذهبية التي تشبه الجواهر في قيمتها!. . . في ذاك المكان تنفردين بي طوال الليالي على فراش أبيض واحد هو معطفي الممدود، وهناك يخفق قلبانا إلى جانب بعضهما إلى الأبد

- دعني أبكي أيضاً

- بعيداً عني؟

- بين ذراعيك. . . وأمام ناظريك!

- أي حبيبتي. . . إن الظلام أخذ ينتشر، وبدأ الليل يرخي سدوله، وشرع النور يتوارى في السماء كطائر مجنح لقد أصبحت الأرض بادية الظلمة. لم يعد يُرى من بعد سوى مجرى الجدول الفضي الطويل الذي يتلألأ كأنه نهر كبير من النجوم حول حقلنا. . . فيا له من نور عظيم!

- بلى إنه لعظيم. . . والآن هيا، قدني

- تعالي. . . إن الغابة التي سندخل الآن بين غصونها المتمايلة التي ستعانقنا جد عميقة، ولعله يصعب على الآلهة نفسها أن تقطعها في رائعة النهار دون أن تصاب بشيء من الرعشة والخوف. وفي تلك الممرات الضيقة لا ترى آثار حوافر آلهة الغابات المزدوجة متقفية آثار الإلهة الغابات. وكذلك لا ترى بين الأوراق عيون آلهة الغاب الخضر، محدقة بأنظار الرجال الفزعة. ولكننا لن نخشى شيئاً ولن نفرق أبداً ما دمنا نحن الاثنين معاً: (أنت. . . وأنا)

- لا، لن نخاف، إني أبكي بالرغم عني، ولكني أحبك وسأذهب معك. إن في قلبي إلهاً! هيا حدثني. . . حدثني كثيراً. . . إن صوتك لينطوي على إله أيضاً!

- أرسلي شعرك الجميل حول عنقي، ولفي ذراعك حول نطاقي، وضعي وجنتيك على وجنتي. انتبهي واحذري. يوجد هنا حجارة. اخفضي بصرك. . . يوجد هنا جذور. . . الأرض ندية رطبة، والعشب تحت أقدامنا العارية. غير أني أشعر بحرارة نهدك تحت يدي

- لا تبحث عنه، إنه. . . صغير، إنه. . . فتيّ، إنه. . . غير جميل. في الخريف الماضي لم يكن أكبر منه ولا أنضج من يوم ولادتي. وكثيراً ما كان صديقاتي يسخرن مني بسبب ذلك. لقد بدا نموه في الربيع مع براعم الأزهار. لم يعد في طوقي مواصلة المسير

- تعالي. . . إننا نمشي في الظلام. . . في الدجنة، لم أعد أرى وجهك. لم نعد نظهر، لقد لفنا الظلام واحتوانا الليل. تعالي نذهب إلى تلك الدوحة الكبيرة، أمام أشعة القمر. إن ظلها لكبير. . . إنه يمتد إلى حيث نحن. هيا. . . تعالي!. . .

- إنها ضخمة. . . إنها في حجم قصر!

- قصر زفافك الذي يفتح أبوابه لاستقبالنا نحن الاثنين في جوف هذا الليل المقدس

- إني أسمع ضجيجاً. . . إنه حفيف النخيل

- تخيل حفلة الزفاف الصخَّاب - وهذه النجوم؟

- إنها المشاعل

- وهذه الأصوات؟

- إنها الآهة

- أيها الراعي، لقد دخلت هذا المكان وأنا عذراء مثل (أرتميس) التي يسطع علينا نورها من بعد. . . من خلال الأغصان السود، والتي قد تكون مصغية إلى حديثنا الآن. لست أدري أأحسنت في مجيئي معك إلى هذا المكان، أم لم احسن، ولكني كنت أحس أن روحاً بين جنبي تنبعث وأنا معك، روحاً قدسية بعثها صوتك في أعماقي. لقد منحتني السعادة الكاملة إذ منحتني يدك

- أيتها الفتاة. . . يا ذات العينين السوداوين، لم يَسْعَ أبوك ولا أبي إلى لمِّ شملنا وتهيئة هذه السعادة لنا، أمام مذبح مواقدهم وأنا أستبدل ثروتي بثروتك. نحن فقيران فنحن حران إذن. إذا كان أحد قد سعى إلى زواجنا في هذا المساء فارفعي عينيكِ، إنهم الأولمبيون حماة الرعاة

- أي زوجي. . . ما اسمك؟

- أركاس. . . وما اسمك؟

- مليتا.

(دمشق)

عبد الغني العطري