مجلة الرسالة/العدد 387/محاورة أفلاطون الخيالية
مجلة الرسالة/العدد 387/محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 4 -
التربية في كل الأمم وسيلة لإعداد الحكام والمحكومين. ويساير نظام التربية دائماً نظم الحكم القائم. ولما كان نظام الحكم ديمقراطيا في إنجلترا كانت الغاية من التربية فيها أن يعرف الفرد كيف يساهم بنصيبه في الحكم الديمقراطي، أو الحكم الذاتي؛ أي حكم الشعب نفسه بنفسه. وقد أظهر أفلاطون - فيما سبق نشره من محاورته - شكه في أن نوع التعليم الذي يتلقاه الشعب في المدارس الأولية كاف لا مكان الفرد من الاشتراك في الحكم الديمقراطي بانتخابه ممثله النيابي، والاشراف على سياسة الحكومة. ويرى أن يترك أمر الحكم نهائيا للجامعيين الذين هم خيرة أبناء الأمة ثقافة. والمربي الإنجليزي لا يشاركه هذا الرأي، لأنه يقصر الحكم على الطبقة المتعلمة من أبناء الأرستقراط. وفي هذا رجوع إلى الوراء بنظام الحكم إلى العهد القديم الذي كان رجال الحكم فيه هم أولئك الذين تخرجوا في مدارس أولاد الأعيان. وهنا يبدأ أفلاطون هذا الجزء الأخير من محاورته.
ومدارس أولاد الأعيان هذه أقدم مؤسسات التعليم الإنجليزية. وهي طراز من مدارس التعليم الثانوي ومن أشهرها أيتون وهارو. ولا يدخلها إلا أبناء المثرين لكثرة نفقاتها. وفيها تخرج عدد كبير من قادة الرأي، والساسة الإنجليز، وأغلب أعضاء حزب المحافظين. وبالرغم من فضلها التاريخي في نهضة إنجلترا نجد الآن من يقول بعدم صلاحيتها في عصر الديمقراطية.
أفلاطون: لقد ذكرت في حديثك السابق مدارس أولاد الأعيان، وإن ما سمعته عنها يجعلني أوقن أنها كانت يوماً ما ذات آثار جليلة. فقد كانت تأخذ الناشئة من أبناء الأرستقراط، وتبعدهم عن نفوذ الأسرة، وتقدم إليهم نوعاً من التربية السليمة في الأخلاق، وآداب اللغة، والتمارين البدنية والألعاب، من غير أن تحاول تنمية الناحية العقلية الفلسفية عندهم. وبهذا غرست في نفوسهم حب الطاعة، والإخلاص لتقاليد البلاد واحترامها، وصاغت منهم نماذج صالحة لتكون حكاماً أمناء وجنود أشداء، عقدوا النية على صياغة دستور البلاد، وحماية نظام الحكم فيها، والدفاع عنه ضد أي تغيير. وبإبعاد الناشئة هكذا عن نفوذ الأسرة لم تفسد تكوينهم العواطف المائعة التي يسرف الآباء في إحاطة أبنائهم بها، ولا شواغل المال والفقر التي هي دائماً حديث الأسرة. فعاشوا في أماكن جميلة، واكتسبوا بمعاشرة بعضهم لبعض واشتراكهم في الحياة المدرسية صفات الرجولة النبيلة التي خلقت منهم خداماً لوطن مطيعين وقضاة أو حكاماً أو إداريين نزيهين، رائدهم العدل والحق
وهذا النوع من المعاهد وما يليه من الجامعات أحسبه جديراً بالصيانة والبقاء. ولو كنت أعرف أنه من المجدي حث شخص مثلك لنصحتكم أن تجعلوا نظام هذه المعاهد جزءاً من نظام تربيتكم الحديثة، ولكن يمنعني من حثي هذا اعتقادي أن هذه المعاهد لم تبلغ في تطورها درجة الكمال. وذلك لأسباب حيوية ثلاثة: السبب الأول هو أن أبناء مدارس أولاد الأعيان لم يتخرجوا فيها على فلاسفة، ولكن على أفراد لا يمتازون كثيراً عنهم. ونتيجة هذا أنهم حينما أصبح زمام الحكم بأيديهم لم يستطيعوا توجيه جمهور الشعب من عمال وصناع وتجار التوجيه الصحيح الصالح. ذلك لأن عصر الاختراع العلمي العملي قد أتاح لهذه الطبقة من الشعب أن تجمع القناطير