مجلة الرسالة/العدد 411/سليمان فوزي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 411/سليمان فوزي

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 05 - 1941



دمعة مكبوتة على فقيد عزيز

للأستاذ صالح علي عيسى السوداني

أي أستاذي وصديقي سليمان فوزي!

لقد كنت في حياتك بي مرحبا حفيا، وهاأنا قد أصبحت اليوم بموتك شقيا. . . لجأت إلى الدموع فلم تسعفني من شدة الحزن. . . وشر الدمع ما كان عصيا. . . واقتل الحزن ما كان مكتوبا دفينا

وما قَّصرت في جزع ولكن إذا غلب الأسى ذهب البكاء

أي سليمان! فما اعظم مصابي بك! وما اشد حزني عليك!

إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

أخَلاي لو غير الحِمام أصابكم ... عتبت، ولكن ما على الموت معتب

اتصلت بالمغفور له سليمان فوزي منذ نيف وعشرين سنة فألفيته على جوانب عظيمة من المروءة والشهامة والنجدة والإخلاص لإخوانه، والاستخفاف بالشدائد والاعتداد بالرأي والاعتماد على النفس والاستهانة بالمال ينفقه في سبيل أداء الواجب نحو وطنه وأبناء وطنه وإخوانه وزملائه، إذ كان يؤثرهم على نفسه، ويا طالما كان يضيق على نفسه ليوسع على العافي المعوز من أصدقائه الذين اتصلوا به

ولقد لازمت الفقيد - رحمة الله - في كثير من أوقات الشدة والمحنة داخل السجن وخارجه، فكان القدوة ومضرب المثل في الشدائد مع الرضاء. . . كان يقابل النكبات بابتسامته الساخرة والتهكم المحبب إلى ذوي النفوس القوية، فإذا حاولت أن تسري عنه أو تهون عليه سرعان ما كان يقف منك موقف المسري المخفف لما حاولت أن تهونه عليه! مزدرداً البلوى النازلة مهما عظمت، والنكبة الطارئة مهما كبرت، بتلك الكلمة التي يتخذها شعاره وهي: (ربنا يستر). كان يقولها في المواقف الحرجة التي ترتعد فيها الفرائض، والمواطن الخطرة التي تنخلع لها القلوب وتذهب شعاعا. ولا عجب، فقد كانت تتجلى في الأستاذ سليمان فوزي جميع صفات الشجاعة بأجلى ما في كلمة الشجاعة من المعاني، إذ كان يمضى قدماً إلى الغاية التي كان يتوخاها بنقده، والهدف الذي كان يرمي إليه بحملته الصحفية، لأنه كان يقدس عمله الصحفي، وكيف لا، وهو الذي كان يضحي في سبيل أداء الواجب الصحفي براحته ومكسبه وصحته! ولا جدال في أنه لم يستطع حاكم بسطوته وجبروته أن يرهبه أو يخفيه أو يحمله على العدول عما كان يعتقد محاربته لزاماً. ولم يستطع زعيم أو متزعم مهما بلغ من قوة نفوذه أن يثنيه عن المضي في عمله الصحفي ناقداً أو داعياً إلى الفكرة

وكان الأستاذ سليمان فوزي (أنموذجاً) ومثالاً وصورة ناطقة لجيل من رجالة الصحافة في مصر الذين احتواهم أعنف عهد من سني الحركة القومية والنهضة الفكرية. ولا مريه في أن فقيد الصحافة كان ن ابرز الشخصيات الذين قام على أكتافهم إعلاء شأن الصحافة في مصر، كما في طليعة أولئك الذين خلقوا للصحافة نفوذاً يخشى تجاهله ويعمل حسابه. . . ولكن سليمان انفرد بذلك الطابع الخاص في النقد السياسي اللاذع والتهكم المرير على سياسة وأنانية كثيرين من المتزعمين الذين اتخذوا الاشتغال بالسياسة حرفة ووسيلة لإشباع بطونهم الجائعة، وملء جيوبهم الخاوية. وبعبارة أخرى، كان سليمان في مقدمة أولئك الذين كشفوا للأمة - في شجاعة - خبايا نفوس بعض المتزعمين، وأبانوا للناس حقيقة وطنية المتجرين بالسياسة وعواطف الأمة

وكان من صفات الأستاذ سليمان فوزي المبادرة إلى معاونة كل صحفي إذا ألمت به ملمة حتى لو كان هذا الصحفي من خصومه في الرأي الذين قاومهم وقاوموه - على أني لم أر للراحل الكريم ضريباً في بذل الجهود لمعاونة إخوانه في أوقات شدتهم. وأني لأكتفي بذكر القليل من المروءة التي كانت تتجلى في الأستاذ سليمان فوزي نحو خصومه من رجال الصحافة والسياسة

لما قبض على الأستاذ الكبير محمد توفيق دياب في قضية سياسية (كيدية) وكان قد أستشهد بي ضد الكاتب الكبير بعض الذين كانوا يأكلون لقمتهم مغمسة بدماء الناس. وبالرغم من أن الأستاذ سليمان فوزي كان يخاصم الأستاذ الكبير توفيق دياب ويقاوم السياسة التي كان يروج لها، فإذا به (أي الفقيد الكريم) يسرع في مقابلتي - بمجرد أن علم بإلقاء القبض - ليذكرني بواجب الرجولة نحو رجل من حملة الأقلام - ولم أك ناسياً - وقد طالبني أن أقف في صف الأستاذ الكبير توفيق دياب وأن أكون له لا عليه في وقت شدته، على أن نستأنف مقاومة رأيه السياسي بعد إطلاق سراحه. وقال: أما وهو رهين السجن فلنقم نحوه بما يفرضه الواجب على الرجال. قال ذلك، ثم أخذ يسعى لدى الدوائر الرسمية طالباً أن يعامل الأستاذ توفيق دياب في سجنه معاملة ليق بمكانته كأحد قادة الفكر في البلد

إذن لست مبالغاً إذا قلت أن المغفور له الأستاذ سليمان فوزي كان ينفرد في بيئته بالمروءة والشهامة والنجدة والشرف في الخصومة وتناسي الأحقاد وقت الشدائد. . . فهل قام إخوانه بالواجب نحو رجل كان يقوم بالواجب طوال حياته. . .! لعل الجواب لدى الأستاذ الهيهاوي والأستاذ محمود أبو الفتح وغيرهما

ولقد كان الأستاذ سليمان يقدم حيث يحجم غيره! كان قوياً في مواقفه الوطنية، كما كان يجامل أنداده ويلاطف من دونه، يشبع جائعهم ويكسو عاريهم. . . وقد كان رجلاً فوداعاً يا رجل!

صالح علي عيسى السوداني