مجلة الرسالة/العدد 416/الحياة الزوجية
مجلة الرسالة/العدد 416/الحياة الزوجية
في نظر الإسلام
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
- 3 -
خطبة الزواج
إذا كان الزوج كفئاً لائقاً ورضيته الفتاة، فليس للولي أن يعضُلها (يمنعها من التزوج به)، وإن فعل ذلك سقط حقه في الولاية عليها، وانتقل الحق إلى من يليه من عَصَبتِها، (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي لا تمنعوهن ذلك؟ فهاتان حالتان لا يملك الولي أن يقهر المخطوبة فيهما على غير ما تريد:
1 - غير كفء يخطبها وهي ترفضه
2 - كفء يخطبها وهي فيه راغبة
وهناك حالة ثالثة، للاجتهاد فيها مجال، وللعلماء فيها مقال ومقال؛ هي: خاطب كفء لائق، ولكن المخطوبة ترفضه وتأباه؛ ففريق يرى قولها مسموعاً، وحقها ناهضاً، ما دامت رشيدة تعرف ما يطيب ويخبث من شئونها، وتدرك خيرها من شرها؛ وفريق يذهب إلى هذا الرأي كذلك إن كانت المخطوبة ثَيباً، أما إن كانت بكراً فليس لها أن ترفض من يراه الأب صالحاً وكفئاً، وإنما تستأذن فيه، عملاً بظاهر حديث الرسول: (تستأذن البكر، وتستأمر الشيب)، ويرون أن أباها أعرف منها بصالحها، فمن حقه إجبارها
وعلى الإجمال الذي يعفينا من التطويل، فإن الإسلام ينشد لكل من الزوجين رفيقاً ساراً، ويبتغي لكل منهما حياة مأمونة المكاره، ويلتمس من وراء ذلك نسلاً كريماً، وأمة ماجدة عريقة في الطهر والعفاف ومكارم الأخلاق
ويجمع هذه الأغراض كلها قول النبي (ص): (إياكم وخضراء الدِّمن): يحذرنا من المرأة الجميلة الشكل، القبيحة الأصل والأخلاق، ويشبهها بالدوحة الخضراء الندية تنبت في الدِّمن - وهي القاذورات ومطارح الزبالة - فإن يكن لها نصيب من حسن الرواء، وفرط البهاء، فبئس ما وراء هذا المنظر من شناعة المخبر ويجمعها كذلك قول النبي (ص): (تخيروا لنُطفكم فإن العِرق دساس) فهذه حكمته البالغة في نصيحة الزوجين والأولياء في حسن الاختيار قبل التوثيق والارتباط - وعلى المرء أن يسعى إلى الخير جهده - غير أن الناس في شأن الخطبة على أمور متناقضة؛ أكثرهم بأهل الجاهلية أشبه، وقليل منهم الراشدون؛ ففريق يتوسعون إلى الاختلاط، والخلوة، وما يدنو من هذين أو يعظم، ثم قد تكون النتيجة إفلات الأمل من أيديهم من حيث بالغوا في الحرص عليه، فلا يبقى لهم سوى الندم على ما فرطوا والخزي اللاصق بهم مما جنوا ما عاشوا.
وفريق يتحجر رأيهم وتجمد عقولهم فلا يمكنون الخاطب والمخطوبة من حقهما المشروع، وقد يتم الأمر ويكون أحد العشيرين على غير ما يرضى صاحبه، فتكون الحياة بينهما شقاء لا نعرف له نهاية، وسجناً لا يدريان له غاية
وفريق ثالث يسوقون الفتاة سوقاً إلى شخص ماجن أو رجل متهدم البنية يخطو إلى مقره الأخير، فيبدون لها من المحاسن ما ترجو هي بعضه، ولا يكون الأمر كذلك، وإنما هي رغبتهم في ماله، أو طمعهم في جاهه؛ وهذا نوع فاحش من التضليل، وشر لون من ألوان الغش؛ والنبي (ص) يقول: (من غشنا فليس منا)
فحسب هؤلاء أن النبي أبعدهم عن الإسلام، وإن الإسلام منهم بريء
أدب العشرة بين الزوجين
ما كان الإسلام ليُغفل علاقة الزوجين أن يدعمها ويدرأ عنها عوادي الخلف والجفوة، بعد أن دعاهما إلى الانضمام وهيأ لكل منهما سبيل اختيار صاحبه للمرافقة الدائمة في اجتياز هذه الحياة
بل وضع الإسلام منهاجاً مزدوجاً من أدب العشرة، وحتم على كل منهما أن يأخذ بالجانب الذي يتصل به من هذا المنهاج نحو صاحبه
وبعد أن حمّلهما الإسلام تلك الأمانة، أهاب بهما - مع مَن أهاب به من كل طرفين بينهما صلة - أن يرعاياها حق رعايتها؛ فهو يقف بهما أمام الحديث المقدس: (أنا ثالث الشريكين إذا لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه نزعت البركة من بينهما)