المقنطرة من الثروة بمجهود قليل. ولم يكن عند طبقة الحكام وولاة الأمر من قوة التعقل وفلسفة الحكم ما يجعلهم يتداركون ما حدث من نمو حب المال في نفوس الشعب وروح الطمع والجشع المادي وسرت هذه العدوى لطبقة الحكام أنفسهم، بل لرجال الدين فلم يحاربوا هذه الميول، وأصبحوا خاضعين لها بدلاً من خضوعهم لنداء العقل والحكمة. وإنني أعتقد أن ما اتصف به حكامكم من أخلاق كريمة طاهرة خفف كثيراً من حدة المطامع المادية الاستعمارية. وكثيراً ما قضت أخلاقهم الكريمة على أسوأ ما في هذه المطامع من آثار. وإنني أصدقك النصح أنه لن يمكنكم أن تعيشوا آمنين، وأن تبقوا على ثراء شعبكم إلا إذا حرمتم ملكية الأرض والشركات ورءوس الأموال على حكامكم وأصبحوا هم عقلاء وذوي عزيمة قوية يلجمون بها غريزة حب المال والكسب. والسبب الثاني هو أن هذه المدارس كانت ولا تزال غير خاضع لإدارة الحكومة، ومقصورة على هذه الجماعة الغنية من الشعب التي لها من وفرة المال ما تنفقه بسخاء على تعليم أبنائها. وربما لم تكن هناك فائدة من خضوع هذه المدارس لإدارة الحكومة في الوقت الذي كان فيه رجال الحكومة أنفسهم من الأعيان ورجال المصارف وأغنياء التجار وإضرابهم. أما الآن والحكومة شعبية، وليس من الضروري أن يكون أفرادها من الأغنياء فإن هذه المدارس يجب أن تكون حكومية لا خاصة، وأن تفتح أبوابها لكل من تؤهله مواهبه للتعلم فيها من أبناء الشعب. والسبب الثالث هو أن جامعاتكم لم تدرك تماماً المهمة الإلهية التي نصبها الله من أجلها، لأنها وهي تحرج الرءوس المفكرة في الدولة لم تصن خريجيها عن المطامع المادية وشهوة المال. والنتيجة هي أن رجال الحكم من أبنائها بدلاً من أن يخضعوا المادة لمبادئهم خضعوا لها.
من كل ما ذكرته تستطيع أن تعرف أي أنواع الإصلاح أريد إدخاله على نظام التربية. يجب ان تبدءوا من القمة فتصلحوا من الجامعات حتى تنتج نوع الحكام الذي تحتاج إليه بلادكم. ولست أزعم أن هذا سهل التحقيق. إن العلماء ولو أنهم يتمشدقون دائماً باسمي، ويذكرونني بالإعجاب والثناء، لم يفهمون جيداً، ولم يفهموا الغاية (من أكاديمي) التي أسستها حتى لقد حرفوا معنى عبارة (التفكير الأكاديمي)، فأصبحت تدل على كل تفكير عقلي لا يمت للحياة العلمية بسبب. وأنا أعرف بالطبع إلى أي حد يكره فلاسفة هذا العصر وعلماؤه الحياة الحالية المحيطة بهم ويحتقرونها، وهم لا يريدون في الوقت نفسه أن يعترفوا أنهم طلقوا هذا النوع من الحياة لا لسبب إلا لأنهم عجزوا عن إقناع ولاة الأمر والمشرفين على شئون الأمة بمبادئهم الفلسفية السامية. ولابد أن تتفق معي أنه لا فائدة من هؤلاء الفلاسفة العلماء، لا لشعبهم ولا للعالم إلا إذا اعتقدوا أن هذا العالم يجب أن يحكم بمبادئ العقل والحكمة التي يدافعون عنها. وأظن أن هذا بعيد الحصول، لأن العلماء والأساتذة الذين يتمتعون بحياة مريحة، ورزق مضمون، وهم مطمئنون لآرائهم وفلسفتهم الشخصية، ليسوا مستعدين إلا قليلاً أن يخاطروا بكل هذه المزايا في سبيل إعانة غيرهم. لهذا ستظل جامعاتكم في الغالب قانعة بوظيفتها، وهي تخريج رجال يخدمون العالم ولا ينتقدونه، فرحين بالقدر اليسير من المعارف التي ينتجونها والعلم الذي يخدمونه وبالعبارات الشفهية التي يفوهون به في محاضراتهم وأحاديثهم عن المثل العليا للحرية العلمية والعدالة العالمية.
