مجلة الرسالة/العدد 388/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
مجلة الرسالة/العدد 388/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
المنتخبات للطفي السيد
الدكتور زكي مبارك
- 5 -
المنتخبات - شخصية لطفي السيد - أسرار المنتخبات -
أسلوب لطفي السيد - القول الفصل - وطنية لطفي السيد
حديث اليوم عن الجزء الأول من (المنتخبات) وهو مختار ما نشر في (الجريدة) من 25 إبريل سنة 1908 إلى 5 سبتمبر سنة 1912، بقلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة المصرية.
وجامع هذه (المنتخبات) هو الأستاذ إسماعيل مظهر المحرر بالمجمع اللغوي، وهو باحث معروف بالتعمق والاستقصاء، وقد بذل جهوداً محمودة في الصحافة والترجمة والتأليف، فمن العقوق أن تمر هذه المناسبة بدون أن نخصه بكلمة ثناء، وإنه لخليق بكل إعزاز وإجلال، أسبغ الله عليه ثوب العافية، وكتب له دوام التوفيق فيما يعالج من الدراسات الأدبية والعلمية!
ثم أقول إن الأستاذ إسماعيل مظهر أشار بكلمات قصار إلى أنه آثر أن يخرج هذه (المنتخبات) بدون مقدمة (ذلك بأن المؤلف يجل عن أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الأهل) ولم أفهم المراد من (هذا الأهل) ولعله يريد (هذا الجيل)، وللعبارة وجه، ولكنه لا يخرجه عن الإغراب في غير موجب للإغراب.
ويظهر أن هذا الصديق يفهم أن مقدمات المطبوعات لا يراد بها إلا التنويه بأقدار المؤلفين؛ ومن هنا صح عنده أن لطفي السيد غنيُّ عن التعريف، فهو أجلّ من أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الجيل.
ولو تأمل لعرف أن المقدمات يراد بها أيضاً شرح أغراض المؤلفين، والنص على مذاهبهم في فهم الحياة وسياسة المجتمع، وبذلك يكون من الواجب أن يقدَّم لمنتخبات لطفي السيد، لأنها تحتاج إلى من يدل على ما فيها من مذاهب وآراء.
يضاف إلى ذلك أن هذا الصديق نصّ على أنه عُنِيَ (بأن يخرج الكتاب مبرئاً من الأوهام) فما تلك (الأوهام) التي يشير إليها بهذا التعبير المريب؟ أيكون تدخَّل في عبارات المؤلف بالحذف والإيصال؟ أيكون طوى بعض الأغراض لأسباب متصلة بتطور أفكار المؤلف، وتبدل ما كان يحرص عليه من أقوال؟
إن كان شيء من ذلك فقد كان من الواجب أن يشير إلى ضروب تلك (الأوهام) لأن لطفي السيد له في الحياة الفكرية تاريخ، ومن كان في مثل مركزه الأدبي فهو جديرُ أن تؤرَّخ تطورات فكره بلا تحسين ولا تجميل.
شخصية لطفي السيد
لا أنكر أني لقيت عنتاً في قراءة هذه المنتخبات، لأن المؤلف لا يصل إلى شرح أغراضه إلا بعسر وعُنف، وإن قيل ما قيل في قدرته على البيان.
ولكن القيمة الصحيحة لأستاذنا لطفي السيد باشا ترجع إلى أنه كان في جميع أدوار حياته (شخصية)، ولو أردت الدقة في وصفه لقلت إنه كان فهذه الكلمة الفرنسية تمثله أصدق تمثيل. . . ألم يقولوا إنه أول كاتب عربي تحدث عن الديموقراطية والديماجوجية؟
كان هذا الرجل ولا يزال قويّ الحواسّ إلى أبعد الحدود، وله في كل مسألة مَلحظُ خاص، وهو يجمع بين البداوة والحضارة فيما يتناول من شؤون الفكر والمعاش. وقد استطاع بقوة الذاتية أن يكون رجلاً مرموق المكانة في آمادٍ طوال، وربما صح القول بأنه أظهر البقية الباقية من الجيل الذي ظهر فيه، ولا يمكن ذلك لرجل غير مزوَّد بالزاد الأصيل من عافية البدن والروح.
