مجلة الرسالة/العدد 416/للحق والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 416/للحق والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1941



عبد القادر حمزة باشا

وقفة قصيرة بهامش أدبه الحي

كيف كان ينقل كنوز اللغات المختلفة إلى العربية

للأستاذ محمد السوادي

تحدثت إلى قرائي في جريدة (البلاغ) بعددها الصادر في اليوم الثامن من يونية الحالي عن بعض ما عرفت في (عبد القادر حمزة بين محرريه، وعبد القادر حمزة بين ذويه، وعبد القادر حمزة بين الجلال والحنان والدمع الغزير)

وأوثر أن يكون حديثي إلى قراء (الرسالة) حديثاً أدبياً يلائم أمزجتهم، ويوائم بينها وبين شعوري بالرغبة في حديث لا نهاية له في سيرة الرجل الذي تعلمت منه قارئاً ناشئاً، وأخذت عنه كاتباً شاباً، وقويت صلتي به في أثناء اشتغاله بطبع كتابه التاريخي الأخير، وعلى حين غفلة استرد هذه اليد مني ليتوارى عني، صاعداً بالروح إلى السماوات العلا حيث الحقيقة الكبرى التي ظل يبحث عنها طوال نصف قرن قضاه ضيفاً على الأرض.

وليس في نيتي أن أرسم لك صورة من أدبه - وإن كنت لا أنكر أن في نيتي العودة إلى رسم هذه الصورة على صفحات (الرسالة) نفسها - وإنما أريد اليوم أن أقف على (هامش أدب عبد القادر حمزة)، كما وقف هو على (هامش تاريخ مصر القديم)، فأسوق إليك لوناً من الروح الذي كان يحدوه وهو يفكر تفكيراً أدبياً، ثم يهديه وهو يسجل ثمار هذا التفكير:

على هامش ترجمته

ولكي تعرف كيف كان عبد القادر حمزة يترجم إلى العربية بعض كنوز اللغات المختلفة، فيبدع إبداعاً وفق فيه بين الأمانة الممكنة والسلاسة التي عرف بها، ثم ينفرد أخيراً بخاصة إخضاع الكلمات للمعاني التي يريدها، وخاصة صوغ العبارات التي تؤدي بقوة تماسكها وبساطة مفرداتها نفس المعاني. . . لكي تعرف بعض سر هذه الحقيقة، ينبغي أن تعرف رأي الفقيد في الترجمة، فإذا عرفت مدى تهيبه ضخامة المهمة الملقاة على عاتق المترجم، فإنك قادر مدى الجهود التي كان يحرص على بذلها وهو يترجم، وكاشف سر القوة التي جعلت منه مترجماً لا يجارَى ولا يقلد!

وهذا الرأي - رأيه في الترجمة - مثبت في أحد فصول المجلد الثاني الذي كان يشتغل بطبعه في الشهور الأخيرة وقضى قبل أن يفرغ منه، وشفيعي في إثبات هذا الرأي أو استعارته من كتاب تحت الطبع بغير إذن من أبناء الفقيد، ثقتي بأن هؤلاء الأبناء لا يغلَبون (شكلية) كهذه على وفاء أريد أداءه لتاريخ الفقيد الأديب، ولتاريخ الأدب في ذاته، وشعوري بأن روح الفقيد راضية في عليائها عن صنيعي هذا

رأيه في الترجمة

عرض الفقيد في أحد فصول كتابه للأدب في مصر القديمة فأثبت وجوده وأثبت له الجودة، ثم أسف على (أن المثقفين منا يعرفون إلى جانب الأدب العربي: الأدب الإنجليزي، والأدب الفرنسي، والأدب الألماني، والأدب الإيطالي، ومنا من يعرفون حتى الأدب الفارسي، وحتى الأدب اليوناني القديم؛ ولكننا لم نُعن إلى الآن بمعرفة أدبنا المصري القديم)

وبعد أن دلل على ضرورة هذا الأدب لنا قال:

