مجلة الرسالة/العدد 401/من سماحة الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 401/من سماحة الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1941



الله الله!

للأستاذ كامل محمود حبيب

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب

يردوكم بعد إيمانكم كافرين؛ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم

آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط

مستقيم؛ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا

وأنتم مسلمون؛ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا

واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم

فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم

منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)

(قرآن كريم)

ما لهذا الشيخ يقضي يومه مقبلاً مدبراً يختلس النظر إلى جماعات الأنصار وهم جلوس يتحدثون في هدوء، وعلى وجوههم نور الهداية يتألق؟ ماله ينفضهم بنظراته وإن عينيه لتقدحان شرراً، وإن قلبه ليضطرم حسداً وإنه ليحدث نفسه - في مغداه ومراحه - يقول يا ويلي! لقد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار؟ لعله يهيئ أمراً أو يصنع حادثة

إنه شيخ من يهود قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، يحزّ في نفسه ما يرى بين الأوس والخزرج من ألفة وإخاء، ويغيظه أن تجمعهم آصرة أو تربطهم وشيجة، إنه هو شاس بن قيس

لا جرم، فلقد كان شاس بعض الفئة الباغية من يهود ممن عتوا عن أمر ربهم ونصبو الرسول الله العداوَة والبغضاء بغياً بغير حق ولا علم، يتعنتونه، ويأتونه باللَّبس ليلبسوا الحق بالباطل، ويحاولون جهدهم أن يفتنوه؛ ممن انحدر في دمائهم حب العنت، وأشربوا في قلوبهم روح المكابرة من لدن مَن قال من أجدادهم: (أرنا الله جهرة) حتى مشرق الإسلام على جزيرة العرب؛ ممن عموا وتاهوا وارتدغوا في حمأة الضلالة على يدي علمهم

أفكان لمحمد أن يلم شعث هذا الناس ويجمع شتاتهم على كلمة الدين. . . كلمة الأمان والسلام بعد ما كان بينهم من تنافر وتنابذ في يوم بعاث ومن قبله يوم مفلَّس ومضرس، ثم لا يتلمس هذا الفاسق حيلة يريد أن يطفئ بها نور الله وأن يؤرث بها ضغائن مسحت عليها يد الإسلام الرقيقة؟ أفكان الدين الجديد أن ينفث سحره في قلوب الأعداء فيصبحوا بنعمة الله إخواناً. ثم لا يجد هذا الفاجر مَسَّ الغيظ في قرارة نفسه يوشك أن يعصف به؟

لعمري إنه ليعلم أن هذا هو الدين الذي كان ينتظر، يجده مكتوباً عنده في التوراة؛ وهذا هو النبي الذي كانوا يستفتحون به على أهل الشرك من قبل أن يأتيهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وأعرضوا عنه، وحملوا عليه، حسداً من عند أنفسهم

وانطلق شاس يفتش عن دواء لداء الغل الذي يحز في نفسه فيثور به فيمنعه القرار، وينفث في حياته قلقاً ما يطمئن. . . انطلق والشيطان يدفعه ويوسوس له، فاستنام إلى رأي الشيطان

ولا ريب، فللشيطان قدرة على أن يحل كل مشكلة بطريقة شيطانية تبذر - دائماً - غراس الخراب والدمار، وتلد - أبداً - الشقاق والبغضاء

وجلس الشيخ إلى فتى غرّ أهوج من فتيان يهود يتملقه حيناً وينشر على عينيه ضعفه حيناً؛ وراح الشيخ يمكر بالفتى يقول: (. . . واتخذوني يا بني سخرية إن أنا أقبلت أو أدبرتُ؛ وأنا رجل كبّار، قد دقّ عظمي وتقبّض جلدي على مثل ما ترى، لا حول لي ولا طول، وهم ما ينفكون يهزؤون بكتابنا ويحتقرون ديننا ويتندرون على أحبارنا، فنستشعر الهوان والذلة ونحن كنا في العز والمنعة. ومَن لنا وللدين إن لم نجد في شبابنا وهم كُثر، مَن يرد عنا كيد هؤلاء ويدفع أذاهم. يا بني. . . يا بني. . .) وأطرق الفتى يتسمَّع دويّ صوت الشيخ، وإن الكلمات ليتردد صداها في مسمعيه فيخترق شغاف قلبه فيلقى السَّلم إلى أستاذه رويداً رويداً. ولا ضير فهو يحس مسكنة الرجل وانكساره

