مجلة الرسالة/العدد 381/القصص
مجلة الرسالة/العدد 381/القصص
لقاء!. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
كان النَّدِيُّ مزدحماً بالسامرين على عادته كل مساء؛ قد تحلقوا حول الموائد جماعات جماعات، في البهو، وفي الشرفات، وعلى الطَّوار؛ وكان الميدان الفسيح الذي يشرف عليه الندي، مراد العيون ومستراح النظر؛ فما تقع العين منه إلا على منظر أنيق ومرأى فاتن، والسيارات تتهادى ذاهبة آيبة تحمل كل منها قصة حب أو تُسرّ حديث هوى، وأسراب الملاح تتواكب في مطارف الفتنة وعطر الشباب غادية إلى ميعاد أو رائحة إلى أمل، ونسيم المساء الهادئ ينفح عطره ويهمس في كل أذن حديثه. . .
. . . وكان ثمة بضعة نفر جلوساً إلى مائدة مستديرة في ظل وارفة لفّاء يتجاذبون الحديث ويتبادلون الفكاهات في أنس ومسرة. أولئك (رفيق) وأصحابه
بضعة نفر لا يشغلهم من هم الحياة ما يشغل الناس، جمعهم الشباب على هوى مشترك، وألفت بينهم الحياة على رأيٍ جميع، واجتمع لهم من أسباب النعمة ما أغنى بعضهم عن بعض فقرّب بعضهم إلى بعض؛ فهم قدمٌ واحدة بكل سبيل، وقلب واحد في كل هوى، ورأيٌ واحد في كل مغامرة من مغامرات الشباب. ذلك مجلسهم كل مساء حيث يلتقون فيقص بعضهم على بعض من حديث الهوى والشباب؛ فلكل فتاة من فتيات المدينة بينهم حديث؛ ولكل منهم من حديثها خبر، ولكل غاديةٍ ورائحةٍ لحظة عين وبنتُ شفة
على أن رفيقاً وأصحابه لم يجتمعوا الليلة لمثل ما يجتمعون كل مساء؛ فإن لهم اليومَ لشأنا يشغلهم عن لحظات العيون وبنات الشفاه وأقاصيص الهوى والشباب؛ فقد غدا عليهم (رفيق) يؤذنهم بخبر لم يكن لهم في حساب؛ لقد اعتزم رفيق أن يتزوج. . .
وا أسفا! لم يكن يحسب هؤلاء الأصحاب أن يصير اجتماعهم بعد تلك السنين إلى شتات، وأن يكون رفيق أسبقهم إلى الفراق!. . . أتراه يكون لهم بعد الزواج ما كان لهم قبله؟ من يدري؟ بل إنهم ليكادون يدرون؛ فما يتأتى له أن يلقاهم بعدُ ويلقونه، وإنه لزوج ورب دار. . .
وتناولوه بألسنتهم وركبوه بالمزاح والدعابة، وهو يستمع إليهم مبتسماً في صمت، ثم مضى ومضوا. . .
لقد ذاق رفيق من ألوان اللذات ما ذاق، وباع في الحب واشترى، وربح وخسر، وتقلبت على عينيه مناظر لعل مثلها لم يجتمع لشاب آخر في مثل سنه؛ على أنه قد مل ذلك جميعاً وضاقت به نفسه، وحن إلى حياةٍ هادئة يحياها بين زوجٍ تحنو عليه، وولد يجدد أمله؛ فاعتزم أن يتزوج
وأتاح لرفيق ما لقي من تجارب الحياة، أن يعرف من شئون المرأة أكثر مما يعرف الشباب؛ فلم يكن تعجبه فتاة ممن رأى وعرف فيرضاها زوجة يملِّكها داره ويأتمنها على سعادته؛ إذ كان يعرف أكثر من غيره ما وراء هذه القشور التي يتزين بها النساء في مجالس الرجال تجملاً من غير جمال؛ فزاح إلى أمه العجوز يسألها أن تختار له ويصف لها ما يحب في المرأة وما يكره
وكان عجيباً من فتى مثل رفيق - رأى من رأى وعرف من عرف - أن يتوسل بأمه إلى اختيار زوجته؛ ولكن ما رأى وما عرف هو الذي دعاه إلى ذلك؛ فقد كان مما جرّب لا يثق بواحدةٍ ممن عرف؛ فراح يتوسل بأمه أن تكون سببه إلى من لم يعرف
تلك مسألة أخفاها رفيق على صحابته، ولو عرفوها لنسبوه إلى فساد الرأي وأفن التفكير؛ فما ينبغي لفتىً مثله من أبناء الجيل الجديد أن يخطب فتاةً إلى نفسها من وراء حجاب، وأن ينظر إلى زوجته بعيني أمه؛ ولكنه كان موقناً يقيناً لا شبهة فيه، أن تلك الوسيلة التي ينسبها أصحابه إلى الرجعية وفساد الرأي وأفن التفكير، هي أسدّ وأحكم من اختيار فتاةٍ كبعض من يعرف، تقلبت على أعين الشبان وتنقلت بينهم من ذراعٍ إلى ذراع كجارية النخاس!
