مجلة الرسالة/العدد 395/القصص
مجلة الرسالة/العدد 395/القصص
مكافأة رلف. . .
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان النسيم يهب من جانب البحر لطيفاً هادئاً ولكنه بارد على الرغم من هدوئه، وكان رلف مانرنج يرتعش وهو واقف ويدثر نفسه بردائه وقد قلب ياقة السترة ولفها حول عنقه، وقد استمر وقوفه مدة طويلة وهو عديم الحركة. ثم مشى وهو يتلفت نحو كل باب يمر به ليعرف أي المنازل هو الذي يريد، ورأى على ضوء المصباح الرابع في ذلك الطريق منزلاً ذا حديقة صغيرة فوقف أمامه واشتد خفوق قلبه وحاول عبثاً أن يهدئ من اضطرابه، ثم أخرج من جيبه مظروفاً وراجع وصف المنزل الذي يراه على ما كتب على ذلك المظروف بالرغم من أن ما يقرؤه كان منطبعاً في ذاكرته وبالرغم من أن هذا المنزل هو الذي يريده بغير شك
وحاول رلف أن يفحص المنزل فيما وراء الحديقة؛ ولكن النور كان قليلاً فلم يستطع أن يرى غير هيكل يحيط به الظلام. ففتح باب الحديقة ومشى فوق ممر ضيق بين النبات. ولما صار أمام باب المنزل عاد إلى الوقوف مرة أخرى وهو يحاول تهدئة نفسه، ورفع بصره فوجد مصباحاً ضئيلاً يضيء في إحدى الغرف. أما سائر النوافذ فكانت مغلقة؛ فدق الجرس وهو يسائل نفسه كيف يقابل الفتاة التي جاء لمقابلتها؟ وفتح الباب فتنهد تنهد الراحة، وأطلت الخادمة فسألته ماذا يريد. فسكت لحظة ثم قال: هل بيرتا كاستر هنا؟
قالت: سأسأل، ولكن من أنت؟
فتردد رلف قبل الإجابة ثم قال: قولي لها إن صديقاً قديماً يريد مقابلتها!
فظهر الارتباك على وجه الخادمة من عدم ذكر الاسم، وقالت: انتظر قليلاً حتى أعود
ثم أغلقت الباب ودخلت. فابتسم رلف ابتسامة مؤلمة من لجوئها إلى هذا الاحتياط
وبعد قليل عادت وقادته إلى غرفة الاستقبال، فجلس وهو يدير لحظة في كل ما حوله ليفحص المكان، وقد اجتمعت في ذهنه في هذه اللحظة كل الذكريات القديمة. ورأى على المكتب صوراً في أُطُر، فنظر إلى إحداها نظرة طويلة وقد علت وجهه مسحة من الحزن وهو ينظر إلى الوجه الجميل الذي يراه في الصورة ويوازن بينه وبين هذا الوجه الذي شهده في أيامه الأخيرة
وقد شوش عليه هذه الخواطر فتح الباب ودخول فتاة، فالتفت إليها ولاحظ أنها تتجاهله رغم ما كان بينهما من صداقة متينة منذ سنوات. فقال في نفسه: هل يحدث مرور سبع سنوات كل هذا التغيير أم لأن الخمس الأخيرة من هذه السنوات قد قضيتها في السجن؟
ثم دنت بيرتا فلاحظ اضطرابها وسألته: هل تريد مقابلتي؟ فلم يجبها، لأن اضطرابه كان أشد مما سبق فأعادت سؤالها: لماذا جئت إلى هنا؟
وكانت كلماتها تخرج ببطء وفي شيء من التردد. فمشى نحوها وقد خانه النطق، فقد كان منذ عهد طويل يحلم بهذه المقابلة، وكان قد أعد ما سيقوله في كل مرة فكر فيها في هذه المقابلة. ولكنه الآن لا يذكر حرفاً واحداً.
قالت: ماذا تريد؟ فأجابها: لقد جئت. . . ألم تلاحظي يا بيرتا أن حبي إياك لم يتغير بعد كل هذه السنوات؟
قالت بيرتا: لقد كنت أظن بعد حدوث. . . ثم سكتت فجأة كأنما أرادت أن تصوغ جملتها في أسلوب آخر. وقالت: لما كنت أعني بحبك لما كنت تستحقه. ولو أنك كنت تحبني حقاً لما هبطت هذا الهبوط.