وكتابات هذا الرجل لا تصور ما يملك من المواهب، لأن قلمه أضعف من روحه، ولأنه في سريرة نفسه يتهيب المجتمع، وإن اشتهر بالثورة على المجتمع؛ وإنما تظهر قيمة لطفي السيد حين يتحدث إلى أصفيائه بلا تكلف ولا افتعال، فعندئذ يظهر جيداً أنه خليق بما تسامى إليه من التفرد بين رجال العصر بشرح آراء أرسططاليس.
لطفي السيد كاتباً رجلُ هيوب، ولكن لطفي السيد محدثاً رجلُ شجاع، ومن هنا كان تأثيره بالكتابة أضعف من تأثيره بالحديث. . .
والحذَر المأثور عن لطفي السيد هو الذي قضى بأن تمرّ ثورته الفكرية بلا صخب ولا ضجيج، كما مرّت ثورة محمد عبده وثورة قاسم أمين.
فكيف أصيب لطفي السيد بمرض الحذَر، وهو مرض يشلّ عزائم الرجال؟
يرجع السبب فيما أفترض إلى أن الرجل بدأ جهاده الأدبي والسياسي في عصر كانت تغلب عليه فورة الأقاويل والأراجيف، فكان مَثَله فيما يكتب مَثَل من يمشي على الشوك. ثم انتقل من التطبع إلى الطبع، فكان آية من آيات الحذر والاحتراس.
وأضرب المَثَل فأقول: أشرف لطفي السيد على الجامعة المصرية في عهدها القديم وعهدها الجديد عشرين عاماً أو تزيد؛ فهل ظهر له في توجيه سياستها العلمية شأنُ خاص، مع أنه في حقيقة الأمر قد أثَّر تأثيراً شديداً في أكثر ما امتازت به من الشؤون؟
تاريخ لطفي السيد في الجامعة المصرية ليس بشيء، وهو مع ذلك كل شيء، وتلك هي النقطة، كما يعبِّر لافونتين!
وقد عرفت بالتجربة أن لطفي السيد من الحكماء، فقد أراد هذا الرجل في ظروف كثيرة أن يغيِّر من أسلوبي في نقد الحياة والمجتمع، ولكنه لم يفلح، لأنني أردت غير ما يريد. أنا أردت ما كان يسميه في شبابه بالحقيقة العارية، وهو أراد ما هدته إليه التجاريب من مصانعة الناس والزمان.
والمهم هو أن أسجل أنك لا ترى لطفي السيد إلا حكيماً في كل شيء. هو صورة صحيحة من صور العقل الصحيح، لأنه أقام حياته على (الاعتدال) فلا يسرف في الحب ولا في البغض، ولا يجهل الوسط بين النشاط والخمود، ولا يغيب عنه أن اليوم له أغداء، وأن ما توجبه الساعة الحاضرة قد يمتد وقته إلى عام أو عامين، فمن السخف أن يقتل الرجل نفسه ليقال إنه أنشطُ الرجال.
أسرار (المنتخبات)
نحن أمام كتاب ممتع يقع في اثنتين وثلاثين وثلاثمائة صفحة بالقِطع المتوسط. وكلمة (ممتع) لها عندي مدلول خاص، فليس المراد أن هذا الكتاب يجذب القارئ إلى مسايرة المؤلف من الألف إلى الياء، هيهات هيهات! فما استطعت استيعاب موادّ هذا الكتاب إلا بمشقة وعناء.
وإنما المراد هو وصف هذا الكتاب بجودة المحصول، فهو شاهد على ما يملك المؤلف من قوة الفكر والعقل، وهو شاهد على أن المنطق من أقوى خصائص الرجل الذي شغل نفسه بترجمة أرسططاليس، وهو دليل على حصافة الرجل الذي لم ينس العناية بهندامه في لحظة من اللحظات، ولو كان في قرار الخلوة بعقله الدقيق.
لطفي السيد في كتابه هذا مفكر حصيف، وإن تبذَّل في عرض بعض التوافه من الشؤون: كالحديث عن زينة النساء، والحديث عن عيوب (الانتخابات)، والحديث عن أوهام الفلاحين!