(ولا يطمع القراء في أن أنقل إليهم ما أنقله من هذا الأدب في بلاغته الأصلية، فإن المترجمين يعرفون أن شعر شكسبير الإنجليزي، أو راسين الفرنسي، أو جيته الألماني، تُفقدَه الترجمة كثيراً من بلاغته؛ ومثل ذلك شعر امرئ القيس أو أي شعر عربي آخر إذا نقل إلى لغة أوروبية؛ وهذا لأن الشعر أو النثر الفني الذي يسمى أدباً يتكونان من عنصرين: أحدهما الفكرة، والثاني الصياغة؛ واجتماع هذين العنصرين هو الذي يبعث في النفس أثراً خاصاً وموسيقى خاصة، والترجمة تنقل الفكرة ولا تنقل الصياغة، فكأنها تنقل الهيكل العظمي دون اللحم والدم. وهذا يقال في أدب عصري، أو في أدب لم يمض عليه غير بضع مئات من السنين؛ أما الأدب الذي مضت عليه خمسة آلاف سنة، أو ثلاثة آلاف على الأقل، فيجب أن يقال فيه إلى جانب ذلك إنه ابن بيئة تختلف عن البيئات التي يعرفها العالم الآن، وقد وجد في ظل عقلية واعتقادات وتقاليد وعادات لم يبق لها وجود وقل من يعرفها ومن المسلم به أن الأدب يكتسب كثيراً من العقلية والاعتقادات والتقاليد والعادات التي يعيش فيها، بل هو لا يكون أدباً حياً إلا إذا امتزج بها وكان وحياً منها؛ ولهذا السبب يكون نقل الأدب المصري القديم الآن الى اللغة العربية تجريداً له من هذه العناصر كلها فوق تجريده من الصياغة وموسيقاها؛ ولهذا السبب نفسه سترانا محتاجين في كثير من الأحيان الى إعطاء بيانات وتعليقات ننقل بها القارئ - على قدر استطاعتنا وفي حدود دراستنا - الى العصور التي قيل فيها ما نعربه لهم من القطع الأدبية)

جلال المهمة

هذا هو رأي عبد القادر حمزة في الترجمة؛ فما الذي نخرج به من هذا الرأي لنلتقي بعبد القادر حمزة المترجم؟

نخرج من هذا الرأي بالنتائج الآتية:

أولاً - يرى الفقيد أن الترجمة تنقل الفكرة ولا تنقل الصياغة

ثانياً - إن الفكرة أشبه بالهيكل العظمي، وإن الصياغة أشبه باللحم والدم؛ فالترجمة ليست إلا تجريداً للنتاج من اللحم والدم

ثالثاً - إن الترجمة تتطلب فهماً للنتاج المنقول، والفهم يتطلب دراسة الزمن الذي قيل فيه هذا النتاج، والبيئة التي وجد فيها القائل، والعقلية التي أصدر عنها، والتقاليد والعادات والاعتقادات التي أثرت فيه فتأثر بها

رابعاً - إن الأدب لا يكون حياً إلا إذا امتزج بهذه العوامل وكان وحياً منها

وضع الفقيد هذه القوانين الأربعة أمامه حين هم بالنقل عن الأدب المصري القديم، ثم رأى فيها سبباً يجعل هذا النقل بمثابة تجريد للمنقول من هذه العناصر، أو من اللحم والدم. . . فلماذا إذاً أقدم على النقل، وهل نقل إلينا هياكل عظيمة تحقق النذير الذي أنذرنا به وخوفنا منه؟

كلا. . . وإنما أعطانا (بيانات وتعليقات) نقلنا بها إلى العصور التي قيل فيها ما عربه لنا؛ وتواضع فقال إن هذه البيانات والتعليقات هي على قدر ما في استطاعته وفي حدود دراسته

