مجلة الرسالة/العدد 411/من الأدب النسائي
مجلة الرسالة/العدد 411/من الأدب النسائي
من مذكرات مطلقة
للسيدة الفاضلة (ليلى)
(إذا قسا قلب الرجل ومات ضميره فلن تجد الرحمة سبيلاً إلى
قلبه، وهيهات أن يرد إليه الشعور أنه سارق، وفي بعض
الحالات قاتل. يعطي باليمنى ويسلب باليسرى، ويغتصب
الروح الهانئة لتحل الشقوة ويدب التلف إلى القلب النابض
فيخفت. أيها الإنسان العابث! أما عرفت أن هناك إلهاً
بالمرصاد؟)
أذلك حلم أتخيله، أم هي الذكريات تطوف برأسي كما يطوف النحل بخلاياه لها أزيزه وطنينه، ولكنها لا تنتج العسل ولا فيها شفاء للنفس ولا للناس؟ لقد كادت صرخة الجوع تفلت من بين شفتي، ولكنها في سجن من الإباء وقيد من الكبرياء! لقد سمحت للدموع أن تطفئ أشجاني وتبرد نار أحزاني، ولقد هتفت بوحدتي أن أسبلي على ستارك، ولا تمتعي بآلامي مهجة الشامت، حتى تستقر نفسي، ويعاودني كسابق الأمر أنسى، وهيهات. . . فالقلب قبر صامت يحمل رفات الذكريات! لقد نسى الغادر كؤوس الهناءة التي سكبتها له بيدي، وألوان السعادة نعم بها في جواري، وجنة البيت تضفي عليه النعيم. . . نسى الصدر الرحب الذي وسع أنانيته، والروح التي خلقت فيه عبقريته. . . نسى الحنان يرتع في جنباته، والحب الخالص يرعاه في غداوته وروحته. . . كانت حياتنا معاً مثلاً عالياً للوفاء، فبرهنت الأيام على أن ليس لحال بقاء. . . نسى كل شئ، وبرم بعشرة السنين الطويلة: لم يرحم الإحساس المرهف يجرح بسكين الصد والهجران؛ ولا الآلام تخترم الجسم الرقيق كالنبال، ولا النفس العالية يسهمها الخسف والهوان؛ وطغى كالسيل الجارف يهد من جسر الآمال، ويذيب الأماني ويفرقها في صميم الأوحال! أستبدل بالمرحلة السعيدة التي قطعناها، أخرى شيقة ما ألفناها، تبدل وتغير من ربيع زاهر ضاحك إلى خريف مجدب ماحل، ثارت النفس لهذا الاختلاف، ثم جاء وقت الحساب، فما أجدي تفاهم ولا عتاب. افترقنا، هو سادر في غلوائه، وأنا قلبي تائه في بيدائه، وحملت نفسي أشلاء ممزقة وهي حائرة مبعثرة، وصرخت في وجه القدر: أنا صابرة صابرة، وعلى تحدي غدره قادرة! أشحت بوجهي حين تقدم إلى بالمساعدة، حتى حقوق رفضتها معاندة، وخرجت من بيته مرفوعة الرأس. وهناك في غرفة حقيرة الأثاث انطويت على نفسي بعيدة عن الناس، أبيع الحلية أسد بها الرمق، أغالب حالات الضيق والقلق، وأطارد شبح الذكرى حتى حقرت في نظري الحياة. وما هي ذي نفسي تستمرئ هذا العيش الجديد، بالرغم من بعده عن كل تغيير وتجديد. بقى فضول الناس، فهم بمعرفة حقيقتي مولعون؛ يعجبون لوحدتي وانفرادي، ويتساءلون عمن أحب وعمن أعادي. لم يبق غير الجبل أسارع إليه لأدفع عني شر الإنسان، ولا بد انه ملاحقي في كل زمان ومكان. إني أحسن جوارهم، ولكن لا أحب حوارهم. آنس بالوحدة وأرى فيها عالم من نور، وأوقن أن ما يصيبنا في كتاب مسطور. درأت عن نفسي فتنة الدنيا بهذا الاحتجاب، وكأني سائحة طال عليها الاغتراب. رأيت السلوان في مصحفي وكتابي، وناشدت الله أن يجزل ثوابي؛ حتى إذا اجتزت المحنة في ثبات. أخذت أفيق من غمرة ذهولي وأقول: حياة كالعدم، شئ غير معقول. . . لم لا آخذ من دهري بنصيب، وأستبدل حبيباً بحبيب؟