ولكن ما نسميه اليوم (توافه) لم يصر كذلك إلا لكثرة ما خاضت فيه أقلام الكتاب، وقد كان قبل ثلاثين سنة من الأمور ذوات البال.
وبهذا نعرف أن ما نراه اليوم من المبتذل كان قبلاً من الطريف.
قد يقال: وما الذي أوجب أن تثبَت بعض الموضوعات البائدة في (المنتخبات)؟
ونجيب بأن تلك الموضوعات لا يراد بها تعليم أبناء اليوم ما لم يعرفوه، وإنما يراد بها تسجيل بعض مشكلات المجتمع في العهد الذي أثيرت فيه، فهي من أسانيد التاريخ، وللتاريخ ألوان.
ومن هذا الباب ما جاء في كلام المؤلف عن صلة مصر بالدولة العثمانية، وما قصّ من أخبار السوريين المقيمين بمصر، وما تحدث عن رحلاته في بعض بلاد الغرب والشرق؛ فكل أولئك لا يهمّ شبان اليوم إلا من جانب واحد هو التاريخ.
لطفي السيد في كثير من آرائه رجل وسط، ولكنه قد يحلِّق من حين إلى حين تحليق الجوارح، كالذي صنع وهو يتحدث عن أحمد عرابي باشا، فقد سجل أن عرابي ليس وحده المسئول عن الثورة التي انتهت بالاحتلال. وحجة لطفي السيد في هذا الحكم الطريف أنه لم يثبت أن العرابيين قتلوا رجلاً واحداً لأنه تنبأ بسوء الخاتمة وحذَّر من عواقب الثورة. ومعنى ذلك أن الثورة كانت فورة شعبية، فليس من العدل أن يطوَّق بآثامها عرابي حين انتهت بتلك النتيجة السوداء.
وفي (المنتخبات) فصل يبدو لأول نظرة من المبتذلات، لأنه في موضوع مطروق، وهو الكلام عن الثقة بين الناس.
ولكن هذا الفصل هو غرة هذه المنتخبات، وليته يضاف إلى مطالعات التلاميذ.
ومن هذه المنتخبات نعرف أن لطفي السيد زار (المدينة المنورة) وكتب عنها فصولاً تعد من الروائع، وكلامه في توديع ولديه يشهد بأن هذا الرجل من أرباب القلوب.
حدَّث ولديه بأنه سيغيب (ثلاثين) يوماً فبكيا، ثم ترفق فأخبرهما أنه سيغيب شهراً واحداً فاستراحا. وتلك دعابة لا تحتاج إلى ما يدل على ما فيها من لطف وظرف.
ولم يفت لطفي السيد عند زيارة المدينة أن يصور شعوره الديني تصويراً هو الغاية في الروعة والجلال.
وقد استطرد فتحدث عن المرأة العربية وعن لغة العرب (في بلاد العرب) حديثاً يشهد بأنه مفطور على التطلع والاستقراء.
وفي المنتخبات فصل عنوانه (أحبوا الجمال تحبوا الحياة) وقد بلغ الغاية في دقة النظر حين قرر أن تقدمنا في الأذواق لا يتناسب مع تقدمنا في العلوم، وهو يشهد بأن وقار بعض الناس ليس إلا صورة من صور الجمود!
وكلامه عن الصداقة كلام نفيس، ولعله استوحى هذا المعنى مما كان بين قاسم أمين وسعد زغلول.
أما كلامه عن الحب العصوف فهو كلام رجل يخاطب عوامّ الناس في صحيفة سيارة، وإن كان صدق حين قرر أن ذلك الحب يفسد الشعوب إذا تخلَّق به جميع الرجال.
وحديثه عن قاسم أمين يدل على إعزازه لحرية العقل والرأي، وفيه عبارة تشهد بأن الخطوب هي التي تؤرث مواهب العبقريين.
وأسفُه على حرمان أهل القاهرة من دخول حديقة الأزبكية بالمجان له مدلول.
وأحاديثه الصوارخ عن الآباء والأمهات والأبناء والبنات تشهد بأن الفكرة الإصلاحية سيطرت على عقله منذ أعوام طوال.
