مجلة الرسالة/العدد 424/أخبار سلم الخاسر
مجلة الرسالة/العدد 424/أخبار سلم الخاسر
للأستاذ حسن خطاب الوكيل
هو سلم بن عمرو مولى بني تيم بن مرة ثم مولى آبى بكر الصديق رضى الله عنه. وكان من سبب تسميته بالخاسر انه ورث عن أبيه مالاً كثيراً - مائة ألف درهم - أنفقها كلها في طلب الشعر والأدب والموسيقى. كما انه ورث مصحفا من أبيه كان لجده من قبل فباعه واشترى بثمنه طنبورا، لذلك لقبه بعض أهله وجيرانه بالخاسر وقالوا انفق ماله على ما لا ينفعه. فأسرها سلم في نفسه ولم يبدها لهم. ومضى في سبيله يجد في طلب الشعر وراويه، والأدب وذويه، حتى حاز قصب السبق وصار علما من أعلامه، وشاعراً مطبوعاً متصرفاً في فنون الشعر، ورواية لبشار ابن برد أستاذه. وعنه أخذ، ومن بحره اغترف. ومدح الملوك والأمراء، وتحدى الشعراء. ومن محاسن الصدف انه مدح المهدي العباسي بقصيدة فأعجب بها وأمر له بمائة ألف درهم، وكان المهدي على علم بسبب تسمية بالخاسر، فقال خذ هذا المال وكذب به جيرانك؛ فجاءهم سلم بالمال وقال لهم هذه المائة ألف درهم التي أنفقتها وربحت الأدب. فأنا إذاً سلم الرابح لا سلم الخاسر
وحدث أن أستاذه بشار بن برد بعثه إلى عمر بن العلاء بقصيدة مدحه بها التي يقول فيها:
إذا نبهتك صعاب الأمور ... فنبه لها عمراً ثم نم
فلما جاءه سلم بها وأنشده إياها أمر عمر بن العلاء بمائة ألف درهم لبشار بن برد؛ فلما رأى سلم المال الموهوب لأستاذه بشار تحركت نفسه وتلمظت شفتاه إلى نيل جائزة له أيضاً. فقال لعمر بن العلاء إن خادمك - يعني نفسه - قد قال في طريقه إليك قصيدة فيك. فقلل له عمر - فإنك لهناك - فأجابه سلم. تسمع ثم تحكم، فقال عمر هات فأنشد قوله:
قد عزني الداء فمالي دواء ... مما ألاقي من حسان النساء
قلب صحيح كنت أسطو به ... أصبح من سلمى بداء عَياء
أنفاسها مسك وفي طرفها ... سحر ومالي غيرها من دواء
إلى أن قال:
كم كربة قد مسني ضرها ... ناديت فيها عمر بن العلاء
فاعجب بها عمر وأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت عطية سنية لم تخطر له وكان من خبره انه حدث بينه وبين أستاذه بشار فتور وانقطاع بسبب انه اخذ معنى لبيت من شعر بشار وصاغه في بيت له قضى به على بيت بشار وسارت بحديثة الركبان، واصل البيت من قصيدة لبشار:
لا خير في العيش أن دُمنا كذا أبدًا ... لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في غيره حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فعمد سلم الخاسر إلى البيت الثالث وصاغه هكذا:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
فبينما بشار بن برد في منزله إذ دخل عليه أبو معاذ النميري فقال له: لقد قال سلم الخاسر بيتاً من الشعر هو أحسن وأخف على الألسن من بيتك، فقال له بشار وما هو؟ أنشدنيه. فأنشده قول سلم:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
فقال بشار: سار والله بقيت سلم وخمل بيتنا. وكان كذلك إذ لهج الناس بيت سلم وصار مثلاً من الأمثال السائرة؛ أما بيت بشار فلم يتمثل به احد؛ فغضب بشار من سلم وحلف ألا يدخل عنده ولا يفيده ولا ينفعه ما دام حياً. فلما علم سلم بذلك وطال عليه جفاء أستاذه شق عليه ذلك فاستشفع إليه بكل صديق له، وكل من يثقل عليه رده، فكلموه فيه؛ فبعد اللتيا والتي قال بشار: ادخلوه إلي، فاستدناه فلما كلمه قال: إيه يا سلم! من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته. . . الخ. قال سلم: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك. فقال بشار: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غماُ ... وفاز باللذة الجسور
قال سلم تلميذك وخريجك وعبدك يا أبا معاذ
فاجتذبه بشار إليه وقنعه بمخصرة كانت بيده ثلاثاً وقال له:
يا فاسق!؟ أتجيء إلى معنى قد سهرت له عيني، وتعب فيه فكري، وسبقت الناس اليه، فتسرقه ثم تختصره لفظاً تقربه لتزري علي وتذهب ببيتي؟ فحلف له سلم ألا يعود لشيء مما يكرهه وينكره منه، فرق له ورضى عنه ومن طريف ما حدث لسلم الخاسر أن أبا العتاهية حقد على سلم وحسده على ما يناله من الخطوة والجوائز عند الملوك والأمراء فأرسل إليه ببيتين من الشعر يرميه فيهما بالحرص وهما:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى الزوال
فلما قراهما سلم غضب من أبى العتاهية وقال: ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق! زعم أنى حريص وقد كنز البِدر وهو يطلب المزيد، وأنا في ثربي هذين لا املك غيرهما، ولما سرى عنه كتب إليه هذه الأبيات:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزِّهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد
ورفض الدنيا ولم يلقها ... ولم يكن يسعى ويسترفد
فخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
الرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود
كل يوفي رزقه كاملا ... من كف عن جهد ومن يجهد
هذا فصل في الكلام قد ساق إليه البيان عن بعض أخبار سلم الخاسر تفكهه للقراء، ولنتخذ دليلاً ثانياً وحجة ناصعة في الآيبات أن الجزء الحادي والعشرين من كتاب الأغاني هو من الأغاني، وسبق أن قدمنا في حجتنا بقصة إسحاق الموصلي وغلامه زياد، وإنها لم تذكر ألا في الجزء الحادي والعشرين منه واقرها ابن منظور في مختصر (الأخبار والتهاني)، فكذا هنا قصة مسلم الخاسر مع أهله وجيرانه، وسبب تسميته لم تذكر إلا في الجزء الحادي والعشرين من الكتاب، وهي بطبيعة الحال جاءت في مختصر الأغاني (حرف السين)، ولولا ذهاب المخطوطات إلى المخابئ لأتينا بالنص كما هو مدون في محله، والله يهدي السبيل
حسن خطاب الوكيل