ورأى شاس الخديعة تنطلي على الشاب حين أسلس وانقاد فاندفع يحكم العقدة، فأقبل على الفتى يقول: (ياعجباً، لقد عرفتك أيّداً جلداً إذا حزب الأمر أو أعضلت المسألة، فما بالك الآن حيران لا تتماسك؟ لعل خشية القوم قد تسربت إلى قلبك فأنخلع فؤادك رهبة وجزعاً!). فأجاب الفتى في سرعة: (كلا، كلا يا سيدي، ولكني لا أجد الرأي)

فقال الشيخ في هدوء: (الرأي عندي أن تسعى فنفرق كلمتهم ونصدع ألفتهم فتنكسر شوكتهم وتنهد قوتهم، ونظهر نحن عليهم) قال الفتى: (وكيف؟) فأجابه الشيخ: (تعمد أنت إلى القوم وهم في مجلسهم يتسامرون فتذكرهم بأيام الجاهلية وتبعث في نفوسهم ذكرى ضغائن شغلتهم عنها أعباء الدين الجديد، وتنشر على أعينهم حديث يوم بعاث وما كان قبله، وتنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من أشعار. . . هذه، يا بني، هي الشرارة الأولى؛ ولا عجب إن هي سعرّت بينهم نار الحرب التي انطفأت منذ حين

وراح الفتى يندس بين جماعة من الأنصار يصحبه الشيطان، وأخذ يحمل القوم رويداً رويداً على ذكر أيام خلت، ويقص حادثات تبعث ميت الحقد، وتثير دفائن الغيظ، ثم هو يتلوى في حديثه ليذكر غلبة الأوس واستخذاء الخزرج. . .

ونفذ الفتى من ثغرات ضيقة إلى قرار القلوب، فتغلغل الحديث في نفوس القوم، وتشعب الكلام فنوناً، واندفع كل حزب يفاخر صاحبه ويباهيه، ويتطاول عليه ويكاثره. . . ثم شرى الأمر بين أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتواثبا على الرُّكَب يريد واحد أن يبطش بصاحبه، وتناثرت بينهما ألفاظ طمست على صفاء كان بينهما منذ ساعة؛ وانحازت طائفة من الأوس إلى صاحبهم، وأعان الخزرج محاميهم، وانفرط العقد، ودبّ دبيب الشحناء، وبدت البغضاء على وجوه القوم، وطغت عليهم طبائع الجاهلية التي تنشئوا عليها وعاشت في دمائهم سنوات وسنوات؛ فقال واحد لصاحبه: (إن شئتم رددناها الآن جَذَعةً). فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: (قد فعلنا، موعدكم الظاهرة). ونفر القوم وهم ينادون: السلاح السلاح! وأقبل شاس بن قيس في جماعة من ضلاّل يهود يرقبون ويبسمون، وفي رأيهم أن كيد الكافر يفلح، على حين أخذ الفريقان من الأوس والخزرج ينسلون في السلاح إلى موعدهم، إلى الظاهرة. وكادت الفتنة أن تقع فينهار صرح مشيد على يدي فاسق زنديق، لولا أن منَّ الله على أوليائه، فأنقذهم وهم على شفا جرف

وانطلق رسول السلام إلى رسول الله (ص) يخبره الخبر، (. . . وطارت الهيعة تجمع شتاتهم على باطل، فهم هناك في الظاهرة، تكاد نقمة الله أن تنحط عليهم فيرتدوا كافرين)

فخرج إليهم رسول الله (ص) قبل أن يبلغ الشيطان غايته. . . خرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم وإن سيفاً يوشك أن يقرع سيفاً، فناداهم: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بين قلوبكم)

وأفاق الأنصار من ذهول حين هبطت كلمات الرسول (ص) على القلوب برداً وسلاماً، فبدت لهم سيئات ما عملوا وتخاذلت أيدٍ كانت تحمل السلاح، وأقبل بعض على بعض يتعانقون ويبكون؛ وانسل الشيطان من بين الفريقين وقد كبته الله، وارتد عدو الله شاس يستشعر ألذلة والهوان. وتصافت قلوب كانت توشك أن تتهاوى على أسنة الرماح لأنها أصغت إلى حديث الشيطان ساعة من الزمان. . . تصافت، لأن قوة الإيمان سماوية تترفع - أبداً - عن الحزازات الأرضية

(المحلة الكبرى الثانوية)

كامل محمود حبيب