مجلة الرسالة/العدد 385/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 385/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1940



بعد دنانير

عودي فاصحي يا أم كلثوم

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

أم كلثوم. عبد الله أباظة. عبد الحليم محمود. زكريا أحمد. محمد القصبجي. رياض السنباطي. أحمد رامي. أحمد بدر خان. عباس فارس. سليمان نجيب. . .

هؤلاء جميعاً ومعهم غيرهم تعاونوا في إخراج (دنانير). وهؤلاء وغيرهم الذين معهم، جميعاً، من جبابرة الفن في مصر، سواء منهم الذين يغذون الفن بالمال، وسواء منهم الذين يغذون الفن بالفكر والجهد، وسواء منهم الذين يغذونه بالشعور والحس

ومع يقيني بهذا، واعترافي به، فإني أريد أن أقول إن فلم (دنانير) الذي تعاون فيه هؤلاء كلهم ومعهم وغيرهم. . . فلم فاشل ميت! فكم من القراء يا ترى سيصدق قولي هذا ويعترف لي بالحق فيه؟ وكم منهم سيقول: (أسكت المفتون عن عبد الوهاب فاندار على أم كلثوم!).

فليقل من يريد ما يشاء أن يقول، فأنا مرتاح إلى حكمي هذا، كما أني أضمن مع صوتي فيه صوتين أثنين على الأقل، هما الصوتان الصارخان في انكتام، المنبعثان من صدري عبد الله أباظة بك والأستاذ عبد الحليم محمود المنفقين على الفلم والمغذيانه بالمال. فقد كانا من غير شك يؤملان في ربح كبير يدره عليهما هذا الفلم ليبعث في نفسيهما بعده التشجع على إخراج غيره وغيره تحقيقاً لما ينزعان إليه من النهوض (بصناعة السينما) على اعتبار أنها صناعة مصرية ناشئة، وعلى رجاء فيها لو نمت وترعرعت وازدهرت أن تنمو معها الفنون الجميلة جميعاً في مصر وأن تترعرع وأن تزدهر، فالسينما هي المعرض الحي الباقي المتنقل الحفيظ على إنتاج الروح من أدب، وتمثيل، وموسيقى، وغناء، وتصوير، وزخرفة، وهندسة، وتزيين، ورقص، وإخراج وغير ذلك. . . وكلما راج هذا المعرض راجت بضائعه، وكلما راجت بضائعه أنتعش تجارها من أصحاب الفنون المختلفة، وكلما أنتعش هؤلاء سرى الانتعاش من أرواحهم إلى أرواح جماهيرهم، وكلما شعرت أرواح الجماهير بفرحة الفن ونشوته انتفضت أعصابها وارتعشت فيها الحياة، وعندئذ يرجى من هذه الجماهير الخير وعندئذ تراها الدنيا وهي شعوب مقبلة على حياة العمل والحركة والتوثب والسمو

وعندنا المثل على هذا. . . أمريكا فابرز ما في صناعاتها السينما، وأبرز ما في أخلاقها النشاط الذي يكاد يكون جنوناً

. . . هذه من غير شك آمال كانت تخفق بها نفس عبد الله أباظة بك ونفس الأستاذ عبد الحليم محمود، ونزوعاً إلى تحقيقها أنفقنا ما أنفقنا في إخراج هذا الفلم، والذي أنفقناه لابد أن يكون مبلغاً ضخماً جداً من المال، فمناظر الفلم وأثاثه ورياشه وملابسه كلها مما يقصم الظهر إعداده وتجهيزه، وأجر المؤلف وأجر المخرج وأجور الممثلين وإن كانت تقل بكثير عن أمثالها مما يدفع لزملائهم في الخارج فهي من غير شك كانت في مجموعها مبلغاً لا يستهان به، وأجور الملحنين هي وحدها لا أستطيع أن أقول إنها كانت شيئاً مذكوراً فهؤلاء وحدهم هم المظلومون الذين يعطون مادة الغناء للأفلام الغنائية التي ترتكز على الغناء أول ما ترتكز

ضحت شركة أفلام الشرق ما ضحت في سبيل دنانير، وجمعت لأم كلثوم كل القوى التي حسبتها كفيلة بإبلاغ الفلم إلى درجة الكمال التي تتوق إليها، فإلى أي حد أدت كل قوة من هذه القوى واجبها، وحملت أمانة القسط المعهود إليها به؟

وقبل أن أقول كلمتي الهزيلة في هذه القوى وفي أم كلثوم من فوقها يجب أن أذكر لشركة أفلام الشرق تضحية أخرى غير التضحية المالية، بذلتها راضية عن حب وكرامة لتوفر لأم كلثوم كل أسباب الراحة والاطمئنان في العمل، تلك التضحية هي أنها أخضعت إرادتها لإرادة أم كلثوم في اختيار هذه القوى التي ساندتها وعاونتها، اللهم إلا واحداً فقط تشبث به عبد الله اباظة بك وهو زكريا أحمد فقد كان على خلاف مع أم كلثوم، واباظة بك هو الذي ذلل هذا الخلاف وأزاله. . .