أسلوب لطفي السيد
جاء في المنشور الذي أذاعته مراقبة الامتحانات بوزارة المعارف على نظار المدارس الثانوية أن الطلبة الذين تقدموا لمسابقة الجامعة المصرية سيسألون عن أوصاف الأساليب من قوة وضعف، فما أسلوب لطفي السيد في الجزء الأول من المنتخبات؟ هو أسلوب لطفي السيد قبل ثلاثين سنة، وكان في مطلع حياته الأدبية، ولم يكن تمرَّس على (بناء الجمل) بناءً يعزّ على عوادي التصدع والانحلال.
أسلوب لطفي السيد بطيء الحركة إلى حد الجمود، وهو خال من البشاشة البيانية، وليس في كتابه صفحة واحدة تشهد بأن بيانه من وحي الطبع أو فيض الوجدان.
لطفي السيد كاتب متعمل متكلف، وهو يجرجر كلامه بتثاقل وإبطاء، ولولا البوارق الفكرية التي تلمع في كلامه من وقت إلى وقت لعد من المتخلفين.
ومن المؤكد أن أسلوب لطفي السيد قد مَرَن بعد ذلك كثيراً أو قليلاً، وشاعت فيه الحركة والحياة، ولكن من المؤكد أيضاً أن لطفي السيد قد طبع أسلوبه بطابع نفسه من التهيب والاحتراس، والمتخوِّفُ لا يكاد يُبِين.
أقول هذا وأنا مُشفِق، فليس من الذوق أن أستبيح الحكم على أسلوب لطفي السيد بكل ما أطمح إليه من الحرية والصدق، ولكن لطفي السيد أكبر من أن ينتظر كلمات المداهنة والرياء، ومقامه في التاريخ الأدبي الحديث في غنىً عن التلطف المأثور عن بعض تلاميذه الأوفياء.
وضعفُ الحركة والحياة في أسلوب لطفي السيد لا يمنع من الاعتراف بأنه من المشاهير بين أصحاب الأساليب، فقد يكون مقامه بين كتاب القرن الرابع عشر مقام ابن خلدون بين كتاب القرن التاسع، ومعنى ذلك أنه تحرر من الزخرف كما تحرر ابن خلدون، فكان أسلوبه ملحوظ الخصائص بين أساليب معاصريه من أمثال حفني ناصف وعبد العزيز جاويش.
ولطفي السيد له ألفاظ في المنتخبات تحتاج إلى تعريف:
من ذلك كلمة (الدولة) وهي كلمة لا تُذكر بدون تخصيص إلا حين يريد الدولة العثمانية، فعلى الطلبة أن يراعوا ذلك.
و (التعليم الأدنى) في كلام لطفي السيد هو التعليم الأولي والجامعة المصرية في كلامه لا يراد بها الجامعة التي نُقِلتْ ربوعها الأواهل إلى الجيزة الروحاء، وإنما هي (الرابطة المصرية) أو (الآصرة المصرية).
والمجتمع في كلامه هو الجمعية، وعنه نَقَل حافظ عفيفي باشا.
وهو يكثر من ألفاظ المناطقة من أمثال (المقول) و (المحكومية) و (المصادقات).
وقد يتسامح في بعض الألفاظ الأوربية، فيساير في نطقها عوامّ الناطقين؛ كأن يقول (اللورد كرومر) والصواب (لورد كرومر) لأن (كرومر) مضاف إلى (لورد) وليس عطف بيان. وتلك غلطة وقع فيها الأستاذ أحمد أمين وهو يقدم ديوان حافظ إبراهيم.
والنعت السببي حيران عند إضافته إلى الموصوف، فقد يُعرَّى من اللام كما وقع في أمثال عبارة (الرجل الفلاح طويل القامة، كبير الرأس، كثيف اللحية) وقد يحلَّى باللام في مثل عبارة (الحديث القليل القيمة).
وقد يغيب وجه الإعراب عن أستاذنا لطفي السيد في بعض الأحايين، كأن ينصب (الصفات) بالفتحة كما ينصب (الذات) وهي غلطة غير مطبعية، وقد يُشكل عليه الرسم الإملائي أحياناً فيرسم ألفاً بعد الواو من (يدعو الرجال) وهو ينسى أن الألف الفارقة لا ترسم إلا بعد واو الجماعة، وتلك دقيقة إملائية تخفى على بعض الناس؛ ولعلها لم تخف إلا على مصحح الكتاب.