وشيء أجل قدراً قام به ولم يشر إليه، هو توفره قبل النقل على دراسة العقلية والعادات والتقاليد والاعتقادات التي كانت سائدة في تلك العصور، والتي سبق أن أشار إليها، ثم لم يدر مدى التوفيق الذي أحرزه، وخشي أن يكون هذا التوفر غير كاف، وهذا التعمق غير بالغ به الأعماق، فقال إنه محتاج الى إعطائنا بيانات وتعليقات، في حين أن هذه البيانات والتعليقات إنما أفادت في تهيئتنا لاستقبال نتاج هذه الآباد، وأطلقت حولنا من بخور القدم ما خالط أنفاسنا، فعشنا في الجو الفرعوني ونحن نطالع نتاج تلك العصور؛ أما الترجمة - ترجمة النصوص أو الأصول - فقد جرى في هيكلها كثير من الدم القديم، ورأينا بعين المخيلة لحمها مقروناً بهذا الدم الغزير، وشعرنا بالحياة تدب في الهيكل، وبالمنقول أدباً حياً نقله الفقيد فأحسن نقله. وهذه النتيجة التي تكاد تكون لوناً من الإعجاز لم تكن بسبب البيانات والتعليقات وحدها، بل كانت وحياً من فهم الفقيد عقلية تلك العصور، وإدراكه الكثير من عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم

نماذج وأمثلة وأسانيد

ولكي ترسخ هذه الحقائق في أذهان القراء الذين يبحثون وراء الأسانيد لكل حقيقة يتصدون لها، أرى لزاماً علي أن أقدم إليهم أمثلة للبيانات والتعليقات، ونماذج من القطع الأدبية التي ترجمها الفقيد في مجلده الثاني الذي أرقب صدوره في القريب بكثير من التشوق والمصابرة

أراد الفقيد أن يترجم بعض القصائد والأغاني، فعرضت له كلمة (أخت) وكلمة (أخ)، فرأى أن يقدم بياناً لهذه التسمية، فلما قدم البيان وجده منطوياً على ما يتصل بالفكرة الخاطئة التي أرساها المؤرخون في الأذهان، فنمت واستقرت بفعل التكرار وعلى الأزمان، فكرة أن الأخت كانت تتزوج من أخيها، فرأى الفقيد أن يكون له تعليق على البيان يجلو غامض الفكرة الخاطئة؛ ومن هنا جاءت عنايته بالبيانات والتعليقات، وجاء دور التعليق على الفكرة الشائعة؛ فقال رحمه الله:

(وهنا استطرد قليلاً فأقول: إن إباحة زواج الأخت بأخيها كانت معروفة في الأسر المالكة لسببين: أولهما الحرص على الدم الشمسي، أي الدم الملكي، والثاني: أن حق البنت المولودة من أب هو ملك وأم هي ملكة في وراثة العرش، كان أقوى من حق الابن المولود من أب هو ملك وأم ليست ملكة، بحيث كانت الأخت في حالة كهذه هي التي تعتبر وريثة شرعية للعرش دون أخيها، ولهذا كان يقترن بها ليكون حقه في العرش شرعياً

(كان هذا هو المعروف في الأسر المالكة، أما في غيرها من عامة الشعب فلم تكن الحاجة ماسة الى الحرص على دم شمسي، ولا إلى وراثة عرش، ولذلك يرى بعض العلماء أن القول بإباحة زواج الأخت من أخيها بين أفراد الشعب يجب أن يبقى محل تحفظ إلى أن تقوم عليه أدلة كافية، لأن جميع الحالات التي عرف إلى الآن أن أختاً تزوجت فيها بأخيها، هي حالات خاصة بالأسر المالكة)

أما وقد عرفت الآن مبعث تسمية (الحبيبة) و (الحبيب) بكلمتي (الأخت) و (الأخ) فالفقيد يقدم إليك صورة من غزل أحد الشعراء يشكوا إعراض أخته عنه وصدها له، ثم يفكر في ألوان من الحيل عسى أن يظفر برؤيتها، فيقول:

(سأرقد في سريري متمارضاً

(فيعودني جيراني

(وتعودني أختي معهم

(وتضحك أختي من أطبائي

(لأنها تعرف دخيلة مرضي!)

