مجلة الرسالة/العدد 400/يبغي ربا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 400/يبغي ربا

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1941


ً

للأديب لبيب السعيد

كان كغيره في القبيل يعكف على (نهم): يرجو رحمته ويخشى عذابه، ويتقرب إليه زلفى. . . وكان على سنة آله يسعى إلى معبوده بالقربان ويؤدي إليه بعض حقه، يدرأ بها غضبه، ويبتغي بها مرضاته!

كان في هذا على آثار آبائه مقتديا، ولكن شيئا من القلق كان يغمز على قلبه، ولكن جمرات من الشك كانت تلسع ضميره، ولكن أقباساً كانت تبدو لعقله حيناً بعد حين فتشعره أنه يخبط في ظلمات. . .

أهو الهدى يبدو له، أم هو الضلال توسوس به نفسه؟

وصبر أو تصبر. . .

وأتى يوماً إلى (نهم) يصب له لبناً، وإن فيه لإيماناً يمتزج بالشك، ونوراً وظلمة يتصارعان. . . على أنه قدم قربته المتواضعة خاشعاً، ثم أنصرف. . .

كانت نفسه تبتغي طمأنينة وهداية، فإما أن تعالج إيمانها بنهم، وإما أن تطرح هذا الإيمان طرحاً، لتؤمن إيماناً حقاً بإله لا ترتاب في أنه حق. . .

وحانت منه التفاتة عارضة لمعبوده، فما كان أبلغ دهشه! لقد رأى - ويا عجباً - كلباً يشرب اللبن المقدس، والمعبود مغلوب على أمره: أصم. . . أبكم. . . أعمى. . .

وتريث قليلا. . . فرأى الكلب وقد فرغ من اختلاس قربة المعبود العاجز يرفع رجله فيبول عليه!

أذلك مبلغ (نهم) من الحول والقدرة والعز؟ أهذه جلالته وذاك سلطانه:

ألا يا نهم إني قد بدا لي ... مدى شرف ببعد منك قربا

رأيت الكلب سامك حظ عسف ... فلم يمنع قفاك اليوم كلبنا

لقد تمرد فؤاده على الأيمان بالتمثال المهين، وقد بدا له ما كان يخوض هو وقومه من ضلال. . .

وسمعته أمه يسخر بإلهها وإله ذويها فهالها الأمر وأقبلت عليه غضبى تنبهه إلى فداحة جرمه وضلالة حكمه وهول زعمه مشفقة عليه من عذاب (نهم)! بيد أن إنكارها ما لبث أن استحال إقراراً، وإخلاصها لنهم ما لبث أن عاد ازوراراً، ذلك أنها سمعت حكاية الإله التعس، والحق أبلج لا يستعصي على البصائر إدراكه، مادام القلب سليما والنية الخالصة

وأنشأت تقول:

فديتك فابغنا ربَّاً كريما ... جواداً في الفضائل يا بن وهب

فما من سامه كلب حقير ... فلم تمنع يداه لنا بربَّ

فما عبد الحجارة غير غاو ... ركيك العقل ليس بأهل لبَ

وظل النجل المشوق إلى الحق يتحرى ما تريد الأم المشوقة إلى الحق. . . يتحرى ربا كريما جواداً في الفضائل. . .

وصرم نهماً، ولبث يصلي حيث يستريح جنانه، وحيث توجهه القوة العظيمة التي بيدها مقاليد كل شيء. . .

الكون يريد الله به الخير والرحمة؛ والقلوب التي عذبها القلق وأضنتها الحيرة يريد الله لها السكينة والاستقرار والمعرفة، والدجنة الغالبة يريدها الله على أن تنقشع، والنور الذي أكن الله للمهديين من عباده آن انبثاقه. . . فالإنسان الكريم الذي اصطفاه الله لهذا وبلغ أبا ذر مبعث محمد ، فخفقت الأماني في صدره، وود لو صح الأمل، وقال لأخيه: (اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني.)

وتلبث أبو ذر يرقب أخيه بصبر فارغ، وعاد أخوه يقول: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر)

لم يبل هذا القول من أبي ذر أُواما، فهم يتزود لرحلة يقوم بها هو نفسه، وحمل شنة له فيها ماء، حتى قدم مكة بلد الرجل الذي يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً تذهب فيه العقول مذاهب. . . وأتى المسجد يلتمس هذا الرجل، ولكنه لم يكن يعرفه، وقد كره أن يسأل عنه. . .