أم كلثوم أولاً

والآن. . . ما الذي حدث لآم كلثوم حتى أنها استحالت في نظري من فنانة تشبع النفس إشباعاً مريحاً إلى هذه الجديدة التي حين سيطرت على عمل فني كبير مثل (دنانير) خرج من تحت يدها وهو فاشل ميت مع وفرة المال الذي بذل فيه وطواعية المعاونين الذين عاونوها فيه. . .؟

لابد أن يكون قد حدث لأم كلثوم شيء وأصاب نفسها وقعد على روحها؟ فما هذا الذي حدث؟ وما هي دلائله؟!

الكاميرا صاحبة العين النافذة تقول لنا ما الذي حدث!

قالت لنا الكاميرا إن أم كلثوم اغترت، وإن إحساسها ركد، وإن بدنها طغى على روحها، وإنها استمرت التكلف والتصنع حتى نضبت سجيتها وجفت عواطفها؛ فانحرمت من الفرح تبعاً للذي أرادته من الامتناع على الألم. وقد قالت لنا الكاميرا أيضاً إن أم كلثوم - لها الله - قد تحجرت.

أما غرور أم كلثوم فشيء رأيته شائعاً في الفلم ولكني لم أستطيع أن أطبق على عنقه متلبساً بحادثة، لأجره وأقفه أمام الأنظار وهو عريان. فللذين يريدون أن يروه أقول إن عليهم أن يشاهدوا الفلم ليتحسسوه فقد يلمسونه.

وأما ركود الحس فقد قبضت عليه متلبساً بحادثة، وقد ظهر على أم كلثوم في موقفها مع الخليفة حين كانت تستعطفه على جعفر فما بدا في هذا الاستعطاف إحساس بجعفر ولا بها ولا بالخليفة.

وإنما الذي بدا منها في هذا الموقف اهتزازات وغمزات بالكتفين وهمزات في الصوت لا يمكن أن تصدر من موجع يستعطف لمنكوب؛ وإنما هي قد تصدر من جارية تغري مولاها إذا هجرها وأما طغيان البدن فظاهر في هذا الموقف أيضاً لأنه مصاحب لركود الحس؛ فكل من ركد حسه طغى عليه بدنه، وهو ظاهر كذلك في مواقف أم كلثوم الغنائية جميعها. فقد كانت تغني وتحرص على أن تضم شفتيها وتصغر فمها فلا تفتحه مهما تطلب الغناء أن تفتحه، كأنما كانت تخشى أن يرى الناس فمها واسعاً وكأنما كانت تخشى أن يرى الناس شفتيها غليظتين؛ مع أن أهل الفراسة يقولون إن الفم الواسع والشفاه الغليظة من لوازم الغناء، لأنهما عضوان من الأعضاء التي يتكون منها جهازه البدني

ولأن أم كلثوم قد فعلت فعلتها هذه، فقد كانت الألحان تخرج من بين شفتيها مخنوقة مصفاة الدم مجهدة الروح، ولو كنت أنا زكريا أحمد لطالبت أم كلثوم بتعويض كبير، لأنها خنقت لي لحن (بكره السفر) - على الأقل - فهو لحن كان من حقه أن يذيع في مصر من أقصاها إلى أقصاها اليوم لو أن أم كلثوم أرسلته حياً نابضاً كما أعطى لها. . .

وليس (بكره السفر) وحده هو اللحن الذي قتلته أم كلثوم، وإنما هي سامحها الله قد قتلت ألحان الفلم جميعاً، فبعضها مات موتاً، وبعضها أغمى عليه، وبعضها أصيب برضوض وعاهات

أما التكلف والتصنع فقد سجلته الكاميرا على أم كلثوم في هذا الذي رأيته، كما سجلته مع هذا في كل موقف من مواقف الفيلم تبسمت أم كلثوم فيه. . . فابتساماتها لم تكن إلا هذه الابتسامة الجامدة التي عرفت بها السيدة بديعة مصابني.

لقد كانت هذه الفتاة من عامين فقط حقيقة كالحلم الذي يطوف بروح القديس، فأصبحت اليوم حلماً كالحقيقة التي لا تطوف بروح القديس. . .

أختاه. . . لا تقولي ما لهذا الولد يتصدى لنفسي؟ فإني لا أعرف سبيلاً إلى نقد الفن إلا نقد النفس، لأني لا أعرف الفن إلا على أنه ثمرة النفس، ولست أعرف هذا من كتاب قرأته، ولا من (هبسلنتي) ولا من (شرونتسكي)، وإنما عرفته منك ومن غيرك ممن أتلقى غذاء روحي عنهم.

فأفهميني، واسمعي كلامي، وعودي واصحي. . .

وإلى اللقاء. . . إذا شئت.

المؤلف

هو الأستاذ أحمد رامي. . . والأستاذ أحمد رامي لا يؤلف شيئاً في هذه الأيام إلا إذا طلب منه هذا الشيء.