وعلى ضوء هذا الحديث تكون الحياة الزوجية لكل منهما طيبة مريئة، وتكون الشركة بينهما مثمرة مباركة، وإلا كانت صلتهما في الدنيا هماَّ ناصباً، وشقاء متعباً؛ ثم هي في الآخرة مأثم مأخوذ به من يقترفه، وعهد مسؤول عنه من خان فيه
(ا) أدب الزوج
يقول الله سبحانه للأزواج في شأن زوجاتهم: (وعاشروهن بمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، فالقرآن يعطف قلب الرجل على زوجه، ويعلمه أن العشرة بالمعروف أمر يحتمه الدين إن لم تنهض به مروءة ولم تدفع إليه عاطفة
حتى إذا ما فترت جذوة الحب، وهدأت وقدة الاشتياق، وبدأ يلتوي عنها زهادة فيها أو طموحاً إلى سواها؛ فمن الحزم ألا يغلو في الصدود عنها، وألا يسرف في متابعة هواه، وأن يلتمس الخير من جانبها، فربما كانت - على سلوته عنها - مصدر نعمائه، وملتقى أمله ورجائه، وكثيراً ما تعزف النفس عن شيء ويجعل الله فيه خيراً كثيراً
كذلك يأمر الله أن يبسط الزوج كفه بالإنفاق على الزوجة غير مسرف ولا مجهود، بل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)، فليس جائزاً للواجد أن يبخل، ولا مطلوباً من المعسر أن يتكلف، وإلا تصدع البناء بجموح المرأة إذا استفزها الزوج بشحه وتقتيره؛ وكم ترامي إلى الأسماع من سوء القالة بسبب شح الزوج، وعدم قيامه على رعاية الزوجة فيما تقتضيه العشرة. . .
فلإسلام حينما يطلب إلى الأزواج أن تسخو أيديهم على الزوجات، لا يرمي إلى شهوة الطعام والشراب وحدها، وإنما يتجه إلى شيء لا يعدله شيء، وإلى الاحتفاظ بنفيس دونه كل نفيس؛ ذلك هو العفاف مصوناً مما يشوبه، مضنوناً به أن تنال منه المساومات وتستغل فيه الحاجة
وفوق هذا الحض على كفاية الزوجة، يحظر علينا الإسلام أن يطمع الرجل في مال زوجته، أو يحتال في استرداد ما أعطاها من صداق؛ ويقول القرآن في ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) ويقول: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) ففي هاتين الآيتين يمنع الإسلام أن يقتنص الرجل مال المرأة كرهاً، على نحو ما كان شائعاً في الجاهلية، ويمنع أن يعضلها الرجل - يضايقها بنوع من أنواع الإساءة - ليستدرجها إلى ترضيته بشيء من مالها، أو لترد إليه بعض ما أعطاها. ويأمر الإسلام أن يدفع الزوج إلى الزوجة ما تستحقه من الصداقة نحلة: - خالصاً من شوائب النقص والتلكؤ في الوفاء - وليس يحل للرجل إلا ما رضيت به نفسها طائعة سمحة، فقد يطيب لها أن تجامله أو ترغب في معونته (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً). ونحن إذ نرى الإسلام يتحرى الاحتفاظ بحقوق الزوجة في مثل هذه الآيات، لا يعزب عن خواطرنا أنه كذلك يستبقي للرجل كرامته، ويؤيد ماله على الزوجة من الهيمنة، وأن زوجاً يتَناسى مكانة الرجولة، ويبتاع بها شيئاً من حطام الزوجة، لهادم بيده بناء الأسرة، وواضع نفسه حيث لا ترضى طبيعة الرجولة ولا تطمئن الكرامة إلى حراسته لأنوثة الزوجة
وإلى جانب ما ذكر القرآن من أدب الزوج، جاءت سنة النبي (ص) بالكثير من وصايا الأزواج، فيقول (ص): (استوصوا بالنساء خيراً، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتموهن بكلمة الله). ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). ويقول: (أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)
فالزوجة في اعتبار الإسلام أمانة عند الرجل، وهو مسئول عن الأمانة في غير هوادة أمام الله، والمرأة مخلوقة من ضلع، وهو أعوج بطبعه، فلا بد أن يكون بالزوجة بعض القصور، فمن شاءها تامة المواهب، وطمع في كمال النضج منها، فإنما يطمع في محال لم تتهيأ له طبيعة المرأة
وإن حاول الرجل تقويم المعوج منها كسَرها، وكسرها هو الطلاق، فليرتفق بها ما استطاع، لئلا يذهب تعديلها إلى كسرها بالطلاق، والطلاق مكروه عند الله، وإن كان جائزاً شرعاً
والنبي (ص) يصرفنا عن التعرض لذلك بقوله: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)