صحت وقد نفضت عني حياة العدم، فليس في صفحتي ما يوجب اليأس والندم: أشرقي يا نفسي في جوانب صدري. هأنذى لا زلت شابة فتية. . . لم تكونين يا نفس ضحية الأحزان ونعيم الوجود يبدو أمامك؟ انشطي وأفسحي المجال لروحك، وضمدي بالسرور شتى جروحك. . . ما ضرك لو تعرفت بهذا وذاك. . .؟ أليس لأسير الأسى من فكاك؟ أيقضي علي بالقسوة والحرمان، وسواي يلهو مع الصحب والخلان. . . إن ظهري لا يحتمل وقر السنين، ولا يرضى بشقاء العيش غير المجانين! لقد لقيت جزاء الإخلاص، وأفلست من حبه أيما إفلاس، ولكني سأتناول بيدي كؤوس النعيم، وأطرح همي الدائم المقيم. نحن بني آدم كالأعاصير نثور ونهدأ، وما نحن ألا قصة أو حديث في أساطير، ومهما طال بنا الأمد فسيجرفنا الفناء. وسنجد أن الحياة لم تكن تستحق العناء، فلنشرب من وردها الصافي. إني احبها وعلى رأسي تاج من الشرف يلمسه من جهلني ومن عرفني. أحبها في أحضان السمعة الطيبة والكرامة، ولا ينقصها وخزة ضمير ولا ندامة. فاللهم اهدني السبيل، واكفني شر القال والقيل. كيف أناضل للعيش وحيدة، وأنا بمعرفة أساليب الناس بعيدة؟ وا خيبتاه أن وقعت في الحبالة، ولم يبقى في مصباح عقلي زبالة. اللهم خذ بيدي فلست أريد إلا أن أخرج عن جمودي وأشعر بكياني ووجودي. هأنذى أفتح النافذة وأتلقى نظرات جاري متحفزة. قال: عمي مساء! قلت: عم مساء! قال: يظهر أننا في الوحدة سواء. لم تنفرين من المجتمع، أما من أقارب أو أصدقاء لك في هذا البلد؟ قلت وجدت الخير في صحبة الكتاب، بعد أن تقطعت بيني وبين صاحبي الأسباب. أما البنون فالحمد لله الذي رفع عني عبئهم، ولم يشأ أن أتحمل ذنبهم. قال يا لك من مسكينة! لا بد أن تكون حياتك موحشة قاسية، وماذا يملأ فراغك؟ ما ضرك لو نكون صديقين؟ فكانت إجابتي بسمة ساخرة، وكنت في تحويل دفة الحديث ماهرة. ثم أقفلت النافذة بغير تحية، وأنا أقول: خاب فألك! لن أكون مرة أخرى ضحية
دخلت على جارتي ودعتني للزيارة، فلم أشأ أن أعارض، وجلست إليها أستمع هراء في هراء، ولا أدري أن كان حديثاً أو مواء. لقد حاولت الإفصاح، وأخذت تستدرجني لأقص عليها واقعة حالي، وأنبئها بآلامي وآمالي. فقصت عليها أمري باختصار، فأضهرت لي أنها من خيرة الأنصار، وأخذت تلين ملمسها كالحية الرقطاء، على صورة لم يخف ما بها من دهاء. وبرغم تظاهرها بالبذخ واليسار شعرت باحتقارها. ثم خرجت من لدنها وبيني وبينها هوة سحيقة. لقد تجرعت الساعة التي قضيتها معها ككأس مرة المذاق، وقد عزمت وأكدت العزم ألا يكون بعدها تلاق
خرجت اليوم في الطريق، من غير ما صاحب ولا رفيق، فآخذتني النظرات السافلة، ورحت أتعثر بين السابلة. أخذت سمتي إلى ملهى من الملاهي، وأنا أقول أسألك العصمة يا ألهي. رأيت نساء يرقصن شبه عرايا، ونفوسهن تشف كالمرايا، ليس لهن هدف غير الرجال، وسلب ما يقدرن عليه من مال. أما الحب الذي يتظاهرن به فما هو إلا خداع وإغراء، قد جاز على عقول هؤلاء التعساء. كانوا يلتهموهن بأنظارهم التهاما، ويظهرون جوعاً وهياماً. والنساء يتدللن والرجال يتعللون، وكل بدوره يحيك الشباك، ويبحث عن ضالته هنا وهناك. وبدلاً من أن أسر بالأنوار الساطعة والموسيقى الصاخبة، شعرت كأني أريق ماء وجهي، وأن الشيطان واقف وراء ظهري وأمامي ينفث من روحه في تلكم الأنغام؛ فأسرعت بالفرار من هذا المكان، أنشد في وحدتي الطمأنينة والأمان.
(ليلى)