وأظنه لا يستطيع أن يقول إنه يدخر في نفسه أفكاراً وأحاسيس يرسلها حين يطلب منه ويؤلف، وهو لو قال ذلك لما صدقه أحد، لأن فلم دنانير لا يزال معروضاً على الناس وقصته هاهي ذي أمامنا حوادث هادئة متتابعة ومناقشات متتالية ليس فيها مفاجأة واحدة تصدم الفكر العادي مما يمكن أن يقال إنها من مذخرات كاتب فنان. . .

وقد نبلع للأستاذ رامي هذا كله إزاء أبيات قليلة من الشعر أفلتت منه حية إلى حد ما، كما أننا قد نقبل هذا كله لأن الناس اتفقوا فيما بينهم يأساً وقنوطاً على أن هذه الأفلام الغنائية لا يرجى فيها الموضوع ولا يقصد فيها إلى الاستمتاع بالأدب. . . ومع أني لا أحب أن أخذ بهذا فإني آخذ به إرضاء للأستاذ رامي.

الإخراج

إذا كان الإخراج هو التنسيق والتزيين والترتيب فإن الأستاذ أحمد بدر خان قد وفق في دنانير إلى إدراك هذا كله.

أما إذا كان الإخراج هو نفخ الروح في التمثيل والممثلين، فإن الأستاذ أحمد بدر خان لم يوفق إلى شيء منه، وكان طبيعياً ألا يوفق الأستاذ إلى شيء منه لأنه إنما اختير لإخراج هذا الفلم اعتماداً على أنه رجل هادئ الطبع يرضي من يعمل معهم قبل أن يرضي نفسه. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نعتبر كل ممثل في هذا الفلم مسئولاً عن نفسه وعن تمثيله.

التمثيل

عباس فارس. . . قلت إنه يجود، وقد جود دور الخليفة وإن كان أستهله استهلالاً بدا إنجليزياً في المشية والجلسة ولإشارات والحركات، وقد ساعدته على هذا الموسيقى التي وضعها الأستاذ الشجاعي لهذا الاستهلال، فقد كانت هي أيضاً موسيقى إفرنجية بحتة لو أغمض الإنسان عينيه وأستمع إليها لذكر فرانسوا الأول، أو فردريك الأكبر، أو شارلمان، أو ملك من الملوك إلا هرون الرشيد العربي. . .

سليمان نجيب. . . قد يؤلمه أن أقول إني أراه في التمثيل كما أرى إخواننا من طلبة الجامعة أعضاء فرقها التمثيلية. ولكن هذا رأيي، ولم يكن لرأيي في يوم من الأيام قيمة تؤثر على مكانة إنسان ما. . .

عمر وصفي. . . كان عظيماً في دوره القصير. دور أبي دنانير

فؤاد شفيق. . . كان مكتوفاً في دور أبي نواس. أراد أن يمثل شيئاً ولكن المؤلف أقعده.

التلحين

(بكرة السفر) هو غرة الألحان في هذا الفلم. فهو لحن حي راقص منساب سلس مطرب ثم إنه قبل هذا وذاك لحن شرقي. وهو من ألحان زكريا.

(قولي لطيفك ينثني) غنته أم كلثوم ثلاث مرات بثلاث تلاحين، وهذا تحد فني لا يجرؤ عليه إلا زكريا أحمد.

(لحن العيد) من ألحان السنباطي الحلوة لولا أنه بعيد عن روح عصر الرشيد. (لحن النبع) من ألحان القصبجي التي أعتاد أن يملأها هندسة وتفكيراً يستعيض بهما عن العاطفة التي اختطفت منه. . .

إني أعتذر

وأخيرا. . . لابد لي من أن أعتذر عن هذا النقد القاسي، فأنا أعلم أن الذي يقرأه من غير أن يشاهد الفلم، ويكون ممن يصدقونني، سيحكم على الفلم - بحكمي. . .

ولذلك أبادر فأقول: إن فلم دنانير لا يزال في طليعة أفلام الدرجة الأولى التي أخرجت في مصر، وإنه يستحق أن يشاهد مرتين وثلاثاً وأربعاً. . . وإن الذي يشاهده لا ريب سيخرج منه بمتعة ومتعة ومتعة. ولكنني إذ أقف أمامه هذه الوقفة المنكرة أرجو أن يصادف كلامي آذاناً مصغية، وقلوباً واعية، فإذا تحقق هذا انتفت من أعمالنا الفنية هذه العيوب التي أعيبها وأحب الخلاص منها.

وقد كنت أستطيع أن آمالي هذا الفلم بكلام يرضى أصحابه ولكنني أعلم انهم في غير حاجة إلى الممالقة، فهم ليسوا صغاراً، وليسوا ضعافاً، وليسوا فقراء إلى مثلي. . . بل ربما كنت أنا الفقير إليهم، أغناني الله عنهم. . .

وعلى هذا فإني أهدي إليهم تهنئتي القلبية الصادقة، كما أؤكد لهم أن (الرسالة) ليست مسئولة معي عن هذه القسوة، وكما أعيد عليهم قولا قالته (الرسالة) يوماً نقدت فيه (جندول) الأستاذ عبد الوهاب، وهو أنه في أغلب الظن ليس كثير من النقاد ينضم إلي في رأيي. . .

عزيز أحمد فهمي