وقول (أَلفَتَ) والصواب (لَفَتَ).
ويتعرض للغة أحياناً فيخطئ، كأن يمر بكلمة (التقعر) فيرى استعمالها في الذم غير صحيح، وحجته أن الكميت يقول:
البالغون قُعُور الأمر تروية ... والباسطون أكفّاً غير أصفار
والمتأمل يدرك أن التقعَّر (تفعُّل) وهو من صور التكلف كالتشدّق والتصنّع.
القول الفصل
والقول الفصل أن أسلوب لطفي السيد في المنتخبات هو أسلوبه قبل ثلاثين سنة، يوم كان قليل الاحتفال بالأداء، ويوم كان قليل المحصول من ثروة اللغة العربية، كما صرح هو نفسه بذلك في الصفحة 162.
ويجب وفاءً للحق والتاريخ أن نسجل أن لطفي السيد اهتم بعد ذلك بالتزود من اللغة العربية، حتى جاز له أن يشارك في بعض المحاورات النحوية والبلاغية، وحتى صار بالفعل من أعرف الناس بخصائص الأساليب.
ذكَره الله بكل صالحة، فله علينا فضلُ لن ننساه، ولو طال الزمان.
أما بعد فهذا لطفي السيد باشا في أبرز نواحيه، كاتباً ومفكراً ومديراً للجامعة المصرية، ولكن بقيت كلمة يفرضها الواجب رعاية لحق التاريخ.
كنا نسمع في عهد الحداثة أن (حزب الأمة) الذي تعبِّر عنه (الجريدة) يسالم الاحتلال.
فهل في (المنتخبات) ما يؤيد ذلك، وكان لطفي السيد رئيس التحرير لتلك (الجريدة)؟
كان (حزب الأمة) يمثل فكرة الاعتدال، ولكن مقالات لطفي السيد لا تشهد بأنه كان يسالم الاحتلال.
وكيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يقول:
(الديار محتلةُ بأجنبيّ لا هو صريح نقدِّر لشقائنا معه حداً، ولا نحن معه من الرجاء أو من اليأس في إحدى الراحتين)؟
كيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يرثي مصطفى كامل أصدق الرثاء، ثم يعلن رأي قاسم أمين في أن وجيعة الشعب لوفاة مصطفى كامل فرصة لإذكاء الروح الوطني؟
كان لطفي السيد من أنصار الاعتدال، ولكنه لم يكن أبداً من المفرِّطين في حق القومية، ومقالاته هي الوثائق الباقية لجهاده في سبيل الحرية والاستقلال.
والناس يشهدون اليوم تمثال مصطفى كامل في أحد الميادين الجميلة بالقاهرة، فمن يبلغهم أن لطفي السيد كان من أوائل الداعين لإقامة ذلك التمثال مع أنه كان من خصوم الرئيس الأول للحزب الوطني؟
لا يؤخذ على لطفي السيد إلا عيب واحدُ: هو أنه لم يستهدف لأي خطر في سبيل حرية الفكر والعقل والوجدان، وبذلك خَلَتْ آثاره من اللهب الذي احترق به المبدعون من أقطاب الفكر والبيان، والسلامة ليست مَغنماً نفيساً في أنظار أكابر الحكماء.
لا يزال لطفي السيد قوة عاتية، فهل يجرِّب الثورة على نفسه مرة واحدة فيخرج من بعض ماله لينشر مجموعة كاملة للمختار من آثاره في الأعوام الخوالي؟
إن أخذ بهذا الرأي فسيحدّد مكانه الصحيح في التاريخ الأدبي الحديث.
وإلا فسيصير إلى ما صرت إليه يوم عققت نصائحه الغالية في مصانعة الناس والزمان.
وإلى أستاذي وصاحب الفضل عليّ، إلى أحمد لطفي السيد باشا مترجم أرسططاليس ومدير الجامعة المصرية، أقدم واجب الثناء، راجياً أن يتناسى ما مرّ بهذا المقال من عبارات لم تكن على خشونتها إلا شاهداً على اتصالي الروحي بعقله الحصيف.
زكي مبارك