فأصفر وجه رلف وعرته رعشة وقال: هل أنت تعتقدين إجرامي؟
فتراجعت بيرتا قليلاً وقالت: ماذا كنت أعتقد غير ذلك؟ إن القرائن كلها ضدك وأنت لم تدافع عن نفسك أي دفاع؛ وقد حاولت أن أفهم كيف لا تكون أنت المجرم؟
فمشى رلف في الغرفة ذهاباً وجيئة وهو مفقود الصبر، ثم وقف أمامها فجأة وقال: أقسم بشرفي أني لم آخذ المال، وأنت تقولين أنك تحبينني، ولكنك تعتقدين أني مجرم؛ وأنا أقسم بشرفي أني بريء يا بيرتا.
ثم قال بلهجة مؤلمة: لقد قضيت خمسة أعوام في الجحيم؛ ولكن آلامي في هذه المدة لا تذكر بجانب الآلام التي أعانيها في المستقبل إذا أنت طردتني.
لم تجبه بيرتا وكانت في أعماق نفسها تعرف أنها تحب الرجل ولكن شبح الجريمة المنكرة التي كانت تعتقد أنه ارتكبها قد حال بينها وبين الجواب الذي تود من صميم قلبها أن تجيب به.
ومشى رلف نحو الصورة التي كان ينظر إليها أولاً ويلاحظ الشبه التام بين صاحب هذه الصورة وبين أخ لبيرتا؛ ثم عاد إلى الالتفات نحوها وقال: وقال إذا برهنت لك على براءتي، فهل تتزوجين مني؟
فأطالت نظرتها إليه وقالت: ربما، ولكن من الصعب أن أعد. إنك الآن غريب وإن أخي. . .
ثم أحنت رأسها فاغرورقت عينا رلف بالدموع وقال بصوت يدل على التأثر: لقد علمت.
قالت بصوت فيه رنة البكاء: هل سمعت؟
فلم يجبها ولكنه عاد الالتفات للصورة.
قالت: لقد كنت أحبه؛ وبعد ذلك الحادث استقال من منصبه، وكنت أحاول منعه عن السفر ولكنه سافر وحصل على عمل في روسيا وقد مات بعد عهد قصير وكنت يوم سفره أشعر بأني فقدت كل شيء.
فقال رلف: لقد كنت معه عند موته.
التفتت بيرتا وأصفر لونها وابيضت شفتاها وأخذ يقص عليها كيف قام بواجباته في مدة المرض والاحتضار وبعد الوفاة. فقالت: شكراً لك يا رلف ولكن كيف قابلته؟
قال: بعد خروجي من السجن أردت السفر لأتناسى هذه النكبة وعلمت أنه سافر إلى روسيا فسافرت إليها فأدركته في الوقت الأخير.
وكان هو يتكلم يلاحظ ما يبدو عليها من التأثيرات، فأدرك أنه إلى ما قبل هذه اللحظة لم يكن يعرف مقدار حبها لأخيها.
وكره استمرارها على هذه الحالة النفسية فحاول تغييرها وجثا على ركبتيه بالقرب منها وأمسك بيديها وقال: ألا تسمحين يا بيرتا بأن تجعلي لي من قلبك مكان أخيك؟ إنني أجعل حياتي كلها وقفاً على إسعادك. تعالي نسافر من هنا فنقيم في مكان بعيد نحاول فيه نسيان هذه الذكريات.
فخلَّصت بيرتا إلى إحدى يديها من بين يديه ووضعتها فوق رأسه. فشعر رلف في هذه اللحظة بالسعادة التامة. وقالت: أنت تعرف يا رلف أني أحبك ولكنك تعرف الذي يحول بيني وبينك. وعليك أن تبرهن على أنه خطأ.
قال رلف: إنني لا أستطيع يا بيرتا أن أبرهن على أني بريء؛ ولكن ألا تثقين بما أقول؟ إذا كنت تحبينني فيجب أن تثقي بما أقول.
فلم ترفع بيرتا رأسها ولم تجب. فوقف رلف ثم مشى متباطئاً نحو الباب وهو يأمل أن تستوقفه بكلمة. ولكنها لم تتكلم. ففتح الباب ورأسه منحنٍ إلى الأمام، واجتاز الممر على مهل وهو لا يزال يأمل أن تناديه. فلما صار عند باب الحديقة أخرج من جيبه اعتراف أخيها ومزقه بحالة تدل على أن عزمه على تمزيقه كان نتيجة فكرة فجائية. ووقف ذاهلاً وهو لا يعرف كم وقف.
وشعر بيد توضع فوق كتفه، وصوت رقيق يقول: (إنني يا رلف أكتفي بقولك فإني أثق بك وبما تقول).
عبد اللطيف النشار
تعليق المترجم
رحم الله الشاعر العربي الذي يقول:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب
لقد ظلموا ذات الوشاح ولم يكن ... لنا في هوى ذات الوشاح نصيب