وفي اليوم الثالث لمقدمه أقبل عليه علي بن أبي طالب، وقد أدرك أنه غريب، فقال: (ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟) قال أبو ذر: (إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت) فلما أخذ موثقه، أخبره بطلبته

إذن لقد هدى الجد الموفق أبا ذر إلى أحد أصفياء الرسول السابقين إلى الانتهال من معينه، الراغبين في نشر دينه

ولكن الظلم يومئذ كان للمؤمنين بالمرصاد، وكانت متابعة محمد يومئذ تكلف فاعلها ما لا صبر معه إلا أن تكون الحسنى قد سبقت له من الله هذا، وقد كان من دون لقاء الرسول أذى كثير

على أن عليا ذلل الصعب، فبلغ القريب غايته، وحظي بلقاء الرسول، وسمع الحكمة منه وفصل الخطاب

ووضحت المحجة لأبى ذر، واستضاء الحق أمامه، كأنه النهار إذا تجلى، وعرف الرب الذي طالما حن إلى معرفته. . . فأسلم مكانه ليكون من السعداء بالكرامة قبل أن تكون كرامة، وبالهداية قبل أن تكون هداية، وليكون من المؤمنين القليل قبل أن يكون مؤمنون كثير!

وقال له الرسول رءوفا به رحيما: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) ولكن أبا ذر كان من إيمانه كالنهر الطافح الفياض لا بد أن يهدر بما فيه وبتدفق على ما يلاقيه، فهو يجيب الرسول في لغة الواثق بربه، المعتز بعقيدته، المتفاني في حبها والدعوة إليها (والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم)

ألا فليصرخ أبو ذر بها، فما أعذب وما أحلى!! وما الظلم، وما البطش، وما الناس، وما الدنيا تلقاء إيمان أقمر في الصدر فأضاء جنباته؟ ما الآلام توجع الضعيف، وما الإهانة تلحق الأبي، وما الموت نفسه يلحق بالحي ما دام يحرز إيماناً بنيله رضوان الله وإعزازه، وبنيله الآخرة التي هي الحيوان؟!

أتحسبها كلمة كان أبو ذر قائلها طواعية لعاطفة ملتهبة تنثني بعد حين هامدة؟ كلا! لقد خرج حتى أتى المسجد - وأهل المسجد يومئذ هم ما هم كراهية مجنونة لمحمد وأتباعه، ورغبة متسعرة في حسم شأفتهم جميعا - خرج حتى أتاهم فصاح بها ما وسعه الصياح، صاح بالشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!

وكان ما كان مرتقبا. كان أن ضربوه حتى أضجعوه، ولم ينقذه منهم إلا العباس الذي أكب عليه منذراً إياهم انتقام غفار الضاربة في طريق تجارتهم إلى الشام

ولكن أتحسب ثانية أن ذلك كان ليصد أبا ذر عن العودة إلى الجهر بشعار الإسلام الذي تشربه قلبه؟ أتحسب خشية العدو المتجبر دلفت إلى قلبه الكبير فمنعته الهتاف بكلمة الأيمان؟ أتحسب ضعفه وكونه وقتئذ خامس خمسة هم كل مسلمي الأرض. . .

أتحسب ذاك ليوهن منه ويقهره على كتمان قولة الحق؟ هيهات! فلقد عاد من الغد لمثل ما كان أمس، وقد عادوا فضربوه، وثاروا إليه، لولا أن عاد العباس فأكب عليه. . .

وقدم أبو ذر على أخيه فأخبره بإسلامه فأسلم؛ وانطلقا إلى أمهما وقد وجدا مبتغاها. . . وجدا (الرب الكريم الجواد في الفضائل)، فلم يكن إلا أن تؤمن! ودخلت بعدهم (غفار) جلها في دين الله، فكانت من كتائبه المجاهدة، وكانت أهلاً لقول الرسول الكريم فيها: (غفار غفر الله لها!)

(المنصورة)

لبيب السعيد