لو أن أحداً رأى له هذا الرأي منذ سنين، لسخر منه واستهزأ به ورماه بما يرميه به صحابته اليوم؛ ولكن تجارب الحياة لا تدع لذي رأيٍ أن يثبت على رأيه إلا أن يكون أحمق ليس له رأي ولا إرادة!
وراحت أمه العجوز في حاشية من صواحبها تطرق الأبواب وتهتك الأستار لترى وتعرف وتتخير، لتعود إلى ولدها كل مساء فتقص عليه ما رأت وما عرفت؛ وكانت تعلم من شئون ولدها ما لا يجهل أحد؛ فمن ذلك كان حرصها على أن تتخير له فتحسن الاختيار؛ وعادت إليه ذات مساء تخبره:
لو رأيتها يا رفيق. . .! لها غُرة الصبح الطالع، وابتسامة الأمل المشرق، وحياء الزنبقة البيضاء تحت عيون الزهر. . . لله هي يا بني! خارَ الله لك!
وقال رفيق: وددت لو رأيتها يا أمي!
ومطّت أمه شفتيها تنكر عليه، وقالت: وددتُ يا بني، ولو أنك رأيتها ما زادت في عينيك على ما أصف؛ ولكن، من أين لك؟ ما أرى أباها يسمح يا رفيق، ولو سمح أبوها ما أطاقت هي أن تتراءى لك. . . إنها. . .
وصمت رفيق وعاوده قلق الشباب، وراح يؤامر نفسه: كيف يطيق أن يقطع برأي في المرأة التي يهم أن يشركها في عمره وما رآها؟
ثم ثابت نفسه إلى الاطمئنان والرضا رويداً رويداً، وغلبه عقله على هواه؛ فقال لنفسه: ذلك أحب إلي؛ وإن يقيني بطهارتها لأطيبُ لنفسي من اليقين بجمالها؛ وهل رضيتُ أن أخطبها من وراء حجاب إلا زهادةً في الجمال المبذول لكل ناظر؟
وذهب رفيق يتقصى خبرها ويسأل من يعرف عما لا يعرف، وأتاه جواب ما سأل؛ ولم يبق إلا أن يراها ليُبرم أمره؛ وأي حرج في ذلك؟
وعادت أمه تسعى مسعاتها بينه وبين عروسه؛ ثم عادت تحمل إليه الإذن في أن يراها يوم يقدم لها هدية الخطبة
. . . لم ينقطع رفيق عن صحابته ولم يشغله أمره عن مجلسه وإياهم كل مساء؛ فما كانت له طاقة على فراق بائن إلى غير لقاء؛ وكذلك لم يهجر ما كان من عادته وإياهم حين يتحلقون حول المائدة المستديرة على الطوار، يتجاذبون الحديث أو يتبادلون الفكاهات، أو يُتبعون أعينهم كل غادية إلى عمل أو رائحة إلى ميعاد، أو يتداعون إلى سهرة حمراء في عُش من عشاش الحب المأجور إلى أن تشيب ذؤابة الليل!
كان يعلم أنه عما قليل مفارق هذه الحياة الصاخبة التي عاش فيها عمراً من عمره؛ فلا عليه أن يتزود لما يأتي من لياليه، لا يمنعه عن ذلك ما يشغله من أمر يعد له عدته ويهيئ أسبابه. . . وتوزّعته شئونه، فنهاره تأهب واستعداد، وليله ليلُ الهوى والشباب!
أرأيت إلى الصائم يتأهب لنهارٍ ظامئ جوعان بالمائدة الحافلة بأطايب الطعام والشراب؟ كذلك كان رفيق في إسرافه على نفسه وفي غلبة هواه!
وراح يوماً لموعده فجلس يقص على صحابته من مغامراته:
(. . . وكنتُ وحدي إلى هذه المائدة أنتظر، وغاظني أنني بكّرت فلم أجد أحداً منكم آنس إليه، وتخايلت لعيني فتاة على مبعدة. . . ثم تجاوزتني ومضت؛ ومضيت في أثرها. . . . . .)
وتقصّف عليه أصحابه يستمعون إليه؛ فإنه لفارس هذا الميدان غير منازع، ومضى في قصته:
(. . . وقلت لها وهي جالسة إلى جانبي على الصخرة الناتئة والأمواج تحت أقدامنا تصفق على الشاطئ الغضبان: (إنك أول من أحببت. . .!) فنظرت إلي ساخرة وقالت: (صحيح. . .؟) ثم انفجرت إلي ساخرة ثم انفجرت ضاحكة. قلت: (وما يمنع. . .؟) قالت وتكاد تغص بضحكتها: (تلك كلمة ليست جديدة على أذني، كم مرة سمعتها قبل أن تلفظها شفتاك!)؛ وحدّقت في وجهي بعينين فيهما تصميم وإرادة، كأنما تتحداني لتبلو إرادتي، وزويت جبيني وتحوّلتُ ناحية أنظر إلى رشاش الماء يتواثب تحت أقدامنا وقلت: (ولكنك لن تسمعيها بعد، ولن أقولها!). . . ورحت أجمع طائفة من الحصى فأقذف بها الماء وأصابعي ترتعد؛ إذ لم يكن يعنيني إلا أن أثأر لكبريائي. . .