ويطيب للفقيد أن يقف بعد كل بضعة سطور ليقارن أو ليفاضل بين الأدب فيما قبل خمسة آلاف سنة والأدب الحديث في مختلف اللغات، بل الأدب العربي الذي درسناه، فليفتك إلى أن تمني الحبيب أن تزوره حبيبته إذا رقد في سريره مريضاً أو متمارضاً شائع في عز الشعر العربي، كقول الشاعر:

ماذا عليكِ إذا خُبِّرْتِني دِنفا ... رهن المنية يوماً أن تزوريني

. . . وإلى أن جهل الأطباء بمرض الحب شائع أيضاً كقول

قيس بن ذريح:

عيدَ قيس من حب لبنى ولبنى ... داء قيس والحب داء شديد

وإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين: لا أرى من أريد!

ليت لبنى تعودني ثم أَقضي ... إنها لا تعود فيمن يعود

ويمضي فقيدنا بشاعرنا المصري وتمنياته أن يكون الخاتم الذي تلبسه الحبيبة (الأخت) في إصبعها، أو إكليل الزهر الذي يطوق عنقها ويداعب صدرها، وهو لا يتردد في أن يسقيها - لو استطاع - شراب الحب ليحملها على أن تفتح بابها قليلاً وتسمح له برؤيتها، وحين لا يجد فائدة من كل هذا يتجه وجهة أخرى ليركب النيل إلى حيث الإله بتاح صاحب (الوجه الجميل) في ممفيس، ليتضرع إليه أن يهيئ له رؤية أخته. وقبل أن يشرع الفقيد في الترجمة يهيئ لك جوها ويعقد الصلة بينك وبين هذا المحب، ويعرفك أنه من أهل طيبة؛ فهو إذاً ركب النيل إلى ممفيس يكون (نازلاً) من مصر العليا، ويكون في نزوله سائراً مع التيار، وهذا أدعى إلى الإسراع، لأن السفن لم تكن تعتمد في ذلك الوقت إلا على الشراع أو المجذاف

وبعد أن يضنى الفقيد نفسه فيعقد أواصر هذه الصداقة بينك وبين ذلك الجو القديم، يمضي بك إلى سطور أخرى ينقلها إليك على هذا كله، لتقرأ منها قول الشاعر:

(سأركب النيل نازلاً مع التيار

(وسأمضي مسرعاً

(وباقة من الريحان على كتفي

(وسأصل إلى مدينة عنخ تاوى (أي ممفيس)

(وهناك أقول للإله بتاح رب العدل:

(هيئ لي أن أرى الليلة أختي!

(أن النهر لخمر

(وأن بتاح لَنَابه

(وأن سخمت (هي آلهة الانتقام أو الحرب) لبرديه

(وأن إنريت (معبود كان في سمنود الحالية) لبرعومه

(وأن نفرتوم (ابن الإله بتاح) لأزهاره

(وفتحت ذراعيها لي

(شعرت كأن أزكى روائح بلاد العرب تغمرني

(ثم إذا افترت شفتا أختي

(وأدنتهما مني وقبلتني

(فذلك لي هو السكر من غير مسكر)

هذا نموذج من أدق النماذج، لأن العقائد فيه خالطت العرف وتصاعدت روائحها إلى أنف القارئ المعاصر.

وإلى هنا أقف راجياً أن أواصل هذا الحديث في القريب، بل راجياً أن أصل بينه وبين مواجهة (عبد القادر حمزة الأديب) في بضع حلقات تتألف منها سلسلة دراسات (مركزة)، فما أردت بهذا المقال (تركيزاً)، وإنما أردت أن أثير اهتمام الأدباء برجل مجده الناس كاتباً سياسياً لا ند له في مصر ولا نظير، وجلوه أديباً من طراز معين، أديباً مثرياً طائل الثراء في طرائقه الخاصة، في التفكير وفي الأسلوب، وفي الترجمة وفي الإنشاء

نعم، هي وقفة بهامش أدبه، فإلى اللقاء عند هذا الأدب

وليرحم الله عبد القادر حمزة، فلسوف يسمو ويزداد سمواً كلما تقادم العهد ومضت الأيام على وفاته

لقد كان تاريخاً، فمن حق الجيل دراسة هذا التاريخ

محمد السوادي