فالمرأة على أي حال بحاجة إلى الصبر على ما يمكن احتماله منها؛ ومن شرف الرجولة أن يكون الزوج سمحاً لا غضوباً، وبساماً لا قطوباً، وأن يكون محسناً معها في كل آن، وصاحب اليد عليها في كل شيء؛ واليد العليا خير من اليد السفلى كما يقول الرسول
(ب) أدب الزوجة
أما أدب الزوجة مع الزوج فيتمثل واضحاً في قول النبي (ص): (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). . . فانظر إلى هذا البيان الجامع الحق، تر أن فضل الرجل على زوجته يقتضيها في نظر الإسلام أن تتأدب معه إلى غاية من الأدب هي أقرب منزلة إلى العبادة؛ ولو كان السجود مشروعاً لغير الله سبحانه لكان لزاماً على الزوجة لزوجها، فإن لم يكن هذا فليكن ما يدنو منه من الأدب المشروع، حتى ليخبرنا النبي (ص) بأن من لم تتسم بهذه السمة لا حظ لها فيما تأتي به من القربى إلى الله، وإن كدّت في العمل وضاعفت في المسعى والجهود، فيقول (ص): (ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى) فليس لمن سخطها الزوج سبيل إلى الله سوى عدولها عن مغاضبة زوجها والتماسها مرضاته، وإلا فعذاب الآخرة يترصدها، ونعيمها غير ممدود إليها إلا بعد لأي وهوان
وفي هذا يقول الرسول (ص) (. . . ورأيت النار، فلم أر منظراً - يعني لم ير ما يسر - ورأيت أكثر أهلها النساء. قال الصحابة: ولمَ يا رسول الله؟ قال (ص): بكفرهن! قالوا: أيكفرن بالله؟ قال (ص): بكفرهن العشير - الزوج - وبكفرهن الإحسان: لو أحسنت إلى إحداهن الهدر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!)
وفي هذا تنبيه للنساء إلى عيب شائع في الكثرة منهن، هو عدم اعترافها بفضل الزوج، حتى لو أنه غمرها بفضله، ومكن لها من عطائه وبره، ثم صادفت منه أمراً هيناً لا يعجبها، أنكرت ماله من حسنات سابقات؛ وإن القرآن ليعطف قلوب النساء على الرجال كما عطف قلوب الرجال عليهن، فهو يرجع بالمرأة إلى القناعة والرضا عما يستطيعه الزوج من النفقة، ويعدها بتفريج ما قد تحس به من ضيق، فيقول تعالى: (. . . ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً)، ففي هذا مواساة لمن قدر عليه رزقه كما أسلفنا، وفيه توجيه للمرأة: ألا ترهق الرجل بما لا يطيقه، مخافة أن يثقله العبء، وتعجزه الحيلة، فضيق بالحياة الزوجية، ويتصدع البناء
والقرآن يصارح الزوجة أكثر من ذلك بما للرجل من فضل، وبالسبب الذي كان من أجله ذلك الفضل عليها، فيقول: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
فالرجل هو القوام - المهيمن - على زوجته، وصاحب الأمر معها في حدود ما شرع الله، لما امتاز به غالباً من حصافة ونضج، ولما ينفق من ماله ويلتزم لها من الحاجيات والمصالح، وكذلك يقول القرآن: (وللرجال عليهن درجة)، يعني للأزواج سلطة ورياسة، ولهم الأمر والنهي بمقتضى ذلك، فما ينبغي أن تأبى الخضوع له، وتتخطى حدودها معه، وعليها أن تمد إليه يد الطاعة، وتستمد الرأي من جانبه، ما دام غير متحيف ولا متجانف، لئلا تُعرّض الحياة بينهما لطوارئ الفساد والانحلال
وخلاصة ما يرجى من الزوجة تحدث بها النبي في إيجاز، إذ قال له سائل: أي النساء خير يا رسول الله؟ فأجابه: (التي تسره إن نظر، وتطيعه إن أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها - أو وماله - بما يكره)
ومن هذا الذي تحدثنا به ورويناه، يتبين للناس ما ينبغي أن يراعوه من نظام الحياة الزوجية، من آداب العشرة بين الزوجين، ولو أن الأمر هنا على ما يقتضيه النظام الإسلامي، لما سمعنا تلك الشكايات الصارخة تتردد على ألسنة الرجال من بعض النساء، وتنحدر بها مدامع النساء من قسوة بعض الرجال، والله يعلم المفسد من المصلح، ويعلم المنصف وغير المنصف
وسيجزي الله الذين أساءوا بما عملوا، وسيجزي الذين أحسنوا بالحسنى
(لها بقية)
عبد اللطيف محمد السبكي
المدرس بكلية الشريعة