قال رفيق: وتخاذلتُ سريعاً حين رأت وجهي مصروفاً عنها؛ فدنت مني وهي تقول: (أنظر، أترى هذين الطائرين؟) ونظرتُ ونظرتْ، والتقت عينان بعينين، وشفتان بشفتين!. . . ثم. . .
قال الذي عن يمينه: ثم صحوتَ من النوم!
وعَلَت ضحكاتُ الجماعة، وسكت رفيق، ومضى أصحابه يتجاذبون الحديث. . .
. . . ودنا الموعد الذي حدّده رفيق ليلقى عروسه فيقدّم لها هدية الخطبة؛ وكأنما أحب أن يهيئ نفسه لهذا الحدث الجديد، فانقطع أياماً عن موعد أصحابه، ومضى يزوّر في نفسه الكلام الذي يلقى به خطيبته يوم يلقاها؛ أتراه كان يخشى أن يخونه بإزائها بيانه وخلابتُه وما عجز قبلها في مجلس فتاة قط؟ تُرى ماذا يقول الناس في هذا المقام؟ وتواردت على خاطره كلمات كثيرة، كلمات طالما جرى بها لسانه في مجالس الفتيات فكان لها في نفوسهن فعل السحر؛ ولكنها جميعاً على لياقتها في هذا المقام وصدقها في التعبير عن حقيقة موضعها، لم ترُق له؛ كأنما كان ينزه لسانه في خطابها أن يلقاها بكلمة لم ينطقها قط إلا كاذباً ولم يلقَ بها قط فتاةً تستحق الاحترام!
وأعجزه القول حين وجد الحاجة إليه، إذ كان كل جديد في لغة الحب الصادق قد حال في لسانه عن معناه الحقيقي إلى معنى وضيع من معاني الخداع والغش والتغرير؛ فما ثمة إلا كلام بالٍ قد أخلقه التكرار، أو كلام ساقط قد نسخه الكذب وأحاله عن معناه. . .!
وضحك رفيق حين أحس من نفسه العجز عما يريد، وخطر بباله حديث الناس عن عجز المحبين عن التعبير حين يتراءى العاشقان وجهاً لوجه وتتناجى العيون! فسأل نفسه: أتراني عشقتها؟
ثم جاء الميعاد. . .
وسبق البشيرُ يؤذن بمقدمه؛ وجلست فتاةٌ تنتظر، وفي رأسها أخيلة تتراءى وفي قلبها أمل. . .
وقال رفيق لنفسه والسيارة تقله إلى هناك: ينبغي أن تكون هي أول من أحب؛ أليس كذلك. . .؟ بلى، ومن ذا يستحق الحب غير الفتاة التي أهم أن تشركني في عُمري؟
وقالت الفتاة لنفسها وهي جالسةٌ مجلسها تنتظر: نعم، ولمن تهب الفتاة قلبها غير الشاب الذي تشركه في عمره؟
ودق الجرس، ودخل رفيق تسبقه البشرى. وعلى الكرسي المذهب في صدر غرفة الاستقبال جلس ينتظر، وكان إلى جانبه كرسيٌ خال؛ ثم انفتح الباب ودخلتْ. . .
وتراءيا وجهاً لوجه، وعرفها وعرفته. . . وهم الفتى أن يقول: (أنت أول من. . .) ثم سكت؛ وتهيأت الفتاة لتقول، ثم سكتت. . .
ودوّى في أذنيه مثلُ هدير الموج يتواثب رشاشه إلى وجهه، ودوَّى في أذنيها؛ كمجلسهما هنالك في يومٍ قريب. . . وطأطأت الفتاة رأسها في خزي، وطأطأ الفتى رأسه؛ وثقل على الفتى والفتاة موقفهما، وأحسا مواقع النظرات تأخذهما من كل جانب، فمشيا صامتين إلى مجلسيهما؛ وتبادلا نظرةً أخيرة أغنتهما عن الكلام.
ولم تتحرك شفتاه بكلمة، ولكنها سمعته يهمس في أعماقها ساخراً: (أنت أول من أحببت!!) ولم تنطق شفتاها، ولم تجب؛ ولكن صوتاً من أعماق الماضي كان يهمس في نفسه: (. . . تلك كلمة. . . كم سمعتها أذناي قبل أن تلفظها شفتاك!!)
وتحوّل وجهه إلى ناحية وهو يقول: (ولكنك لن تسمعيها بعدُ، ولن أقولها!!)
وراحت أصابعه تعبث بحبات العقد الغالي فتتناثر على البساط كأنها حصيات من رمل الساحل؛ وعاد هدير الموج يدوّي في أذنيه ويتواثب رشاشه إلى وجهه؛ ونهض، ثم اتخذ طريقه إلى الباب في صمت!. . .
محمد سعيد العريان