وفي هذه الحال يجب عليك أن تفعل كما فعلت أنا، فتؤسس معاهد تنافس هذه المعاهد العلمية ودور التربية القائمة الآن، جاعلاً غايتك خدمة الحقيقة، والحقيقة فقط، معلناً أن الحقيقة واحدة لا تتغير في كل زمان ومكان ولكل فرد. وسوف تتهم بالتحيز والتعصب، وأنك تفسد عقول الشباب بتعاليمك، وتحطم المثل العليا للمبادئ العلمية الصحيحة فلا تصغ لهذه التهم واذكر أن الرجل العالم إذا لم يكن أيضاً رجل عمل فليس جديراً أن ينسب إلى أسرة العلماء الأكاديميين، ولتكن الدراسة في جامعتك شاملة للبحوث العلمية وللدربة والمران لمباشرة الإيالة واكتب على باب جامعتك هذا الشعار (يجب أن يكون الحكم للعلم فقط). ومتى ثبتت هذه العقيدة في قلبك فلن يزعجك ما تتهم به من التحيز أو التعصب، ومن إفساد عقول الناشئة، لأنك ستعرف جيداً أن كل حقيقة جديدة يتهمها الناس بالزيف، وأن اسم العدالة أداة تستخدم لإخضاع المصلحين للنظام القائم. وهناك تغيير آخر يجب أن يدخل على عقائد طلابك، إنهم في هذه السن كرام النفوس، بيض القلوب، يعتقدون بسذاجة أن الحقيقة والحكمة يمكن أن تسودا بطبيعتهما على القوة والحيلة! وبهذا ينزلون ميدان الحياة غير مسلحين ليغزو العالم. وسرعان ما يسفر النضال عن رضوخ في الرأس، وانخداع في التفكير، وحينئذ يظهر لهم أن الشر الذي يعيش ويترعرع في القوة عدو لا تمكن ملاينته بالكلمة الطيبة والعاطفة النبيلة، بل يجب أن يضرب ويصفع حتى يخضع ويصفد في الأغلال، وبهذا لا يستطيع النهوض مرة أخرى. وهذا الدرس يجب أن يتلقاه طلبتك كل يوم في جامعتك الجديدة، كما يجب أن يكتب فوق مدخل الجامعة شعار آخر وهو (لن يدخل هذه الجامع محب للسلم) ثم ذكر طلبتك دائماً أن حكم العقل لم يستطيع ولم يفلح أن يسود البشر ولو مرة واحدة في التاريخ باللين والرفق. ولهذا وجب على الفيلسوف أن يكون مستعداً لمواجهة خصومه بقوة وعزيمة أشد من قوتهم وعزيمتهم. وأنا أنصح للفيلسوف أن يدرع بالقوة،
لأني أعلم أن مبادئه ستكون دائماً عرضة لبعض الناس، على عكس المبادئ الأخرى التي يروجها أعداء الفلسفة من حقائق مموهة يخدعون بها غيرهم. ولهذا يجب أن يسلح الفيلسوف نفسه بكل أنواع القوة والشدة حتى يروض شهوات الشر المادية الجامحة فتخضع لحكم المعرفة. دع طلبتك إذاً يعلموا أنهم إذا أرادوا أن ينقذوا بلادهم من الخراب فعليهم ألا يجعلوا روح السلم تسيطر على نفوسهم، بل يجب أن يألفوا نظام الجندية، وأن يدربوا على الروح العسكرية، تلك الروح لا تقشعر من سفك الدماء في سبيل المصلحة العامة
ومتى ثبتت أركان جامعتك وأصبحت تشرف على شئون الدولة فوجه عنايتك بعد ذلك للمدارس، وهنا يجب ألا تزعجك أخطار مبادئ الفاشستية أو الاشتراكية الوطنية التي ذكرتها أنت في حوارك معي. فأنت توافق على أنه حتى الحكومات السيئة لها بعض الحسنات، وستسر وتعجب حينما تعرف أن ألمانيا وإيطاليا قد اتخذنا كثيراً من تقاليد بلادك وعاداتها، ولا سيما نظام مدارس أولاد الأعيان عندكم، ولكن بشيء من التهذيب يناسب حاجات الوقت الحاضر. وأعتقد أن هذا الخبر سيجعلك أكثر تعلقاً بهذه المدارس فتبقيها كركن قوي للتعليم عندكم في المستقبل، وستقبل عليها مفتحاً