مجلة الرسالة/العدد 400/هو النبي المنتظر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 400/هو النبي المنتظر

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1941



مسرحية شعرية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تقدمة

أبطال هذه المسرحية جماعة من شعراء العصر الجاهلي، هم: زهير بن أبي سلمى، وحسان بن ثابت، وأعشى قيس، وقس بن ساعدة. قد جعلناهم في المسرحية يلتقون ويتحادثون؛ وقد لا يكونون من الناحية التاريخية الزمنية التقوا، أو جمعتهم دار واحدة، أو ضمهم مجلس يدور فيه الكلام، أو تقع فيه الأحاديث

وأولهم (زهير) مات قبل البعثة، وثانيهم (حسان) عاش في الجاهلية وعمر في الإسلام، وثالثهم أعد للنبي قصيدة يمدحه بها ويعرض إسلامه، إلا أن الله لم يشرح صدره ولم يوفق له، ورابعهم عاش في الجاهلية

ولقد حاولت أن أعرض هنا ألوانا من تفكير كل واحد منهم، وطرفا من معيشته يبدو من خلال حديثه، كما تدلنا على ذلك كتب التاريخ والأدب.

(فزهير) حكيم مفكر يؤمن بالبعث والحساب، ويعتقد بالثواب والعقاب، وقيس يشعر ويخطب، وينظر في الكون وما فيه من ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج فيؤمن بأن له موجدا أوجده، ومنشئا دبره، و (حسان) يحس في قرارة نفسه بأنه سيكون له في الغد شأن، وأن الأقدار تعده ليكون لسانا صارما، ويكاد يلمح من خلال الغيب ومن وراءه السحب مكانه في الإسلام وشهادة النبي له بالجنة

أما (الأعشى) فهو عابث خليع. . . يلهو ويلعب، ويشرب ويطرب، ويرى الحياة لذة ومتاعا

المشهد

يجلس هؤلاء الشعراء الأربعة في ناحية من نواحي مكة، بعد أن جمعهم موسم الحج، وعلى (زهير) وقار وهدوء، وهو مطرق إلى الأرض، بينما يرفع (قس) بصره، ويقلب وجهه في السماء، و (الأعشى) يبدو في المجلس وقد عاودته خفة الطرب، وظهرت عليه مسحة روح عابثة ماجنة، وبجانبه (حسان) تتحرك شفتاه ويكاد يبدو من بينهما لسانه كأنه يريد أن يقول شيئا. . . ثم يبدأ الحوار هكذا:

الأعشى:

حَلَفْتُ بها وبأَرْبابها ... وَبالنَّعَمِ الْحُمْرِ في بابها

وبالمْعَبِد الطُّهْر في أرضها ... وباركْن منها وَمحرَابها

وَكُومِ المطَايا وقد أقبلتْ ... تُساقُ إلى يَدِ حُجَّابها

لأَتّخذنَّ بها طَوْفَتي ... وَأَقِضي الحقوقَ لأصحابها

وَأَرْجعُ بْعدُ إلى دارتي ... وفي النَّفْس من حُبَّهَا ما بها

فأَنْشقُ من طِيب ريْحَانهَا ... وَأَشربُ من خَمْرِ أَعْنَابها

وَألوِي بهَا غُصْنَ فتَّانةٍ ... يُلَفُّ الشبابُ بأثوابها

فأُسمِعها الشِّعْر مُسْتعَذَبا ... وَتُسْمِعني لحْن أقصابها

زهير:

ظننتَ حياةَ المرءِ يا شيخُ غادةً ... تُلَفُّ وأكواباً تُراقُ وتُسْكَبُ

دَع القَصَبات اليومَ واسمع لحكمةٍ ... يؤلفِّها شِعْراً حكيم مجرِّب

أَمَالك في الشِّعر المهذّبِ غايةٌ ... ومالك في صدق التجارب مَطلَب

وَحَتَّامَ تلهو والزمانُ كما ترى ... يجيءُ بأَحْداث جِسام ويذهب

عجبتُ لمن يَقضِي الحياةَ مُلاعباً ... وأيامُهُ من جِدهَّا ليس تلعب!

الأعشى

ما العيشُ إلاّ صَباباتٌ موزْعَةٌ ... وَمُتعةٌ وَلذَاذاتٌ وأوْطَارُ

كم مجلسٍ كان لي فيه مُعَابثَةٌ ... وأرْبُعٌ كان لي فيها أسمَارُ

تَظَلَّ فيها العَذارَى يَرْتمين على ... بُسْطٍ وشَاهدُنَا جلُّ وأزهارُ

وكم وقفتُ عَلَى الأطلالِ أسألهُا

قس: وهل تجيبُك في الأطلال أَحْجَارُ؟

الأعشى:

بالله هلْ نَفَعْتكَ اليومَ فلسفةٌ ... وحكمةٌ نَظَمَتْها منك أشعارُ؟ وهلْ تجاريُبك الغرّاءُ نَافعةٌ ... إذا نأَتْ بكَ بعد الموْتَةِ الدارُ

وهل أَتَتْنَا من الماضين تَذْكِرةٌ ... أو طالعَتْنَا من الفِانين أخبارُ

قيس:

عَجِبْتُ لأَعشى قَيْس وَهَو يداورُ ... ويُمْعنُ في أهوائه ويُكابر

فما صَرَفَتْهُ عن هَواهُ شريعةٌ ... ولا ردَّه عن لهوهِ اليومَ زاجرُ

تجَاذِبُه تلكَ القِيانُ فؤادَهُ ... وَتَفْتِنَهُ تِلك المها وَالجآذِر

فهلْ فَتنَتْهُ في السماء نجومُها ... وَهُنَّ بآفاق السماءِ زَوَاهر؟

وهل ليلُها الداجي يُفتِّقُ ذِهنَه ... وهل صُبحُها اللمَّاحُ والضوء باهر

وهل فَتَنتْه الريحُ والريحَ عاصِفُ ... وَأَثَّر فيه البحرُ والبحر هادِر

بَدائِعُ شادَتها يَدُ القادرِ الذي ... تَدين لهُ الدنيا وَتَعْنو الجبابر.

هُوَ الموتُ ما في الموتِ شكٌّ على امرئ ... وللهِ منْ بعد الحياةِ المصائرُ

وَما نحن إِلا الواردون على الوَّرى ... وَلَوْ كَثُرَتْ بالواردين المصادِر

زهير:

يا قُسُّ إِنك قد رُزقتَ لقانةً ... ووُهِبْتَ من فَصْل الخطاب نصيبَا

وأرى عليك من الحكيم مَلاحظاً ... تَرْمى الغُيوبَ فلا يَعُدْنَ غيوبا

عَينُ البصيرة فيك وَهْيَ قويةٌ ... نَظَرَتْ تَرُودُ العَاَلمَ المحجوبا

أنَا ما عرفتُك قبلَ ذلك شاعرا ... لكِن عرفتُك في النَّدِىَّ خطيبا

سبحان من لَقَّاكَ من آياته ... وَحَباك من صدق اليقين ضُروبا

قيس:

إني وجدتُ في السماءِ خبرَا ... كما وجدتُ في دُجاها عِبَرا

أَمْعَنْتُ فيهَا وأَطَلْتُ النَّظرا ... وَرُحْتَ أَطوي في مَدَاها الفِكَرا

أَسْتَقِرئُّ الشمس بها والقَمرا ... وأَقْطَعُ الفِكْرَ إِليها سَفَرا

كأنَّ لي عِنْد السماء وَطَرا ... فأَلهْمتْني من ذَراها سُوَرَا

رَأَيْتُ فيها الخالِقَ المصوَّرا ... وقد تجلَّى وجهُهُ وأَسْفَرا

يَا لَيْتَ مَنْ أَضاَء لي ونوَّرا ... أضاَء للأَعشى الظلامَ الأكدرا وفي هذه اللحظة تمر على الشعراء الأربعة فتاة في برد يماني مخطط. وقد اعتدل قوامها واسرعت خطواتها. . . فتغض عنها عيون ثلاثة من الشعراء. . . أما الأعشى فيتابعها بنظراته الطامعة المتلهفة. . . ولا ينصرف عن النظر اليها حتى تواريها بعض الجدران فيوجه الكلام إلى (قيس):

الأعشى:

يَا نَاظِراً في السماء اليومَ نَظرَته ... هلاّ أطلت لتلكَ الْقَيْنَةِ النَّظَرا

مَرَّتْ بنا كَوميض البرقِ مُعْجلةً ... كأنها الحُلْمُ بعد النَّوْم قد عَبَرا

تفوح أرْدانُها مِسكاً وأَصْوِرَةً ... وَينفَح الْغُصْنُ منها زَنبقاً عَطِرا

ما البدرُ أَجْمَل إِشراقاً ولألأةً ... منها إِذا مَا بدا في الأَفْقِِ أو ظهرا

انظرْ إلى الشمس في أحضانِ غانيةٍ ... ونَاج بينِ ذِراعيْ حِبِّكَ القمرا

لا تقطع الْعُمْر تفكيراً وفلسفةً ... تجني بها الشّوكَ لا تجني بها الزهَرَا

زهير:

صاحبُنا الأعشْى نَطَقْ ... بِسِقْهِ وما صَدَقْ

ما الشِّعرُ يا أَعْشى جنُوُ ... نٌ ومُجُونٌ يُسْتَبَقْ

الشعرُ حِكمة تُصا ... دُ من جوانب الأُفُقْ

في الأرضِ! في السماء! في ... ضَوْءِ الصَّباحِ! في الْغَسَقْ

حسان:

صَدَقتَ يا زُهَيرُ فالشِّ ... عْرُ هِدَايَةُ الْبَشَرْ

مَنْ لي بميْدانٍ أَصُو ... لُ وأَجولُ بالْغُرَرْ

أَنُشرُ عَضْباً قاطِعاً ... كَأَنْهُ وَخْزُ الإبَرْ. . .

وهنا يمسك حسان لسانه ويضرب به أرنبة أنفه في زهو وخيلاء. . . من زهو الجاهلية! ثم يتابع قائلا:

لسانُ حَسَّانَ الذي ... يَفْرى به صَلْدَ الَحجَرْ

يَقذفُ بالحقِّ عَلَىال ... باطل مَهْزومَ الزُّمَرْ

إنيّ أُحس أنَّ لِي ... غداً مِكاناً يُدَّخَرْ وأنني يَكونُ لِي ... فيه المقَامُ والخَطَرْ!

الأعشى:

لعلّها أضغّاثُ أَحْلاَ ... مٍ فَدَعْ عنك الهذَرْ

فأَيّ شأنٍ تَرْتجي؟ ... وأيُّ أمْرٍ تَنْتَظِرْ؟

حسان:

لعَلَّ هَادياً بدَا ... لعلَّ مُصْلحاً ظهرْ

فَفي بطاحِ مِكةٍ ... شواهدٌ مِن الخَبرْ

زهير:

حَسَّانُ! أنتَ مُلهمٌ ... وأنتَ صَادِقُ النَّظِرْ

بَشَّرَ عيسى بِنَبِيٍّ ... مَنْ عَصَاه قد كَفَرْ

يَا ليتني يَطُولُ بي ... إلى لِقائهِ العُمُرْ!

حسان:

إِني أُحِسُّ أنني ... مُدْرِكهُ على الكِبَرْ

إِنَّ دَليلي صادقٌ ... ما خانني ولا غَدَرْ

زهير:

والحكماءُ عِنْدَهم ... على ظهوره أَثَرْ

تَرَامَتِ البُشرَى به ... عند النَّصارَى في السُّوَرْ

حسان:

هُوَ الرَّسولُ المرْتَجَى ... هٌوَ النَّبيُّ المُنْتَظَرْ

وهنا يخفض قس طرفه من السماء قائلا:

هو النبي المنتظر. . .

محمد عبد الغني حسن