أبوابها، معلناً أنها أصلح المعاهد لاعداد القادة السياسيين. فاختر لها حينئذ من بين أطفال الشعب أكثرهم قابلية لتحمل تبعة القيادة السياسية. أما البقية من أطفال الشعب فأعد لهم المدارس الفنية، الصناعية والزراعية والتجارية، حيث يتعلمون المهن التي يصلحون لها. ولما كانت هذه الطبقة من أطفال الشعب ليست بذات خطر فلا داعي لأن يعيشوا في المدارس بل اتركهم يعيشوا في المدارس، ويحضروا للدروس بالنهار فقط. أما أولئك الذين اخترتهم لمدارس أولاد الأعيان فخذهم بتربية صارمة، وامنعهم من رؤية ذويهم إلا في أيام الأعياد والإجازات العامة، وصير هذه المدارس في نظامها الرياضي البدني وفي بساطتها كمدارس إسبارطة القيمة، وخل تلاميذ هذه المدارس يخدمون أنفسهم بأنفسهم، فلا فراشين ولا فراشات، ولا مشرفين ولا ممرضات، ولا أي فرد من هؤلاء الذين يحوطون الأولاد بالعناية والعطف، ويغرسون في نفوسهم النعومة والرقة التي تضعف من خشونة تكوينهم. واجعل التعليم في هذه المدارس للبنين والبنات معاً من غير تميز، ذاكراً دائماً أن غايتك هي إعداد شعب من الجنود والإداريين، لا هذا النوع من الجنتلمان ولا من الجنس اللطيف ذي الغيد والرقة الذي يتخرج في مدارسكم الآن ويجب أن يكون النظام شديداً قاسياً يمرن العقل والجسم معاً على الدقة والطاعة والإتقان، ويكون في ذوق التلاميذ الإعجاب بما هو بسيط ومتين من مظاهر الجمال التي لا يشين الجندي التحلي بها ومن أجل هذا يجب أن يتعلموا مبادئ الحساب والعلوم، وأن يدرسوا اللغة هذا إلى معرفة خير منتجات آدابكم وموسيقاكم، وأنواع الرياضة والألعاب العسكرية ومتى فعلت هذا وجدت أنه من السهل حل معضلة التربية، التربية العامة لطبقة الشعب التي من أجلها عقدنا هذه المحاورة. وإذا علمت أن طبقة الشعب هذه غير قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها أدركت أنه من الضروري أن تنمي فيها روح الخضوع والطاعة للحكام. وما دام من غير الممكن أن تعيد نفوذ الكنيسة الذي ربي هذه الروح في الماضي، فلابد إذاً أن تكبت كل الكبت المذاهب الدينية المختلفة السائدة الآن في بلادك والتي لا يفتأ بعضها يحارب بعضاً، وأن توجد أنت ديناً سياسياً من عندك يقضي بالإعدام على كل من يؤيد غير مذهباً الديني. ولن تستطيع أن تفعل هذا إلا إذا كان لك الإشراف المطلق على النشر والطباعة وعلى الإذاعة وكل وسائل الإعلان، وتسن إلى جانب هذا قانوناً يحظر تعليم أفكار أو مبادئ - كتابة أو شفهياً - من غير ترخيص من الحكومة، وإلا فالعقوبة الإعدام. فإذا ما فعلت كل هذا كان لك أن تأخذ الشعب بأي نوع من التربية تشاء، بشرط أن تتأكد أن هذا النوع الذي تختاره من التربية لا يشمل شيئاً من الحقائق أو العلوم، ولكنه مجموعة أكاذيب نبيلة تلائم أولئك الذين لا تسمو بهم عقولهم إلى مرتبة إدراك الحكمة الصحيحة ومعرفة الله.
المربي: شكراً جزيلاً على اقتراحاتك، وليس عندي من شك أنها تتفق ومبادئ حزب جديد نشأ عندنا يسمى الحزب الفاشستي فعليك برئيسه.
أفلاطون: لم أتشرف بعد بمعرفة رئيس هذا الحزب، فإذا كانت اقتراحاتي تروقه، فسأعمل على لقائه
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد